الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

حتى لا تتحول منظمة التحرير إلى قميص عثمان/بقلم :أ.د. يحيى جبر

نشر بتاريخ: 25/03/2006 ( آخر تحديث: 25/03/2006 الساعة: 15:54 )

أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية في أواسط الستينات من القرن الماضي، بمباركة عربية، وقبل احتلال ما كان من فلسطين في عهدة الأردن ومصر ( أو ما عرف باسم الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة)، بهدف تحرير ما كان محتلا من فلسطين عام 1948 استنادا إلى ما يحمله اسمها، وإلى ما جاء في ميثاقها؛ تأسست من تنظيمات كانت قائمة آنذاك ومن تنظيمات أخرى لحقت بها، وتزعمها المرحوم أحمد الشقيري، ولكن ما لبث محركو العرائس على الساحة الدولية حتى خلطوا الأوراق باحتلال بقية فلسطين.

فبادر الفلسطينيون إلى تصعيد النضال ضد المحتلين، ولم يهتم الناس كثيرا بالبرامج السياسية التي كان يطرحها هذا الفصيل أو ذاك ما دامت جميعا تنادي بالتحرير والعودة، ولم تقصّر الجماهير في رفد تلك التنظيمات ومدّها بالمال والرجال حتى فرضت نفسها على الساحة العربية والدولية، ولم يكن قول عبد الناصر في حق الثورة الفلسطينية بعد هزيمة النظام العربي عام 1967: إن المقاومة الفلسطينية أنبل ظاهرة..، إلا لأنها أنقذت الأمة من هزيمة نفسية عمت بلاد العرب كافة.

ولكن النظام العربي المهزوم لم يتعامل مع المستجدات بما تقتضيه من وحدة واستعداد، فيد المستعمر لم تكن قد توقفت عن الكيد لهذه الأمة بل إنها ما تزال تحيك المؤامرات إلى اليوم بما تمتلكه من أساليب وقدرة على تغيير الوجوه والحجج والمبررات والأدوات.

كان هناك معسكر همه المحافظة على تثبيت نفسه بأي ثمن، حتى لو كان التعامل المباشر مع المحتل والقوى الاستعمارية، ومعسكر يرفع راية الثورة دون وعي بعوامل التغير الاجتماعي التي كان الوطن العربي، وما يزال، يشهد آثارها تتصاعد يوما بعد يوم، أعني المد الإسلامي، ولكن يبدو أن المعسكر الاشتراكي بمواقفه الداعمة للقضايا العربية آنذاك كان قادرا على استقطاب عدة دول عربية، وكان كثير من الصراعات الداخلية في الوطن العربي صورة أخرى من صراعات المناذرة والغساسنة، نيابة عن الفرس والروم، نيابة عن الشرق والغرب، في الوقت الذي كان الطرفان يتواطآن فيه أحيانا على العرب لتحقيق مصالحهم، وقد نُذكّر هنا بما كان من شأن بريطانيا حين انسحبت من جنوب اليمن إذ لم تسلم الحكم للجبهة القومية، بل للشيوعيين.

وكان انعقاد مؤتمر الخرطوم في أعقاب حرب 67 ليظهر على العرب بلاءاته الثلاث ( لا صلح، لا اعتراف، لا استسلام )، وقد فرحت الجماهير العربية بهذه القرارات، وخرجت المظاهرات تأييدا للنظام العربي، ولكن الجماهير لم تكن تدري بالشروط الانتقامية التي فرضتها بعض الدول العربية على جمال عبد الناصر آنذاك، وكان منها تولية السادات نائبا له، وتنحية أحمد الشقيري عن رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، وكان ذلك أول تدخل للنظام العربي في مجريات الأحداث على الساحة الفلسطينية.

ثم ما لبث المحتل حتى صعّد عدوانه، حين أراد أن يحد من فعاليات حركة المقاومة الفلسطينية التي كانت تتخذ من غور الأردن منطلقا رئيسيا، وبعد تنحية الشقيري ظلت المنظمة قرابة عام برئاسة يحيى حسن حمودة، حتى كان عام 68 وترأسها ياسر عرفات ليظل في موقعه 36عاما، حتى استشهد مثقلا بالهموم والحصار.

ومع أخذنا بعين الاعتبار ما كان من تدخل القوى الخارجية والظروف الدولية، في المسار الفلسطيني إلا أننا لا نريد أن نتوقف عند ذلك، لأنه مسألة طبيعية، ولا يمكن أن تدخل في إطار المساءلة، لا سيما أن المنظمة لم تكن تعمل انطلاقا من أرض فلسطينية، ولكن ما نريد أن نركّز عليه هو العمل على الصعيد الداخلي، فمنظمة التحرير بحسب ميثاقها تتألف من كل الفلسطينيين، أينما كانوا، وكل فلسطيني هو عضو فيها بقرار مبارك عربيا، سواء أكان منتميا لهذا الفصيل أم ذاك، أو كان مستقلا لا ينتمي إلى فصيل ( وهم من عرفوا بالمستقلين - الذين لم يكونوا في الحقيقة مستقلين إلا نادرا ).

وبدأت المنظمة تعمل بجهود مضاعفة لاستقطاب الفلسطينيين في كل مكان، وخصصت لها الدول العربية موازنة سنوية ثابتة لتمويل النشاطات المسلحة ضد المحتل، كما فرضت السعودية ضريبة على العاملين الفلسطينيين فيها تعادل 5%من رواتبهم، كما فرضت ليبيا ضريبة تعادل 7%، ونشطت حركة واسعة لجمع التبرعات في الوطن العربي، حدّثني أحد الإخوة ممن كانوا في بلدة البيضاء الليبية في أعقاب معركة الكرامة أن النسوة كن يأتين إلى السيارة (البكب) التي تجمع التبرعات وينزعن حليهن ويلقينها فيها، (والمعروف أن الليبيات يستكثرن من الذهب).

كان الفلسطينيون يراقبون ويسمعون، لم يرقهم أن تنشب الخلافات بين الفصائل التي تتكون منها المنظمة، حتى أولئك الذين كانوا ينضوون تحت لواء هذا الفصيل أو ذاك، كانوا يبدون استياء شديدا من ظاهرة الصراعات الداخلية، تحديدا بين اليسار واليمين، وبدأت ظاهرة الانشقاق تدب في بعض الفصائل، وبدأت الواسطة والمحسوبية، وتقديم الخاص على العام تستشري في جسد المنظمة، وطغت البيروقراطية على مكاتبها، فتعالت أصوات كثيرة تنادي بالإصلاح ووضع حد للانقسام، وربما ظهر في الساحة الفلسطينية من خرج على هذه الظواهر، وجاهر بالتصدي لها، ولكن، وللأسف، جُوبِه كل دعاة الإصلاح بتهمة جاهزة باستمرار، وهي أن هذه الدعوات، وهذه النشاطات تمثل طعنة لمنظمة التحرير؟! ومحاولة عربية أو دولية للالتفاف عليها، ناسين أن كل فلسطيني هو عضو فيها يحق له أن يبدي في أمرها رأيا، وأن يشارك في توجيه أمورها. إن الذين يظنون أن المنظمة هي التي حفظت القضية واهمون، فالقضية محفوظة بمعاناة أهلها، بمعاناة سكان المخيمات المحرومة التي ما تزال تتجرع الغصص في انتظار اليوم الموعود؛ يوم العودة، في الوقت الذي يمنّ عليهم بعض موزعي الكوبونات على نحو ما حدّثني به أحد الإخوة من مخيم الفوّار عشية أحد الانتخابات، وكان ذلك الرجل لم يذهب ليدلي بصوته، فطلب منه رجل آخر كان يوزع كوبونات الأرز والسكر أن يذهب ليشارك، ولما ألحّ عليه، وهو مصرّ على عدم المشاركة، قال له: روح وحط الورقة فارغة، قال له : أتضحك بي؟ قال : لا، المهم أن تصوت! فأبى، فقال له: يا عيب، تنسى النعمة؟ ألست أنا الذي كان يأتيك بالكوبونات؟ مسكين هذا الشعب، من شعب مجاهد يريد بعض المنتفعين أن يحوله إلى طابور الكوبونات بدلا من أن يُلزم الأمم المتحدة بالقيام بواجبها تجاه اللاجئين.

أجل، إن القضية باقية بالمعاناة (أنا أجوع، أُحرم، أعاني فأنا موجود) رغم المحن والمؤامرات؛ بغضّ النظر عن مصدرها، فالشعوب عندما تُستحمر لا يهمها من آذاها، بل إن لنا في قول الشاعر قديما عزاء :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند

المحتل لا ينفذ شيئا ذا بال حتى يستفتي عليه شعبه، أما نحن فلا أحد يحسب لنا حساب! ومطلوب منك أن تقدّم لكن برؤية غيرك، وليس لك أن تسأل، ولا أن تبدي وجهة نظر، وإلا فأنت تعمل ضد منظمة التحرير، أو أنت تعمل لمصلحة هذا البلد أو ذاك!.

وفي السنوات الأخيرة، بعد قيام السلطة الفلسطينية، تعالت الأصوات من بعض فصائل منظمة التحرير نفسها أن السلطة تهمّش المنظمة، ولكن لم تتصاعد وتيرة التفاعلات لإعادة الأمور إلى نصابها، أي بردّ القرار إلى يد المنظمة، وجعل السلطة تحت سيطرتها، بل كان الكل يعمل منسجما مع ما تجري به الأحداث، لا من يهدد ولا من يتوعد، حتى بعد ما ألغى المجلس الوطني بعض بنود ميثاقها، مما كان يعني في الحقيقة إعلانا صريحا ممن فعلوا ذلك بحل منظمة التحرير أو منحها إجازة مفتوحة.

في أواخر الثمانينات من القرن الماضي ظهرت حركة حماس، والجهاد الإسلامي، ومما أذكره أن حركة فتح باعتبارها ذات الحضور الأعرض في المنظمة لاعتبارات مختلفة، عرضت على حماس ما بين 30 إلى 35 % من المقاعد، ولكن حماس لم تكن تقبل، وتصاعد العمل في الداخل، وتجمد في الخارج بحكم الظروف، وفُرضت على الساحة الداخلية معطيات جديدة، وواقع جديد، حتى كانت الانتخابات الأخيرة وفازت حماس بالأغلبية التي تمكنها من تشكيل الحكومة وحدها، ولكنها لم تستأثر بالأمر، بل أرادت إشراك القوى المختلفة، غير أنّ أحدا لم يستجب لها، وكثرت الشروط، واضطرت حماس لتشكيل الحكومة منفردة، حتى إذا فرغت من ذلك؛ فوجئت بمن يبكي منظمة التحرير، ويتهم حماس بالانقلاب!!!

ما كان لي في هذه المقالة أن أوسّع الدائرة فأخوض في الزمان والمكان، لأن ذلك يتطلب مجلدات ومركز أبحاث وعددا كبيرا من الباحثين، ولكن ما أثبتّه كان ضروريا لنصل إلى هذه النتيجة.

وبالعودة إلى منظمة التحرير نتساءل: أليست المنظمة لكل الجماهير، أليس الأصل هو المواطن؟ أليس العالم كله يتغنى بالديموقراطية اليوم؟ أليست الفصائل في الخارج على وئام في ما بينها؟ هل جاءت حما س بأناس من المريخ صوّتوا لها، ولعل السؤال الأهم هو: ماذا لو أن الجماهير صوّتت لتغيير اسم منظمة التحرير إلى أي اسم آخر؛ هل في ذلك تعد على أحد ، أو تجاوز لأحد، أو افتئات على أحد؟ ألم تفز حماس بالأغلبية؟ ثم إن هذه حماس تنادي باسم الأغلبية الشعبية أن تعالوا ننظر مجددا في هيكلة المنظمة. ألم تغيروا بعض بنود الميثاق دون أن تعرضوا الأمر على الشعب؟ لكن هذه حماس باسم الشعب تدعوكم إلى ما ينسجم مع مصلحة الشعب ويبعث القضية من جديد ويعود بها إلى نهجها الأول، لن يخسر الشعب شيئا أبدا، ولن تتضرر مصالحه.

لقد اختارت الجماهير حماس وفقا لبرنامجها السياسي، وهو منسجم مع ما ورد في ميثاق منظمة التحرير، ومنسجم مع غايات الشعب الفلسطيني، إذن حماس متوافقة مع روح منظمة التحرير وآمال الجماهير، ولكن المر في بعض الأفواه أنها غير متوافقة مع ما تبقّى من رسم منظمة التحرير؛ وهل بقي منها إلا بعض المكاتب التي تحمل يافطات تخفي وراءها عجزا كبيرا، وترفع أعلاما لم تجدد منذ أمد بعيد في الوقت الذي يجدد فرش المكاتب تحتها كل حين.

وأنا كفلسطيني ما زال يمسك بشهادة ميلاده المدونة بالعربية والعبرية والإنجليزية منذ عام 1944، المشحون بالأمل والألم، لا أبالي بالألفاظ بقدر ما أبالي بالأفعال، اللهم إلا إذا كان درسا معادا أو أسطوانة مشروخة على نحو ما قاله شاعر الجاهلية:

ما أرانا نقول إلا معادا أو معارا من قولنا مكرورا

شهادة الميلاد هذه التي اضطررت عام 1978 لإظهارها أمام أحد الواهمين من طلابي في جامعة قاريونس بليبيا، لأثبت له أنني فلسطيني، بعد أن قال لي : من ليس من التنظيم الفلاني فما هو بفلسطيني، المؤسف أن طالبا آخر من تنظيم آخر قال لي بعد أيام: من ليس من التنظيم العلاني فليس بفلسطيني، كانا يريدان أن أنتسب إلى تنظيميهما، مع العلم أن مكتبي كان مفتوحا للجميع، وتوزع فيه نشرات جميع التنظيمات الفلسطينية، لا فرق بين تنظيم وآخر.

وأخيرا نخشى أن تتحول عبارة "منظمة التحرير" إلى قميص عثمان في أيدي الناقمين على حماس، لتعطيل برنامجها السياسي، الذي هو برنامج الشعب الفلسطيني بإقرار العالم أجمع، ولكن..... كل يدّعي وصلا بليلى.

وآخرا، قد نرى في المتغيرات على الساحة العربية والدولية ما يبشر بالخير، ولعل في إعلان حركة "ناطوري كارتا" الولاء لحكومة تشكلها حماس ما يشير إلى تغيرات وشيكة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولعل في تصريح محمود عباس أيضا من إمكان التوصل إلى حل إشارة أخرى.

أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية