الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عائشة في شمس آذار: بقلم: عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 18/03/2006 ( آخر تحديث: 18/03/2006 الساعة: 17:30 )
في زمن الليلكود وكاديما والخطوات احادية الجانب وفي زمن الحرب التي لم يعد فيها شركاء، وعلى ارض مكلومة مباحة للقراصنة الذين يهاجمون سجناً في اريحا ويختطفون اسراه بعد ان يهدموه على رؤوسهم...وفي مسار خريطة طريقٍ بلا رؤيا تؤدي الى انطواء دولة اسرائيل بين جدران عالية تحرسها مئات الحواجز العسكرية والقناصين والجنود المنفلتين...وعلى مزامير البرامج الانتخابية الفولاذية في اسرائيل وقد خلت من الحوار والسلام تدق طبول الحرب والعنصرية لارهاب الاخرين وانكار وجودهم الانساني...تمكنت الاسيرة الفلسطينية عطاف عليان وبعد اضرابٍ مفتوح عن الطعام استمر ستة عشر يوماً من رؤية ابنتها الطفلة عائشة التي لم تكمل العام والنصف من عمرها بعد ان حرمت من رؤيتها طوال اعتقالها.

لم تتوقع عطاف عليان ان يكون شهر آذار مختلفاً، لم تنضج كروم التين في حقول جنرالات الحرب في تل ابيب، لم يكتشفوا البحر فأحرقوا اليابسة، فحملوا القنابل ومفاتيح القيود بدل الورود لامهاتهم في عيد الام ولنسائهم في الثامن من آذار...وكأن حلمهم التوسعي لم يعد يكفي فأشهروا السيف على عائشة الصغيرة، وقد خرجت من قماطها الابيض لتعود مشبعة بالصراخ والفزع والاسئلة.

ان تفقد الطفلة امها وحليبها وتدخل المنفى مبكراً فهذا يعني ان تتخلى عن مناغاتها وخربشاتها وان تتعود على دس اصبعها من الشيك، ان تشم رائحة الحديد والغاز، وان تنسى رويداً رويداً كلمة "ماما" ارضاء للسجان ولخطة "البواكير" التي ابتدعها موفاز في سجن اريحا، واستجابةً لتهديد ديختر بتحويل حياة الفلسطينيين الى جحيم لا يطاق...بل ان تصمت عائشة الصغيرة وتستوعب انها ولدت في جنة النسيان وانها اخر الاحياء في الصحراء....الموؤودة في وهم السلام، المسجونة في الظلال.

أُحبكِ اقتربي كالغيمة، قالت عطاف لأبنتها...اقتربي اكثر من الاسلاك لأشمك، لا تجزعي، انت لي وحدي، كنتِ لي، اربعة عشر عاماً خلف القضبان وانا استعد لهذه اللحظة، ربما الان يصدق الجلاد ان احلامنا وان تكسرت تكتمل...اضيئي ملح دمي ليصدقوا ان لي هدفا...أريني غدي في عينيك اللوزيتين ليكتشفوا ان للسجون نوافذٌ وللزنازين اقمارٌ تتجلى في السماء..

قولي لهم يا عائشة بأنك تتابعي اغنيتي على شمس آذار، وان الامن والسيطرة والقوة لا تلغي احتفال اللوز والماء والتراب، هي شجرة لا غربية ولا شرقية، هي امي في سورة الرحمن والتين والزيتون وانا الان في حضرة المعراج اقرأ على العالمين وثيقة الاستقلال..

على شبك الزيارة تعرفت عائشة على الاسيرات اسراء مازن 15 عام وهبة يغمور 12 عام وفريال جعارة 17 عام واستمعت الى شكواهن حول تعرض الاسيرات لضغوطات نفسية وتدهور خطير في وضعهن المعيشي والانساني، غرف ضيقة، لا شمس ولا هواء بسبب الاغلاق المستمر للشبابيك، وانتشار الصراصير والرطوبة والروائح الكريهة...وتعرض الاسيرات للضرب والاذلال والعزل والاهمال الصحي، لا رسالة تصل، ولا صورة، لا قلم ولا كتاب، ولا قرار..

مائة وعشرون انثى في السجن يعبرن بين البرق والنشيد وعائشة تحمل آذار كله في فستانها الصغير وفاكهة من رام الله تشبه اغنية تبحث عن المسافة بين الشاهد والشهيد:
شاهدتُ دولة اسرائيل تسعى لالغاء تقرير صادر عن الامم المتحدة يتهم جنود الاحتلال والمستوطنين بممارسة العنف الجنسي ضد الفتيات الفلسطينيات على الحواجز.

شاهدت انوار محمد الرفاعي من بلدة عناتا تنجب طفلتها البكر "دارين" على الحاجز العسكري المقام على مدخل مخيم شعفاط بعد ان رفض الجنود السماح لها بالمرور..

شاهدتُ امرأة من قرية سالم (ام غانم) تحتضن شجرة زيتون كأنها ام شهيد عندما داهمت الجرافات الاسرائيلية ارضها لاقتلاع اشجار الزيتون..

شاهدت نساء الاغوار في الثامن من اذار يحتفلن بطرقهن الخاصة بالزراعة والانتاج...يعدن من مشوارهن الجبلي لتصنيع الالبان، وحلب الاغنام واطعام القطيع قبل ان تشرق الشمسُ ويحتفل الناس بالنهار..

شاهدتُ الطفلة سوسن ابو تركي الاسيرة المحررة المصابة برصاص الاحتلال في قدمها تركض في مستشفى الجمعية العربية تعاني من اعراض نفسية جراء التعذيب والاصابة تنتظرُ من أي احدٍ ان يزورها....

شاهدتُ الطفل نور اصغر اسير فلسطيني ولد داخل السجن يمسك بثوب امه...يرفض الانفصال عنها يتمنى لو انه لم يولد...

شاهدتُ اسيراً من سجن النقب، سألني: يا عائشة ما الفرق بين الرمل والغمام...؟

شاهدت رائدة الشريف من مخيم الدهيشة كيف اصابها الجزع وتساقط شعرها وفقدت النطق عندما داهم الجنود منزلهم واطلقوا الكلاب المتوحشة عليها داخل البيت...

شاهدتُ ام احمد تبيع النعنع في باب الخليل يعتقلها الجنود يدعسون على النعنع الاخضر امام القدس والسور ولم يصغي لها آذار والمحقق الاجنبي في المسكوبية...

شاهدت امي تنفض الجوع...وجهها شاحب بسبب الاضراب...قالت: اقتربي يا عائشة، اقتربي كالغيمة، اريني غدي كرائحة الزعتر في آذار...

لا ترتعشي لأن دولة تضع نظاماً عسكرياً وامنياً لمنع طفلةٍ من رؤية امها وتغرق في دمنا تخاف من عينينكِ وتخشى من سؤال المستقبل على شفتيك، دولة كهذه ذاهبة الى الانطواء والجفاف ليس لها ابناء...غير قادرة على اكتشاف ارضها وحدودها، لا تحتفل بعيد ميلادها...ليس لها آذار...كل ما حولها خرافة وقلق....

اريني يا عائشة غدي...ودلي السجان على نبيه الضائع في التيه...