الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

شعث في الحزب الأشقى! وإلى أين فتح؟ بقلم :د. جمال نزال

نشر بتاريخ: 19/03/2006 ( آخر تحديث: 19/03/2006 الساعة: 17:17 )
كان يمكن لشعث أن يكون الأن منهمكا بتشكيل حكومة فلسطينية مؤتلف جمعها مع المستقلين. وهو الذي سبق ورفض أن يرئس حكومة انتقالية يوم كان ابو العلاء على رأس لائحة حركة فتح. وبرغم ذلك نرى أنه لا الإنتخابات ولا نتائجها تقرر مصائر البشر, ولكنها تضع المتأثرين بها في مسارات جديدة تديرهم بفلك جديد لغايات قد لا يستبان سرها على الفور.

لم يدر بخلدي إذ شاركت مرة باجتماع نائب رئيس الوزراء الفلسطيني كمستشار لشؤن الإعلام أواسط تشرين الثاني الماضي مع وزير خارجية الظل الأسترالي أن سيكون للزائر فرصة للعودة يوما بوصفه وزير خارجية حقيقي ونحن فريق حكومة ظل!

بداية المعرفه:

وكان في الرابع والعشرين من تموز الماضي أن استدعاني الرئيس الفلسطيني بعد عودتي من ألمانيا وظننته سيعلق على ظهوري (الذي شهده) بمناظرة تلفزيونية شاركت فيها عقب استقالته من رئاسة الوزراء, ودافعت فيها عن رئيس وزراء لا نستحقه أطل قبل وقته بحقبة أو اثنتين ثم استقال.

لماذا يستدعي الرئيس خريجا أقام في الخارج ثلث عمره؟ لقد راعني لدى اجتياز ردهات الجناح الرئاسي بالمقاطعة ذاك اللون القرمزي للسجاد فاقع الحمرة مفروشا هناك, وخطر للطفل من نفسي أن اتمرغ عليه مرة أو اثنتين مودعا خشية أن تكون زيارتي الأولى "للقصر" الرئاسي اخر عهدي بأضواء جناح الرئيس.

انتظرت قليلا بصحبة احد اصدقاء الرئيس الذي رافقني الى هناك وما لبث أن دخل الرئيس ابو مازن بإطلالته الملكية وتواضعه الشديد ولاحظت على الفور أنه "لبًيس ذويق" يعي اهمية البدلة الكحلية لشعره الأبيض. وخلته ابهى رؤساء العالم مع مراعاة تحيزي الفلسطيني للمضمون.

بادرني الرئيس فعلا باستذكاره تلك المناظرة ( وتاريخها 12 تشرين الأول 2004). ثم قدمني إلى نبيل شعث مثنيا على ادائي فيها ثناء كاد السجاد الأحمر معه أن يطير بي من الشباك مستعجلا بي من هناك خشية أن يقال بعدها ما يمسح من أذنيً أثر الثناء. ثم استأذن الرئيس بسبب اتصال من رئيس دولة الإمارات وجلس إلي عقبها وزير الإعلام الذي بدا شديد الإهتمام بموضوع اطروحتي الدكتوراه وما يتصل منها بالإعلام الفلسطيني.

وبدأ يوجه لي اسئلة عن ارضيتها النظريه وانماط نظم الإعلام التي تعرضت لذكرها في سياق الإطروحة كمقياس لتصنيف نظام الإعلام الفلسطيني. ولم أع بعد أن نائب رئيس الوزراء كان يقضي معي ساعة " رب العمل المتسوق" إلى أن وقعت عيناي على صفحات من سيرتي الذاتية بين يديه وقد وضع احدهم عليها دائرة حول عام 1971 تاريخ ميلادي وعلامة تعجب على سنة 2005 تاريخ نشر كتابي الثاني حول الإعلام - وأنا الذي ظننت أننا في دردشة عابرة ريثما يعود الرئيس! عندئذ همس شيئ في أذني ما مضمونه أن "أكلت هواء فقم!". ومضى د. نبيل شعث يحاورني في الإعلام مبديا إعجابه بالنموذج الفرنسي ولم يكن لي سابق علم بانه متعمق في الإعلام إلى هذا الحد.

وقد فهمت من كلامه أن الرئيس كلفه أن يجعل من ساحة الإعلام الفلسطيني ورشة عمل عملاقة اساسها وضع اربعة قوانين اعلامية جديدة تغير كل شيئ. وقليلا قليلا بدأ يستيقظ حماسي على ذكر الإصلاح القانوني وأنا على علم بأن هشاشة الإرضية القانونية هي علة العلل بشأن تردي حال الأعلام في بلادنا. توقف نقاشنا للحظة إذ عاد الرئيس بابتسامة عريضة تعلو وجهه وطلب من وزير الإعلام بلهجة المتحدث من بوق أن يبلغ كافة وسائل إعلامنا نبأ تبرع رئيس دولة الإمارات بمائة مليون دولار لبناء مدينة بحالها في غزة. ثم تحدث الرئيس (وكأنه قد حدد عنواني في المدينة الجديدة!) قائلا للدكتور نبيل: انظر وأنت بصدد تنفيذ اصلاحاتنا في الإعلام الفلسطيني ما يستطيع أن ينفعنا به الدكتور جمال.

ومرة اخرى نظرت للسجاد وبحثت في تلاوينه عن انعكاس ما لابتسامة عملت جهدي لإخفائها. وعجبت إذذاك بما إن كان وزير الإعلام "نبيل هذا" قد قرأ مقالتي في القدس العربي عام 93 وعنوانها" ديبلوماسية القهقهة" وفيها كنت انتقدت (ولم نكن قد تعودنا بعد على منظر المصافحات الفلسطينية- الإسرائيلية) عادة الإفراط في الإبتسام اثناء لقاء ات مسؤولينا مع الإسرائيليين.

علاقة عمل:

في اليوم الأول لعملي كمستشار لنائب رئيس الوزاء بصفته وزير الإعلام بدأت اتحسس مقدار الفرق بين صورة الشخصية العامة في الإعلام وما يبدو للعين من أمرها على أنه حقيقتها المعاينة بالتجربة.

فمن ظننته عن بعد مجرد متحدث لبق هو في حقيقة الأمر مفكر واسع الإطلاع ذو عقلية مركبة مصقولة بتلاقح ثقافات أمكنةٍ عايشها بعمق وتحسس تناقضاتها وأدرك ما خفي من قواسمها المشتركة بما أغنى تجربته وعزز إالمامه المعرفي بوصف عز مثيله في دنيا السياسة.

فنبيل شعث عاش في أماكن متفرقة من فلسطين بحقب متباعدة من تاريخها ودرس في مصر والولايات المتحدة وتردد على تونس عشرات المرات. يتحدث لغات أربع ويتقن اللهجة المصرية. امه من لبنان وأبوه المرحوم علي شعث من ابرز مربي الأجيال في عصره. وهو الولد الوحيد لأبوين متعددي البنات. ولذلك صلة بطبعه اللين وقدرته على وصل القلوب وعجزه عن الكراهية.

عندما يتحدث السياسي شعث ينطق لسانه بصوت مفكر قمعته السياسة. وعندما يتحدث المثقف شعث يكون السجين تحرر لدقائق من سطوة السياسي المغتسل مواهبه بعصارة المراحل كلها.

في الستينات كان شعث حلقة وصل بين السادات (قبل توليه رئاسة الجمهورية) وبين ياسر عرفات قبل التكريس الفعلي لرئاسته منظمة التحرير الفلسطينيه. وفي 2006 يجلس مع وزراء خارجية الدول العظمي يستمعون إليه كالتلاميذ مسهبا وشارحا بلسان غربي طليق يأتمر لعقل مطلع بعمق على فلسفة الفكر الغربي بتعبيراته الأدبية والفنية.

من يوميات العمل:

عندما جاء فرانكو فيني وزير خارجية ايطاليا البندوق للإجتماع بشعث كانت أواخر رمضان وكان الصيام ينال من المسؤول الفلسطيني شيئا من الحيوية :أنها "ضريبة الإيمان". كان من الصعب إقناع فيني أن يتناول طعام العشاء في الخامسة ومن الصعب على شعث ساعة الإفطار المنتظر أن ينخرط بنقاش سياسي في اجتماعه الثاني بفيني ذالك اليوم.

لقد رأيت شعث يحتل دور النجم في كل اجتماع له مع المسؤلين العالميين. لكن فيني كان لئيما وفي جعبته ألف ومئة سؤال يدون إجابات الطرف الفلسطيني عليها كما لو أنه التحقيق. ولم تكن كلها لأغراض الإستعمال الإيطالي وإنما كأنه يطرحها نيابة عن حليف ما.

وكان شعث الصائم يجيب بعمق عن كل شيئ. ثم سأله فيني لماذا يبدو أن الدول العربية خجولة الى هذا الحد كلما تعلق الأمر بإقامة علاقات مع الحكومة العراقية؟ كان السؤال يهدف إالى قياس الموقف الفلسطيني من احتلال العراق بغية توثيق أو ضحد فرضية عدائنا لسياسات الولايات المتحدة. عندها نظر إلي مفيد الشامي مدير مكتب شعث وقرأت في عينيه صلاة: "الله يستر من الإجابة التاليه!". وجاءت الإجابة من باطن فكري أعمق مما تنبأ به عقل المستمعين اذ سرد المسؤول الفلسطيني لائحة بأسماء دول عربية قتل ديبلوماسيوها أو اختطفوا في العراق ومن بينها فلسطين.

وفي اجتماع مع مسؤول استرالي سأله الزائر في الدقيقة السبعين للإجتماع عن ابرز الفروق الأيديولوجية بين فتح وحماس فتحدث من غير طول تفكر أو استذكار عن موقف حماس من حقوق المرأة ومن الديمقراطية والتعددية والنظام البنكي وحرية التعبير والفن وكأنه كان يتوقع السؤال.

ثم جاءت الحملة الأنتخابية لفتح وكان كل يوم من أيامها كواحد من ايام النشور او هجرة الطيور لكل من زار مقر الحملة في عين مصباح. وعندما استقال د. حسن أبو لبدة من رئاسة الحملة كان المتجر فارغا والعيد على الأبواب وكل شيئ متأخر عن موعده.

لم يكن أحد يتصور شيئا غير فوز فتح. وجاء وزير خارجية اسبانيا لمقر الحملة في اسبوعها الأخير وكان على راس وفد عريض. وبدأ التداول وكل النقاش يجري على فرضية أن فتحنا ستفوز.

وقبل انتهاء الساعة الاولى للإجتماع مررت للدكتور نبيل عبر الأخ أحمد عباس الذي كان يجلس يبننا قصاصة ورق مكتوب عليها أن اسألهم ماذا بهم فاعلون لو فازت حماس. و مضت دقائق وهو يتحدث محضرا المستمعين لطرح سؤاله ثم توقف بتؤدة كالسائق المسن لإنزال راكب ثقيل الظل وتنفس ثم قال لميغيل موراتينوس: "ما هو رد فعلكم لو فازت حماس؟". ولم يتردد الضيف - إذ عبس- في التأكيد أن ردة فعل الإتحاد الأوروبي ستكون سلبية للغاية. ولحظة طرح السؤال علت ابتسامة الواثق وجوه اعضاء الوفد الفلسطيني كما لو أن رئيسهم قصد المزاح.

يوم الإستفاقة المزعجه:

شهران مضيا منذئذ و"عزيز دويك" هو اسم رئيس المجلس التشريعي لحماس وتوقف الإتحاد الاوروبي عن الدفع. فتح ملقاة على الأرض تحدق بأوراق شجر متطايرة وعباد الشمس مطأطئ الرأس كسلان. ولحماس فريق ناطقين سباعي عتاة شبابا لا شيب بينهم ورئيس حكومة عمره 42 عاما فقط وله 13من البنين والبنات وحركته على موعد مع فوز انتخابي جديد في الجولة الخامسة من الإنتخابات البلديه القادمة. لا توجد إشارة "قف" في مدينة " فتح".

"كتيلة" فتح في المجلس التشريعي ستكون الأن أمام تحدي وامتحان الهوية في مواجهة كتلة حماس التي ترى دورها في التشريع من" وحي كتاب الله وسنة رسوله" ورسالتها في" إعلاء كلمة الحق"!!! ورسالة المعارضة تنحصر وفق هذه المعادلة الظالمة في التصدي لكل ذلك بعد حجز تذكرة الى الجحيم.

هل فتح بعقليتها القبلية جاهزة لهذا العراك الذي خسرت أهم جولاته وهي على صهوة جواد السلطة؟ هل نحن مجهزون للمقارعة الثقافية مع خط حماس ونحن كتائب مشاة بلا جياد ولا سلطة؟

قد تستفيد فتح من حذق رئيس كتلتها وحسن اطلاعه على قوانين العمل البرلماني. وقد يكون لحضور دحلان وما يحيط به نفسه من هالة مساهمة في رفع معنويات الكتلة ورص صفوفها.

وقد يكون لنا في نجاة ابو بكر مفاجأة سارة في يوم ماطر. ولكن اذا لم يطلق شعث عنان المفكر- المنظر من عقال السياسي في شخصه فإن كتلة فتح في المجلس التشريعي ستكون في خريف فكري ومحل سياسي الى أن يقضي الله لها أمرا.

ففتح هذه تحتاج لتعريف جديد لنفسها. ما معنى فتح اليوم؟ ولماذا فتح اليوم؟ وكيف سنوضح رسالة: "بل فتح!"؟ ما خطر اعتقال السياسة في سجن الدين؟ ما خطر التحدث باسم الدين على من يريد التحدث باسم المجتمع ككل؟

لماذا يتحالف شركاؤنا ذوو التوجه الوطني (غير الديني) مع خصومنا الذين يعتبرونهم خارجين عن الدين؟ ثمة شمعة واحدة لإضاءة طريق الفكرة بكتلة فتح من جديد . تلك شمعة يحملها (في من يحملها) برلماني موهوب. هذه الشمعة تختبئ تحت صلعة رجل من فتح المخضرمه.

فيا اخي الدكتور نبيل! ما خلت أن أوان التقاعد حل بعد. وأراك ستساهم بتزويدنا بما يكفل مساعدتنا على معاودة تبوء مكانة خيار انتخابي جدير- كناه ذات يوم! فالناس لبعضها وهذه اخر المشورات ودمتم.

مستشارنائب رئيس الوزراء - وزير الإعلام السابق