الجمعة: 29/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

"أشباح" الأنفاق يموتون مقابل 50 دولاراً أو أقل

نشر بتاريخ: 29/07/2009 ( آخر تحديث: 30/07/2009 الساعة: 09:21 )
غزة- تحقيق معا- "ايمن ابو سمك مات امس، انخنق جوا النفق، لا حول ولا قوة إلا بالله"، يومان ويصبح موت ابو سمك طي النسيان، لأن آخرين بلغوا مائة أو أكثر سبقوه، وآخرين سيلتحقوا به، إما اختناقاً أو احتراقاً أو تماساً مع الكهرباء والماء.

سيكون أبو سمك وسبعة عثر على أجسادهم متفحمة قبل يومين ناقوساً يدق منبئاً بالخطر الكامن تحت الأرض في مهنة "يقترفها" شبان صغار السن، يبحثون عن لقمة العيش بين الكثبان الرملية الساخنة، سيحفرون ويحفرون إلى أن يصلوا مصر أو قد لا يصلوا فيكون الموت حليفاً لأكثرهم، الحديث مع الناجين أصعب من الحديث لذوي الضحايا، لأن الناجين إما استنكفوا هذه المغامرة الخطرة أو عادوا للبحث عن الرزق في نفق غير الذي انهار بهم.

"محمد. ص" يكاد يبلغ الخامسة والعشرين كان يعمل في أحد أنفاق رفح في سحب العجول والخراف من آخر النفق قبل ثلاثة أيام، فجأة شعر محمد بالإرهاق فطلب إذنا من صاحب النفق بالمغادرة وكان له ما أراد، في صبيحة اليوم التالي جاء الخبر لمحمد "زملاؤك في النفق الستة انهار بهم النفق وماتوا جميعا".

مهنة يحفها الموت من كل جانب خاصة حين يعلم العاملون بالنفق الأرضي أن فوقهم نفق آخر وأسفل منهم ثالث، وهنا تكمن الأخطار فربما ينهار النفق الأول على الثاني والثالث فيضيع " كبشة" من العاملين، وربما يسرب النفق الثاني مادة غير معروفة أو وقوداً فيحرق من هم بالأسفل إن حدثت شرارة واحدة.

لم تكن نجاة "محمد. ص" من الموت قبل ايام ثلاثة مانعة من بحثه عن نفق آخر للعمل والسبب واضح "لا فرص عمل للشباب في قطاع غزة بفعل الحصار وتوقف عجلة الاقتصاد"، خاصة ان محمد مقبل على الزواج ولا يمتلك في جيبه شيقلا واحدا وبالطبع مثله الكثيرون.

اقل من 50 دولار

عندما بدأ العمل في الأنفاق كما يقول صاحب النفق "أ. ز" كان الشباب يتخوفون من تجربة النزول إلى أسفل رغم دفع التجار وأصحاب الأنفاق مبلغا يصل إلى 100 دولار أميركي بالليلة، ولكن حين أصبحت الأنفاق مصدراً وحيداً للعمل لشباب القطاع انخفض الأجر ليصل إلى 200 شيقل أو أقل، وكل وظيفة لها أجر مختلف.

تتراوح المهام بين الحفر والسحب وتوصيل الكهرباء والماء، ويتقاضى العامل تحت الأرض لمدة عشر ساعات مبلغاً لا يقل عن 50 دولاراً أميركياً وقد يزيد المبلغ حسب طبيعة المهمة أو يقل حسب عدد ساعات العمل رغم ظروف العمل غير الطبيعية.

مؤخراً سقط أحد الفتية ضحية تسلمه مهمة لا يتقنها داخل النفق، فقد طلب منه توصيل الكهرباء داخل النفق وبشرارة واحدة "صعقة" التحق بغيره من الشبان الذين لم يجدوا مكاناً لكسب قوتهم سوى ما تعرضه هذه الأنفاق التي تتراجع حيناً وتنمو حينا آخر وقيل أن عددها يتجاوز اليوم 800 نفق رغم انهيار عدد كبير منها وبشكل يومي.

عشرة آلاف شيقل

هذا المبلغ ليس ما يتقاضاه العامل الفقير تحت الأرض فهو لا يعمل في منجم ذهب، الحرارة المرتفعة تسخن الرمال وكأنهم يعملون بالفحم المحترق، يهربون كل شيء من الجانب المصري إلى قطاع غزة من الأجهزة الكهربائية وقطع السيارات والأنعام حتى جبنة البقرات الثلاث الصغيرة إلى قطع الشيكولاتة للأطفال وبالونات التسلية.

بلدية رفح التي توصف بأنها الأغنى بين بلديات القطاع تتقاضى من أصحاب الأنفاق عشرة آلاف شيقل مقابل تقديم الخدمات اللوجستية من آلات الحفر والسحب حتى آلات إنقاذ العاملين فيما اذا انهار النفق.

نائب رئيس بلدية رفح جابر قشطة نفى أن يكون هذا المبلغ مقابل ترخيص الأنفاق بل لتقديم الخدمات من البلدية لأصحاب النفق، مضيفا "الأنفاق ظاهرة غير طبيعية ولكنها ضرورية في ظل الحصار المفروض على القطاع وأصبحت مصدر الدخل شبه الوحيد لغزة"، مشيرا إلى أنها مرتبطة بشكل كامل بفتح المعابر فإن تم فتح المعابر فليس هناك حاجة لها.

صاحب محل تجاري وسط مدينة غزة قال لـ "معا": "نربح بضعة شواقل عن كل قطعة مهربة من النفق للقطاع ولكن من يربح ملايين الدولارات هم أصحاب الأنفاق وتجار الأنفاق".

100ضحية

الحيرة تنتاب الشارع الفلسطيني في إطلاق التسمية على من يلقون مصرعهم تحت الأرض، الأخبار اليومية تشير إلى ان عدد ضحايا الأنفاق تجاوز المائة والعشرين ولكن وفقا لإحصائية مركز الميزان لحقوق الإنسان فإن عدد الضحايا بلغ 100، 39 منهم بالعام الجاري، عدا عن 121 مصابا منذ عام 2006.

وإذا ما كان إغلاق هذه الأنفاق غير ممكناً فإن اتخاذ تدابير الحماية والسلامة واجبة على الحكومة العاملة في قطاع غزة كما قال مركز الميزان في بيان صحفي له مؤخراً.

تجمع اهالي ضحايا الأنفاق طالب مؤخراً بإغلاق كل نفق بنيته ضعيفة وسقوطه متوقعاً، مشيرا إلى ما قال عنه استغلال بعض مالكي الأنفاق للأطفال دون الثامنة عشر للعمل داخل النفق بمبالغ مالية بسيطة دون توفير أدنى إجراء لحمايتهم، مطالبا الحكومة بإجراءات رقابة على ملاك الأنفاق.

الخبير الاقتصادي عمر شعبان يعتبر انه لا يمكن إيجاد حل لظاهرة توجه الشبان وأرباب الأسر للعمل بالأنفاق سوى بفك الحصار وفتح المعابر مشيرا إلى أن الحصار وفقدان فرص العمل هي التي تدفع هؤلاء للعمل تحت الأرض رغم المخاطر المحتملة.

وحسب شعبان فإن الحصار الذي بدأ منذ عامين ونصف والحرب على غزة وتدمير البنية التحتية رفعت معدل البطالة إلى 80% والفقر يكاد يبلغ 85% وبالتالي انخفاض مستويات المعيشة وهو ما يدفع الشبان لعمل بالنفاق.

ويعزي الخبير الاقتصادي تدني الأجور إلى المنافسة بين أصحاب الأنفاق وتزايد أعداد المقبلين على هذه المهنة في ظل توقف اكبر قطاعين اقتصاديين يستوعبان الأيدي العاملة بالقطاع وهما قطاعا الإنشاءات والنسيج والخياطة.

أما أصحاب الأنفاق وملاكها فإن شعبان لا يشكك بأنهم يحصلون على مبالغ كبيرة جراء امتلاكهم لهذه الأنفاق وهذه التجارة التي يصفها بأنه غير شرعية إلا أنها كما يقول أصبحت المجال الوحيد لفرص العمل.