في عيد الام: صفية الفلسطينية.. حكايات في شريط الذكريات
نشر بتاريخ: 21/03/2006 ( آخر تحديث: 02/03/2009 الساعة: 00:49 )
بيت لحم- معا -محمد عبد النبي اللحام - يحتفل العالم بعيد آلام تلك الإنسان الذي باركه الله ورسله وهي تشكّل رمزا للتضحية والصبر والمعاناة و مصدرا للإلهام والفنانين والمثقفين والشعراء والأدباء ، فمن مكسيم غورغي لمحمود درويش للطاهر وطار لناظم حكمت وصولاً لمارسيل خليفة وشادية وغيرهم الكثير .
وإذا كانت آلام عند أولئك المبدعين مادة للإبداع والتعبير فقد كانت صفية الفلسطينية مادة ترتسم بها كل آهات أمهات العالم الحاضر منها والغائب لما عايشته وشاهدته.
تزوجت صفية وهي في الرابعة عشرة من عمرها ، ولا تذكر في آي عام ولدت . فلم يكن هناك شهادات للميلاد في البلاد على حد قولها وتقول:" كنا نسكن قرية اسمها بيت عطاب وهي قريبة من القدس وفجأة قالوا ان اليهود قتلوا الناس في دير ياسين " وبدهم يكملوا على باقي البلاد " .وما كان امامنا غير أن نحمل كل أغراضنا ونطلع في الحافلات ونهرب قبل ما يصل النا اليهود ... والله يا بني ما شفنا يهود ولا غيرهم بس سمعنا فيهم من الجنود العرب اللي كانوا حول قريتنا" وتكمل ام جميل روايتها كأم فلسطينية وكيف وصل بهم الحال إلى أمام كنيسة المهد ليمكثوا هناك فترة محتمين ببيت الله عساه ينقذهم من بطش اليهود.
بعدها وجد زوجها عملاً في كسّارة حجارة لدى أحد الأشخاص بالقرب من بيت جالا وعمل عنده مقابل السكن في غرفة تابعة للكسارة واجر زهيد حيث أنجبت صفية ابنها البكر في الكسارة وليستقر بهم الحال في مخيم عايدة للاجئين بالقرب من بيت لحم ... ولم تمض سنوات حتى حلت النكسة عام 1967 بعد أن كانت نكبة الشعب الفلسطيني عام 48.
لدى آم جميل من الأولاد سبعة ، في عام 1975 بدأ مسلسل الآهات والدموع والقيد والدم يتجدد معها حين جاء جيش الاحتلال والمخابرات الإسرائيلية ليحاصروا المنزل الصغير في زقاق المخيم ويطرقوا الأبواب وتهرع لابنها البكر جميل في محاولة لإخفائه ولكن هيهات ، وتزداد الطرقات ويكسر الجيش باب غرفة وكالة الغوث الهش ويدخلون وتحل المفاجأة عندما يكون المطلوب ابنتها البكر سمية وليس أحدا من الأولاد لتتعاظم الصدمة فما الذي يدفعهم لاعتقال الفتاة الكبيرة ابنة العشرين ربيعاً ؟
سميّة حكم عليها بالسجن خمسة عشر عاما في المحاكم الإسرائيلية بتهمة تفجير عبوة ناسفة في موقف باصات باب الخليل وسط القدس ، وتشاء الأقدار ان تخرج من المعتقل عام 1979 على اثر تبادل آسري جرى في حينه لتتزوج في نفس العام من ابن الجيران الذي تعلق بها وأخذها شريكة لعمره على آمل ان تدوم الشراكة ولم يكن يعرف ماذا تخبئ له الأقدار في هذا المشوار.
وما ان فاقت صفية من وجع سمية حتى عادت لوجع ابنها صامد الذي كانت أنجبته بعد نكسة 1967 فقد التحق بحركة فتح وحكم عليه بالسجن لمدة ستة أعوام بتهمة مقاومة الاحتلال والقاء زجاجات حارقة على دورياته.
وفي نهاية عام 1990 وبينما كانت صفية تنتظر الشهور الباقية لعودة صامد من سجنه ، كانت ابنتها الثانية آمل وهي النشطة في الشبيبة التابعة لفتح أيضا... تخرج وتسير على درب شقيقتها سمية متوجهة للقدس وتضع عبوة ناسفة في إحدى الأسواق ولكن قضاء الله وقدره أن تنفجر العبوة أثناء أعدادها ا وقبل مغادرتها للمكان لتعود آمل للمخيم محمولة على الأكتاف وهي التي لم يمض على زواجها اكثر من شهرين وتزف للمرة الثانية في موكب مهيب كعروس لفلسطين في ليلة انطلاقة الثورة .
وصفية صامدة تتابع وتجاعيد وجهها ترسم خارطة الوطن وآهاته ووجعه وتودع آمل بكل ما خلق الله من دموع على آمل أن تكون آمل خاتمة الدموع ، قبيل الإفراج عن صامد وقف شقيقه الصغير عبد الفتاح في المحكمة الإسرائيلية لتحكم عليه بالسجن لمدة عشرة أعوام بعد أن كان قد أمضى حوالي العامين مع بداية الانتفاضة عام 1987 .
خرج صامد من السجن واستقبلته صفيه بعد أن ودعت آمل وودعت زوجها أبو جميل الذي تجرٌع الحسرات ولم يصمد أمام الجمرات والآهات ليلاقي وجه ربه وهو مرتاح الضمير ... تزوج صامد وخرج عبد بعد عشرة أعوام ولم يدم الاستقرار وتندلع انتفاضة الأقصى ويلتحق صامد الذي اصبح ضابطاً في الآمن الوقائي بالمقاومة ويصاب بشظية كادت أن تودي بحياته لقربها من القلب .
وتهرع صفية لمستشفى بيت جالا وتلطم على باب غرفة العمليات إلى أن طمأنها الأطباء أن الخطر زال ورغم زوال الخطر عن قلب صامد فإن محبة فلسطين لم تزول من قلبه وليعود التاريخ إلى اكثر من 55 عاما عندما لجأ صامد ورفاقه إلى كنيسة المهد في محاولة للاحتماء بها من بطش جيش الاحتلال الذي حاصر بيت لحم وكنيسة الله حيث قتل العديد من الشبان داخل الكنيسة وبعد 40 يوما توصلت الأطراف إلى حل أزمة المحاصرين وابعادهم الى قطاع غزة وهناك حرم صامد من مشاهدة صفية ولم يعد بمقدوره حتى اليوم مشاهدتها ويكتفي بالحديث معها عبر الهاتف.
شادي هو الابن البكر لسمية والذي رضع حليبها ليس غذائياً فحسب بل فكراً وممارسة وليمتشق السلاح امام جدته صفيه التي قالت له يوماً" أنت صغير يا شادي على هالحكي .. ونظر لها وابتسم وقال أنتي كبيرة ياستي".
شادي اليوم في المعتقل يمضي حكما بالسجن لمدة خمسة أعوام ونصف بتهمة المقاومة والانتماء لحركة فتح وبتاريخ 2003/8/30 ذهبت سمية ( ام شادي ) لمستشفى المقاصد في القدس للعلاج من وجع في القلب الذي أرهقه الانتظار وأتعبته الآهات ، ولكن مشيئة الله مرة أخرى كانت هي الفيصل في أن يقف قلب آم شادي أثناء العملية لتفارق الحياة ويخرج الشبان الصغار مرة أخري في أزقة المخيم ويلصقون صورتها كشهيدة للقيد والصبر بجانب ما تبقى من صور شقيقتها الشهيدة أمل التي ما زالت على الجدران.
وهنا كانت كل العيون تتجه لصفية التي لم تستوعب ما جرى ولا تريد أن تستوعب حتى اللحظة وعلى مدار شهور طويلة وعند ساعات المساء يذهب عبد او محمود او محمد او جميل ليجلبها من المقبرة التي أضحت عنوانا لها تحج اليه وتخاطب قبر آمل وقبر سمية حتى اخذ منها الإعياء والتعب وتنقل للمستشفى في حالة صعبة ...زرتها في البيت مساء 20.3.2006وقلت لها أريد أن أسألك سؤالا ولكني خائف من إن تبكي .
فقالت وهل البكاء جديد علي ...فقلت ماذا يعني لك عيد ألام ...وبدون تردد وبتلقائية سحبت طرف منديلها ومسحت الدموع التي بدأت تنهمر وكأنها نهر الذكريات.
هذه ليست قصة سينمائية ولا فيلم هندي انها قصة صفية ..قصة آلاف الأمهات الفلسطينيات قصة آم فلسطينية لا تنتظر عيد آلام وقد لا تعرف به فالظروف حرمتها من أن تنتظر هدية أو عيديه...فما كان من أيامها العجاف حرم عليها حتى الفرحة والبسمة...
فبآي حال عدت يا عيد..