سميح شقير: أنا لست مثقفاً ولا مكان للمبدع خارج عباءات القبائل المعاصرة
نشر بتاريخ: 17/09/2009 ( آخر تحديث: 17/09/2009 الساعة: 13:45 )
هذا ما كتبه الفنان العربي الكبير سميح شقير قبل ان يطير من دمشق الى بولونيا وقد تحدثت وكالة معا هاتفيا مع الفنان شقير وتعيد نشر المقالة الغاضبة التي لفتت انتباه الجميع:
أخي رفيق قوشحة
أعرف انك تنتظرني اليوم لتجري مقابلة صحفية معي، وكنت قد قلت لي على الهاتف أن هذا اللقاء هو بين مجموعة لقاءات تجريها مع عدد من الشخصيات المؤثرة في الثقافة السورية .
شكراً أخي رفيق لاعتباري واحداً منهم ، ولكني لن أجري هذه المقابلة ولا أية مقابلة أخرى، وستستغرب، لكني سأقول لك لماذا .. لماذا ؟؟
لأني لست مثقفاً، فلو أنني مثقف لكنت فهمت منذ زمن بعيد أنه لا مكان لمبدع خارج عباءات القبائل المعاصرة، فروح القبيلة في الإعلام، و ممنوع أن تنشر الغسيل القاتم للقبيلة، وروح القبيلة في اللا حوار لأنه قد استقر عند هذه القبائل أنه إن لم تكن معها فأنت ضدها، قبائل .. قبائل وبلاد العرب واسعة.
ولست مثقفاً وإلا لكنت فهمت دور العلاقات العامة بل و العلاقة مع أشخاص نافذين ودورها في إيصال فنك أو أدبك إلى المنابر و الشاشات.
ولست مثقفاً وإلا لكنت فهمت أنه لا مكان للفن و الأدب الملتزم و الإنساني إلا كإكسسوار في بعض المناسبات .
أترى هل يكفي أن تشارك في بعض عشرات من المهرجانات العالمية و العربية لتكون مؤثراً ..؟
وهل يكفي أن تكون متنوعاً لتقدم الشعبي و السياسي و الوطني و الساخر و الرومانسي و الصوفي و تكتب موسيقى للأطفال و للمسرح و للسينما و التلفزيون .. أترى هل هذا يكفي لتتلقى دعوة إلى احد المهرجانات المحلية .. ؟
هل يكفي انك سافرت إلى كل الجاليات العربية في العالم ووجدت أغانيك يرددونها هناك .. هل يكفي هذا لتدعى إلى مهرجان البادية هنا .. مثلاً ..
و هل يكفي أن تردد أغانيك الملايين، لتكون موجوداً، أم هل يكفي أن يردد كل سجناء الرأي من المحيط للخليج أغانيك لتكون .. حراً، وهل يعطيك التصاقك بنبض الناس مبرراً كي لا .. تجوع ..
سأقول لك : أنا لا أريد أن أكون مثقفاً .. وقد صار المثقف شحاذاً .. مضطر أن يجد ( سبونسر ) كي يستطيع أن يقدم عمله الفني .
فلاشات غير مثقفة
× صديقي المخرج المسرحي الذي طلب مني أن أضع موسيقى لمسرحيته، وكنت في بداياتي، اندهش وأنا أطلب منه مقابلاً مالياً، وقال لي حينها (( ألا يكفي أنني أعطيتك فرصة يحلم بها الكثيرون ))
× قلت لصاحبي – وكنت في البدايات – تعال معي لنحاول إقامة حفلة في المحافظة الفلانية، و بدأنا رحلة الألف ميل، لنتبين حاجتنا إلى تواقيع و موافقات عدد هائل من المؤسسات و الغدارات، و لم نتراجع و تابعنا رحلتنا المكوكية لأيام عديدة، البعض يطلب نقوداً لتسهيل الأمر و آخر يطلب علبة سمنة و آخر كروزين دخان و هكذا حتى صرنا بحاجة في حال عودتنا إلى حمار ليحمل هذه الطلبات .
و انتهى الأمر في إحدى الغدارات العامة، قالوا لنا: ضعوا كل هذه الموافقات هنا و اذهبوا .. قلنا و متى نعود ؟ قالوا لا تعودوا إلى أن نبعث لكم ...، و طبعاً لم يأتي خبر منهم إلى الآن .
× في الثنمانينات كنت مستأجرا في بيت صغير ( حشوة ) في آخر مخيم فلسطين بدمشق، و كان من المألوف أن يوجد معي في كل وقت تقريباً عدد من أعضاء فرقتي الموسيقية ، و كنا نعيش للموسيقى و هي كل أحلامنا، مع أنني كنت قد حققت شهرة كبيرة في سورية و البلاد العربية،
إلا انني و أصدقائي في الفرقة قلما كنا نأكل اللحم رغم عدم وجود أي شخص نباتي بيننا !!.. لكن الذي أذكره جيداً هو ارتفاع المزاج عند شباب الفرقة كلما خلت جيوبنا تماماً من النقود، لأن الكل يعرف بأن لحام الحي هو الوحيد الذي يعطينا بالدين، و بالتالي يتحول كل طعامنا إلى صواني لحمة . ( من قال إن الثقافة لا تطعم خبزاً ) .
× من أجل أن أسجل أغاني الحرية ، استدنت و استدنت حتى أوشكت ان أصير عبداً للدائنين.
× سهير أختي و هي مغنية الفرقة ذات الصوت الأوبرالي الخاص و الاستثنائي، رغبت أن تلتحق بالمعهد العالي للموسيقى بدمشق، و بعد أن خضعت للفحص و بعد أن عبرت لها الخبيرة الروسية عن إعجابها بصوتها و فرحها لأن خامة صوتية كهذه هي حالة نادرة ، ماذا حصل ..؟ يطلب مدير المعهد العالي سهير لمقابلته و ليقول لها بالحرف الواحد (( خلي تجربة أخوك الموسيقية تكفيكي .. لن اقبل بانضمامك للمعهد )) .. كنت سأفهم موقفه لو كنا نغني في المرابع الليلية و ليس على كبريات المسارح العالمية .
× كنت قد قدمت عرضاً على مسرح بصرى أول التسعينيات و كان عرضاً ناجحاً لفت الأنظار، بينما كنت أتأهب لتقديم عرض في فرنسا ، وإذ بإحدى مذيعات لتلفزيون تخبرني عن ضرورة مشاركتي في حفل فني يقيمه التلفزيون بمناسبة معينة ، ولكني اعتذرت ، وزاد إصرارها، و اعتذرت، و عبر عدة اتصالات كانت ترفع من الوتيرة فمن طلب إلى الإلحاح إلى التهديد بشطب أنشطتي الفنية من التلفزيون و غيره ، و بما أنني كنت غير مثقف بما يكفي لا أفهم أن الأمر جدي للغاية ، فقد تم حقيقة هذا الشطب و لسنوات عديدة ولأواجه حدود المجاعة.
× أخبرني زملائي الجولانيون حين كنت أدرس الموسيقى في أوكرانيا كيف أن السلطات الإسرائيلية تعاقب كل من كان يحمل كاسيتاً عليه أغنياتي، و أخبرني الكثير من فلسطيني الداخل كيف تشارك أغنيتي في المصادمات و المظاهرات ضد الاحتلال ، و اخبرني الكثير من الشباب و الصبايا من بلدي عن ان أغنيتي ببعدها الإنساني أثرت في سلوكهم ، وسرني ذلك .
لكن الذي لا أفهمه هو : لماذا أهمش ، لماذا تتجنبني كل المهرجانات دفعة واحدة ، ولماذا إذا حصلت دعوة تكون بمقابل مادي لا يكفي شباب الفرقة ، و يعللون ذلك بأن المناسبة عظيمة وأنت خير من يتبرع عادة بمجهوده !! نعم .. يزايدون علي وجهاً لوجه ، و يتذكروننا فقط حين تندلع المعارك و ترتكب المجازر وكأننا – كما قال احدهم – ( ملائكة الموت 9 بالرغم من كل هذا الحضور في قلب الحياة و دفاعاً عنها ، كل هذا جرى و يجري لأني لست مثقفاً بما يكفي لأعرف بأـن مزمار الحي .. لكي يطرب، عليه أن يغني نغمة جاهزة معلبة ، لا تخرج عن المألوف و لا تحرك المستنقعات.
وداعاً
نقلاً عن جريدة تشرين العدد 10550 تاريخ 19 تموز 2009م
ملاحظة : ما ننشره هنا موجود على الموقع الالكتروني للفنان سميح شقير