الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

حتى لا يكون الحوار مجرد مناظرة أو جدال/بقلم : بروفيسور ذياب عيوش أستاذ علم الاجتماع

نشر بتاريخ: 13/06/2006 ( آخر تحديث: 13/06/2006 الساعة: 17:25 )
منذ سنوات عدة وأقلام المفكرين لا تكف عن الكتابة في موضوع الحوار, ولا تبخل في امتاع القارئ بما تقدمه من أفكار. وما زال المفكرون يجهدون أنفسهم ويقدّمون ما عندهم على صفحات الصحف وعلى شاشات التلفزة في كل ليلة ونهار حتى غدا الحوار ظاهرة واسعة الانتشار ووسيلة يستخدمها المتحاورون بعزة وافتخار تمييزا لها عما عداها من أساليب السعي الى التوافق أو التقارب في الهدف والمسار.

بل ان مراكز علمية وهيئات دولية مهتمة ببناء الثقة وتقريب وجهات النظر بين الخصوم اتخذت من هذا الموضوع حرفة وراحت تروّج له وتنظم بشأنه المؤتمرات والندوات والدورات في شتى الأقطار, باعتباره علما وفنا يحتاجان الى الصبر, والحكمة, والحنكة, والخبرة , قبل اتخاذ أي قرار.

ومن اللافت للانتباه اأن الاتجاه الى الحوار قلما يحصل عندما يكون الساعون اليه في حالة وئام واستقرار, وانما يتم اللجوء اليه كلما واجه المتحاورون أزمة أو شعر أحدهم أو جميعهم بالخطر أو بالحاجة الى رأب الصدع أو تجنب فتنة, سواء كان الدافع لذلك محليا أو أطل من وراء البحار.

وحالنا في المناطق المحتلة هو حال الكثير من الأقطار التي تتلهى شعوبها بالأمور الصغار ولا تفطن الى القضايا الكبار الاّ عندما تجد نفسها في غمرة الهزيمة أو على وشك الانكسار.

وعلى الساحة العربية في هذه الأيام أمثلة عديدة على توجّه الأشقاء المختلفين في الفكر والموقف الى الحوار, بعد أن تيقّنوا أن أياد خارجية تستغل الجفاء بين قواها السياسية والاجتماعية المحلية وتعمل على توسيع رقعة الخلاف بينها خدمة لمصالح الاستعمار .

ولعل ابرز هذه الأمثلة ما يدور على أرض لبنان, وفلسطين, والسودان. وربما كانت أكثر الضغوط خبثا هي تلك التي تمارسها قوى معادية تهدف الى ايصال الأشقاء المتحاورين الى وضع يائس لدفعهم باتجاهات معينة ليقول البعض منهم, اذا ما فشل في تحقيق ما يصبو اليه, لقد فشلنا ولا فائدة من الاستمرار .

و بالتركيز على وضعنا في فلسطين , فانه في مثل هذه الحال قد تسود شريعة الغاب ويستقوي بعضنا على بعض ويقتتل بعضنا مع بعض لنزيد النزيف العربي المتدفق يوميا بدماء شهدائنا الذين تلاحقهم يد الغدر وطائرات العدو وصواريخه وقذائفه في كل مكان وزمان. حيث لا يكاد يمر علينا يوم الا ونحن نودع كوكبة من شهداء الوطن , ونشهد اقتياد شبابنا أسرى على مرأى ومسمع المسؤولين ممن اعتادوا أن يروا سيارات الاحتلال العسكرية وهي تمخر أحشاء الوطن ليل نهار وكأننا بكثير من جهابذة الركوع والتنازل يقولون: دعهم يفعلون ما يشاءون طالما أن ما يقومون به يمكن أن يساعدنا على التمتع بمزايا الانتدابات والمفاوضات لنزداد مالا بعد مال وثراء بعد ثراء.

لست أدري ان كنا قاصدين أو غير قاصدين ولكن الذي أدريه أن أحلاهما مر. ولا يقل مرارا أننا نفيق كل يوم ونبيت كل ليلة ونحن نفقد جزءا من الأرض , أو بعضا من الكرامة عند كل حاجز, أو بعضا من القوة المعنوية لمن سموا بأنفسهم فوق المصالح الضيقة للفصائل والتنظيمات والأحزاب وراحوا يبحثون عن خلاص مشرّف وحقيقي لشعبهم الصابر المرابط المقاوم .

نقول هذا ونحن نعلم ببعض خفايا المؤامرات التي تجري تحت الأرض أو فوق الأرض , ونعرف طبيعة النفق الذي دخل به منظّروا أوسلو وجنيف, ونعرف خباياه السياسية التي لا يرضى بها ذو عقل راجح ولا حتى جاهل مهذار.

ومساهمة منا في بعض ما يلوح في الذهن من فكر سوسولوجي آمن بمبدأ الحوار بين الأشقاء, ونأى بنفسه عن كل هزار, نود القول أنه حتى يكون الحوار حوارا وليس مناظرة أو جدالا أو مبارزة, ينبغي الاقرار بأن هناك أسسا للحوار وأن غياب هذه الأسس من أذهان المتحاورين أو بعض المتحاورين يجعل الحوار مضيعة للوقت أو فرصة للتصيد في الماء العكر, أو وسيلة لتبرير التخاصم والاقتتال أو الابتزاز.

الأساس الأول , هو الفهم المشترك لمعنى الحوار. فالحوار الصحيح يتمثل في المراجعة المتبادلة لموضوعاته والسعي الجاد لبيان القواسم المشتركة التي تشكل أرضية صلبة ودافعا ذاتيا للالتقاء والتفاهم بين المتحاورين.

وفي تتبعنا لمعنى المحاورة في القرآن الكريم وجدنا ثلاث آيات كريمة وردت بصيغ مختلفة. الأولى , وهي الآية 34 من سورة الكهف , تشير الى حوار جرى بين صاحبين أذ تقول: " وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " , وجاء في الآية الكريمة الثانية وهي الآية 37 من السورة ذاتها " قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلا ." أما الثالثة وهي أول آية من سورة المجادلة فجاء فيها: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشكي الى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير."

وفي محاولة لتحديد معنى الحوار فهمنا أن الحوار في الآية الأولى تضمن محاولة أحد الصاحبين التفاخر على صاحبه بالمال والعزوة, أما في الآية الثانية فتضمن الحوار معنى المجاوبة, بمعنى أن الحوار يتضمن السؤال والجواب المتبادلين بقصد الفهم والتوضيح. ونتبين من سياق الآية الثالثة وجود منهجين في آن واحد يظهران ما قصدناه في عنوان هذا المقال. فقد وردت كلمة " تجادلك " للاشارة الى دفاع المرأة عن موقفها في تبرير خلافها مع زوجها, في حين وردت كلمة "تحاوركما" للاشارة الى مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة والتي لا تستلزم موقف الدفاع أو الهجموم وانما التوضيح والفهم والله سبحانه أعلم. أما الأساس الثاني للحوار, فهو ادراك المتحاورين لأهمية الحوار.

فمن المتعارف عليه أن الناس تلجأ الى الحوار عندما تحس أن أمورا مهمة تحتاج الى مراجعة مشتركة والى جلسات مشتركة يبحث فيها المتحاورون أي موضوع يجدونه ضروريا لتقريب المسافة الاجتماعية أو السياسية أو الادراكية أو حتى المصلحية بينهما. ليس من الضروري دائما أن يخرج المتحاورون بموقف موحد تجاه موضوع الحوار, وليس من الضروري أن يتنازل أحدهم للآخر وهو غير مقتنع أو غير راض عما يعرض عليه, ولكن من الضروري أن يخرج من الحوار وقد وضّح وجهة نظره وفهم وجهة نظر الآخر وترك له أن يتصرف وفق النظام دون تخويف أو تهديد.

وهناك أساس ثالث لا يقل أهمية وهو التخاطب بروح الحوار. وهذا يعني أن الحوار الحق يتطلب قلبا مفتوحا وعقلا متفتحا واستعدادا مبدئيا لسماع الآخر وفهم وجهة نظره باحترام, كما يتطلب بشاشة ووداعة عند اللقاء . وبهذا المعنى لا يجوز أن يلتقي المتحاورون بقلوب غليظة وجفاء وانما يلتقون ولديهم كامل الرغبة والارادة والتساهل, ولا أقول التنازل, عند الاختلاف مع الآخرين.

وبدون ذلك يفشل الحوار ويتفرق المتحاورون وقلوبهم شتى لأن الغلظة بحد ذاتها منفّرة. قال تعالى مخاطبا الرسول الكريم محمدا عليه الصلاة والسلام في الآية 159 من سورة آل عمران:" فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ...".

فهذه الآية الكريمة تعتبر أكثر من مدرسة لتعليم أدب الحوار. ولعل أخطر أسس الحوار هو الأساس الرابع المتمثل بضرورة وجود هدف مشترك للمتحاورين.

فاذا جلس المتحاورون على طاولة الحوار وفي ذهن كل منهم هدفا مغايرا لأهداف الطرف الآخر فان مهمتهم ستكون أكثر صعوبة, ذلك لأن كل طرف سيحرص , في مثل هذه الحالة, على التقليل من شأن رأي الآخر وسيحاول جرّه الى المربع الذي يريده أن يكون فيه. وعندئذ سيكون الحوار حوار طرشان لا هم لهم سوى تثبيت وجهة نظرهم بعيدا عن أي اعتبار للرأي الآخر.

وبهذا الموقف يكون المتحاور قد وضع العربة أمام الحصان, ويكون قد أخرج نفسه من قواعد وأسس الحوار الى قواعد وأسس المناظرة أو الخصومة أو الجدال.

ماهي اذن خصائص الحوار؟ وما الفرق بينها وبين خصائص المناظرة أو الجدال؟ وهل المحادثات التي تجرى بين الفصائل على الساحة الفلسطينية في الأيام الأخيرة يمكن أن توصف حقا بالحوار؟ أم أنها مناظرة تجري في ظل التخويف أو الوعيد أو احتباس الأموال؟! الخصائص المميزة للحوار, والمناظرة أوالجدال : حتى نستطيع الحكم على نتائج أي لقاء يأخذ معنى الحوار, ينبغي أن نتعرف أولا على خصائصه المميزة له عن مجرّد المناظرة أو الجدال والنزال. فهناك ست خصائص جوهرية تميز لغة الحوار وطبيعته:

وأول هذه الخصائص هي شعور المتحاورين أنهم شركاء , بمعنى أن موضوع الحوار ملك للمتحاورين جميعا, تماما كحوار من يكونون على متن سفينة في وسط البحر ويكون المبحرون عليها في وضع متساو من حيث الاهتمام بسلامتها من أجل سلامة الجميع. فاذا شعر أحد المتحاورين أو أحد الأطراف المتحاورة بغير هذا الشعور فانه لا يعود شريكا وانما يصبح خصما أو مناوئا , ولا يسمى الحديث معه حول سلامة السفينة وركابها حديث حوار.

أما الخاصة الثانية فهي الفهم المتبادل, بمعنى فهم المتحاورين بعضهم لبعض أو الوصول الى حالة من الفهم المشترك أو فهم أحد الأطراف للطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.

فاذا لم يكن الفهم المتبادل سيد الموقف فان الأمر ينقلب الى نقاش عقيم يهدف فيه كل طرف الى اقناع الطرف الآخر, ونكون بصدد محاولة للاقناع بدلا من محاولة لفهم الآخر وموقف الآخر. ويشكل الاتساق أو الانسجام في مواقف المتحاورين الخاصة الثالثة, حيث يسعى المتحاورون الى تقريب وجهات النظر بينهما والوصول الى قواسم مشتركة يتحرك الجميع من خلالها الى الأمام. وفي هذه الحالة قد يتحقق الانسجام في المشاعر, أو الأذواق , أو المصالح, أو الآراء دون غالب أو مغلوب.

وبالمقابل, فان غياب هذه الخاصة أو الصفة سيكشف عن حالة مقابلة لها تتصف بسعي كل طرف فيها الى تحقيق النصر على الآخر. وهناك خاصة رابعة لا تقل أهمية وهي وجود الأرضية المشتركة للحوار, فادراك المتحاورين أنهم ينطلقون من أرضية مشتركة يجعلهم يتحاورون كطرف واحد يسعى لمواجهة تحديات أو صعوبات تواجه المتحاورين كافة وعليهم التغلب عليها من خلال احساسهم بمصلحتهم المشتركة التي لا تقبل القسمة.

وبالمقابل, فان غياب هذه الأرضية المشتركة سيشعر المتحاورين بأنهم في ساحة قتال, وعندئذ سيكون النزاع سيد الموقف وسيضع المتحاورين في وضع خطير حذرتنا منه الآية الكريمة السادسة والأربعون من سورة الأنفال بقوله تعالى:" ... ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم..."

وهذا هو الفرق بين الحوار المستند الى أرضية مشتركة وبين الجدال أو المناظرة أو النزاع الذي لا يقود الى النصر ولا الى هزيمة الأعداء. أما الخاصة الخامسة فتتمثل في وجود نقاط التقاء يلتف المتحاورون حولها لتدعيم موقف مشترك ومنع الفتنة.

وأهم ما يميز هذه الصفة أو الخاصة عن نقيضها وهو البحث عن نقاط اسناد أو تقوية للحجة المضادة أو الرأي المضاد.

ذلك أن الاهتمام بهذه النقاط الأخيرة والتركيز عليها يحرف الحوار ويعمق الخلاف ويباعد المسافة بين المتحاورين. يبقى أن نذكر خاصة سادسة للتمييز بين الحوار من جهة, والمناظرة أو الجدال من جهة أخرى, وهي أن الروح التي تمتاز بها روح الحوار عادة هي روح الانصات والتفسير. وهذه الصفة المميزة للحوار تلتقي مع أهم مبدأ من مبادئ الخدمة الاجتماعية وهو القدرة على الاستماع والانصات الى أقوال القضية الاجتماعية أو المراجع. وبالمقابل, نجد أن الحوار ينحرف عن مواضعه اذا ما أريد به أن يكون املاء على الآخر أو دفاعا عن الرأي وليس توضيحا أو تفسيرا له. بعد هذا التوضيح , نود أن نتساءل عما يدور على الساحة الفلسطينية هذه الأيام ونقول:

هل يقوم الحوار الجاري بين الأطراف الفلسطينية هذه الأيام على أسس واضحة كالتي ذكرناها في مقدمة هذا المقال؟ وهل تتوفر فيه الخصائص التي يتصف بها مفهوم الحوار؟!! هل يعي جميع المتحاورين حالة الزيف التي تعيشها القضية الفلسطينية منذ سنوات عدة بنفس الدرجة ليعملوا معا على انتشالها قبل فوات الأوان؟

وهل يعلمون بنفس الدرجة أننا أعطينا لم نستبق شيئا؟ وهل يدرك الجميع أن الأمر جد لا لعب, وأن سكوت أي طرف على الضغوط الخارجية على شعبنا بسبب لجوئنا الى الديموقراطية في اختيار ممثلينا في المجلس التشريعي والحكومة الفلسطينية جريمة بحق الوطن والقضية؟

وهل يقبل أي شريف منا أن يستقوي بعضنا على بعض بالغرباء لدعم مواقفه التحاورية؟ وهل لدى المواطن الفلسطيني حقا معرفة شمولية بما أصبنا به وما أخطأنا به لتكون قاعدة للحوار؟ هذه أسئلة مفتوحة نتركها بلا اجابة ونثق أن شعبنا قادر على الاجابة وقادر على الحوار وافشال المؤامرات, وأثق أن هناك صفوة مجتمعية تشكل جسرا يخترق حتما كل القوى والفصائل والشخصيات الوطنية والاسلامية لتشكل عند الحاجة قوة رادعة وأجساما مضادة للحيلولة دون أي تفريط أو أية ضغوط خارجية تهدف الى اجبارنا على التخلي عن ثوابتنا الوطنية أوالتنازل عن نظرتنا الشمولية عند بحثنا لأي قضية جزئية .

أما اذا كنا نريد ادخال موضوع وحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية أو موضوع الوثيقة الوطنية التي بعث بها الأخوة والأحبة في المعتقلات الاسرائيلية في نطاق الحوار وليس في نطاق المبارزة الرئاسية - الحكومية فسنحتاج الى مقالات أخرى نظرا لأهميتهما وما يتطلبانه من وقفة متأنية أمام أبعادهما السياسية والاستراتيجية, وما يفرضانه من ضرورة تحليلهما بصورة متأنية, لأن اي خطأ في التعامل معهما سيكون خطأ استراتيجيا لن يبرأ منه أحد منا.

والأهم من ذلك كله هو وجوب عدم التسرّع في التعامل مع القضايا المصيرية, والامتناع عن تجزئة القضية أو التفريط بحق من حقوق شعبنا أو المساس بفكرالمقاومة المشروعة أوالهوية .

ويكفي لتحقيق وحدتنا الوطنية أننا ما زلنا جميعنا داخل الوطن أسرى بدرجات متفاوتة عند الاحتلال, وأننا جميعنا ما زلنا نعيش ونتحرك بل ونتنفس بقدر ما يسمح به الاحتلال الذي لم يعترف بأي شريك له أيا كان, مما يشكل أقوى الأسس للحوار الذي لا ينقلب الى مناظرة أو جدال.