الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

"بقعة" لا تزيلها مساحيق الغسيل لأطفال غزة ..

نشر بتاريخ: 19/08/2010 ( آخر تحديث: 19/08/2010 الساعة: 18:05 )
غزة- سمر الدريملي – وجدناه في غرفة تحت الأرض.. جاثياً على ركبتيه وسط الأواني والعلب الفارغة والممتلئة.. تملأ يديه الناعمتين جروح وندوب كثيرة.. وعيناه مجهدتين، وهالات سوداء تأسر بريقهما.. وبشرته فقدت نضارة وحيوية الأطفال..

الطفل "أحمد" (البالغ من العمر 15 ربيعاً) يقضي جل وقته في غرفة تحت منزلهم خصصها والده لتصنيع مساحيق الغسيل ومواد التنظيف المنزلية، ومن ثم بيعها في الأسواق المحلية، وكما يقول "أحمد"؛ فقد بدأ العمل في هذه الصنعة بعد أن أجبره والده على ترك الدراسة منذ عامين؛ والتفرّغ لمساعدته في التصنيع والبيع؛ خاصة أنه أكبر إخوته الذكور.

ويضيف "أحمد": "العمل في تصنيع مواد التنظيف صعبٌ ومرهقٌ جداً، وقد قضيت شهوراً طويلةً وأنا أراقب أبي وأتعلم منه كيفية تحضير التركيبات والألوان المختلفة ونسب التركيز المطلوبة، وبرغم عدم اتقاني لها مائة بالمائة حتى الآن؛ إلا أنني أصبحت الساعد الأيمن لأبي".

ويتابع "أحمد" بعد أن أرهقه سعالٌ أصابه: "أحببت الدراسة، وكنت من أوائل صفي المدرسي، وبقيت عاماً كاملاً أتابع الدراسة مع زميل لي عن بعد ومن وراء أبي، وكانت تشجعني أمي على ذلك، وكنت أخفي حقيبتي فور رجوع أبي إلى البيت، لكنني لم أتمكن من مواصلة الدراسة؛ إذ تحتاج الدراسة مني لدوام رسمي ومتابعة يومية، ولا أستطيع ذلك في ظل عملي أيضاً في بيع تلك المواد في الأسواق مما اضطرني إلى تركها تماماً".

ويحتفظ "أحمد" بحقيبته وأقلامه وآخر كتبه ودفاتره، يضمهم إلى صدره بشوق وحنين، وكأنه يضم لعبة عزيزة على قلبه، ويتمنى أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه من الرجوع إلى مقعد الدراسة ومواصلة تعليمه؛ كي يحقق طموحه بأن يصبح طبيباً ماهراً في المستقبل، فهو -كما يقول- "يعشق العلم.. ويكره تلك الغرفة المظلمة تحت الأرض".

إنقاذ ابني

من جهته أوضح "أبو أحمد" أنه اضطر إلى الدفع بابنه إلى سوق العمل معه وترك الدراسة لأنه بحاجة ليد تساعده و"تتعلم الصنعة"، مشيراً إلى أنه إن جاء بعامل من الخارج لمساعدته فمن اللازم أن يخصص له راتباً أو مكافأة شهرية، وهذا أمر صعب للغاية؛ في ظل محدودية الربح الذي يتحقق من وراء تصنيع تلك المنظفات والمساحيق.

أما والدته فتعبر عن عجزها عن "إنقاذ" ابنها من هذه الصنعة، خاصة أنه بدأ يعاني مؤخراً من حكّة شديدة في جلده، وسعال قوي ومستمر، وسيلان والتهابات في جيوبه الأنفية، ناهيك عن تدهور صحته بشكل عام؛ لقضائه وقتاً طويلاً في التصنيع والبيع في الأسواق.

ويقطن "أحمد" مع أسرته المكونة من (4) بنات و(3) أولاد، أكبرهم "رغد" البالغة من العمر (22) عاماً، وأصغرهم "رشاد" البالغ من العمر (5) سنوات، في بيت متواضع في أحد أحياء شمال مدينة غزة، وتعاني الأسرة -كما الكثير من الأسر في قطاع غزة- من الفقر وسوء الوضع الاقتصادي، لاسيما في ظل الحصار الإسرائيلي المشدد على القطاع برمته منذ أكثر من ثلاث سنوات.

عاهة مستديمة

د. محمود الخزندار، أخصائي أمراض صدرية في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة حذر من خطورة زج الأطفال في العمل بمهن ومجالات خطيرة كتصنيع مواد ومساحيق التنظيف لما لها من آثار نفسية وصحية سلبية وخطيرة عليهم إذ يشعرون بأنهم قد حرموا من طفولتهم وانخرطوا بسوق العمل مبكراً، ما يجبرهم على التخلي عن الكثير من السلوكيات والأخلاقيات والبراءة التي يتحلى بها الطفل الطبيعي، مؤكداً أن الأطفال الذين يعملون في هذه المجالات سيكونون حتماً أقل في الكفاءة الوظيفية من الناس العاديين عند كبرهم.

وأوضح د. الخزندار أن الطفل عندما يعمل في هذا المجال لا يكون عنده الحيطة والحذر كما الكبار، كما أنه لا تتوفر أدنى مستويات الحماية والأمن عندما يقوم بمساعدة أهله في البيت في تصنيع مواد التنظيف لذا نجده يصاب بحروق مختلفة في جسده، كما أن رائحة المواد النفاذة المستخدمة في تصنيع هذه المواد كالكلور والحمضيات والقلويات قد تسبب التهابات حادة أو مزمنة في الشعب الهوائية للطفل، أو تمدد في تلك الشعب، ونوبات ربو وأزمة، وأحياناً عاهة مستديمة في الجهاز التنفسي.

من ناحيته اعتبر أحمد القبط، منسق مشروع "الحق في اللعب" في قطاع غزة "أننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لوقف عمالة الأطفال في أي مجالات كانت إذ أن عملهم في سن الطفولة هو بمثابة عنف يمارس ضدهم، ويحرمهم من أبسط حقوقهم التي كفلتها المواثيق والقوانين الدولية والإنسانية، منوهاً إلى أن الكثير من الأطفال الذين يعملون يعانون من ظلم وخطر مزدوج إذ فور عملهم يحرمون أيضاً من التعليم، ناهيك عن الإيذاء النفسي والاستغلال الاجتماعي الذي قد يتعرضون له، وكل ذلك في النهاية يحرمهم من التمتع بالحياة والأمن والتنشئة السليمة والبيت الآمن المستقر.

وطالب القبط بضرورة تكاتف الجهود الرسمية والشعبية والأهلية ليتحمل كل مسؤوليته اتجاه الأطفال من أجل توفير كافة سبل الرعاية الصحية والاجتماعية والثقافية والحياة الكريمة بشكل عام.

يذكر أنه وحسب التقرير السنوي الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بعنوان: "أطفال فلسطين قضايا وإحصائيات"أشار الى أن نتائج مسح القوى العاملة للعام 2009 أظهرت أن نسبة الأطفال العاملين سواء بأجر أو دون أجر بلغت 3.7% من إجمالي عدد الأطفال العاملين منهم 5.4% في الضفة الغربية و0.9% في قطاع غزة، موضحاً أن حوالي ثلثي الأطفال العاملين في الأراضي الفلسطينية بنسبة 67.3% يعملون لـدى أسرهم بدون أجر مقابل 27.6% يعملون كمستخدمين بأجر لدى الغير.