الخميس: 26/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

صورة قلمية: العيد يختنق في غزة بصخب الصغار وضجيج مولدات الكهرباء!

نشر بتاريخ: 14/09/2010 ( آخر تحديث: 15/09/2010 الساعة: 09:31 )
غزة- معا- موسى أبو كرش- ماذا نفعل في زمن يسير فيه الوقت بعكازين، وتحلم فيه الأعشاب أن تصبح غابات نخيل، وتتبارى حكومتانا في خوزقة جيوبنا، وتكميم أفواهنا ، وتبديد أحلامنا ؟ بل ماذا نفعل في وقت صار فيه الأمل خازوقا ينتظرنا خلف كل باب ، بعد ما شربت الآبار ماءها لتروي ظمأها ،ونتفت العصافير ريشها لتبدو أكثر جمالا وفحولة، وبتنا نلتمس الأعذار لنسرق وحدتنا؟! مثلنا الوحيد بيت شعر المتنبي الخالد : نظل ننتظر الذي قد مضى .... لأن الذي سوف الذي يأتي ذهب!

بهذه الأسئلة الاستنكارية النزقة والعبارات الحامضة ، لخّص أحد مثقفي غزة الوضع العام في القطاع ــ الذي يقطنه أكثر من مليون ونصف المليون إنسان عشية العيد .

لسبب لا يعلمه إلا الله وحده ، قررت أن اعتكف في بيتي خلال أيام العيد الثلاثة ، لن أسلم خلالها على أحد ، ولن أكلم أحداً، ولن أجيب أية مكالمة ، أو أرد على رسالة sms مهما كان صاحبها، وعلى هذه الحال مضت أيام العيد بسلام عدا الربع الأخير من اليوم الثالث، الذي قررت أن أخرج فيه من عزلتي المنزلية إلى عزلة أكثر هدوءً وراحة في المكتب_ مكتب جريدة الحياة الجديدة _ وما أن فتح باب المصعد ، في الدور التاسع من برج الشروق وسط المدينة حتى وجدت الباب الزجاجي المؤدي إلى الباب الرئيس موصداً ، وبعد سلسلة من محاولات معالجته ، أدركت أن مالك المكتب قرر وضع يد ه على شقته فازددت حزناً وكمداً ، ولكني سرعان ما خرجت من كآبتي الداخلية إلى كآبة الشارع، إذ ما جدوى المكوث والقرار في مكتب لا تتوفر فيه أبسط مقومات الحياة والعمل ، من هاتف وكهرباء وإنترنت ومياه؟!

في شارع عمر المختار"بالقرب من مرطبات كاظم" نزولاً إلى ميدان الجندي المجهول غربا ، كان الازدحام شديداً على غير عادته ، وكأن غزة ألقت بقاطنيها إلى الشوارع ، أفواج من النساء والأطفال والشباب ــ ذكوراً وإناثاً ــ يموجون في الشارع الطافح حتى رئتيه بالسيارات الراعفة ، على أنغام طبول فرق فدعوس ومزاميرها ، احتفاءً بالعرسان الجدد ، بعد فترة راحة امتدت طوال الشهر الفضيل ، وكان ثمة من أصحاب المحال التجارية من يعالج مولده الكهربائي ــ إذ يبدو أن التيار قد انقطع عن حي الرمال بأكمله في هذه الساعة ، داعبت صديقا من أصحاب المحلات المفتوحة بقولي :" لقد عاد مولدك لبث السموم والنعيق على أنغام سماعات "تبرق تبرق خلّوها زي اللمبة ضوّوها!" فأجابني دون تردد :" لتنعق المولدات خير من أن ننعق نحن "، ومن جانبي الأيمن قالت امرأة _ يبدو أنها موظفة سلطة دون تحفظ_ : "الله لا يوفقهم ! خصموا من راتبي وراتب زوجي 340 شيقلاً رغم أننا ندفع استحقاقات الكهرباء للمستأجر كل شهر، عدا عن كلفة مولدنا الخاص والتي تقدر ب 250 شيقلاً هوه في حدا في الدنيا بيدفع حوالي منتي دولار شهريا بدل كهربا ، كنا بنوكلها و إحنا مش داريين !!"

سحنات الناس في غزة لا تنبيء بفرحة العيد المعهودة ، خاصة سحنات ووجوه الرجال الذين أنفقوا الكثير من مدخراتهم خلال شهر الصيام ، والاستعداد للعيد وجولة تجهيز أبنائهم للمدارس بعد أيام ، أما الذين لا تتوفر لهم فرص للعمل فثمة نكد مقيم على وجوههم وعلى وجوه أبنائهم ،ثمة فرحة على وجوه الأطفال والنساء، ربما مصدرها حبيبات البوظة الباردة التي يلعقونها دون خجل أو وجل في الشارع! يشتد الازدحام تدريجيا كلما اقتربت من حديقة الجندي المجهول، وسوف تدوس بقدميك ظروفا فارغة وكراتين ،وتلحظ بأم عينيك أكياس النفايات المتراكمة تحت المقاعد الإسمنتية ، على امتداد أسوار الحديقة وجوانب أرصفتها الداخلية بعد أن طفحت الحاويات الضخمة بالقمامة وسط الحديقة ! "بحكم العادة عمال النظافة التابعين لبلدية غزة يتمتعون بإجازة العيد ، ويبدو أيضا أن العمال المسؤولين عن رعاية الحديقة يتمتعون بهذه الإجازة منذ أكثر من عام، فالمساحات المعشوشبة الخضراء للحديقة قد تلاشت تماماً ، ولم تستحدث بأية أعشاب جديدة في الحديقة التي أضحت معظم مسطحاتها صلعاء بفعل المارة وافتراش الأرض وانعدام الرعاية ! لن تجد مكانا تجلس فيه مهما حاولت البحث ، ومهما تكلفت الدوران في جوانب الحديقة، ولن تعدم أن تسمع امرأة تصيح بقرف حقيقي : "يووه شوف الزلمة الناقص ، بزقني !!" وان هدك التعب والفضول مثلي ، فما عليك إلا أن تكون وقحا ، وأن تندس وسط الأسر المنشغلة بتلبية طلبات أبنائها التي لا تنتهي من البالونات والأطعمة السريعة والُلعب التي افترشت الحديقة وأرضها ، مع سيارات الأطفال المغرية ، وإن تابعت لَعب الأطفال ستشعر بفرح يائس وأنت ترى القطاع وهو يتحول على غابة إسمنتية كثيفة: ترى ما حجم المساحة الحيوية التي ستتاح لهذا الجيل الجديد ، والأجيال المقبلة في المدارس والمساكن والأسواق ؟!ّ ، تقول جارتي :"الطف بنا يارب ! " وهي تدفع بتنهيدات عميقة إصرار بناتها وكناتها على ركب الحنطور .. نعم ثمة حناطير في غزة، وثمة نساء وأطفال "بتتحنطر" في زمن غاب فيه الحنطور عن القاهرة والآستانة، بعد انقضى عهد الباشاوات ، وظهر في بلدنا حوذيّ بكرباج وطربوش أحمر !!! ودرجن .. درجن ، اللفة بعشرين شيقلاً ، وثمة حصان أبو زيد الهلالي لمن أراد أن يتعنتر أيضاً ، لفة سريعة بخمس شواقل، الوقت يمضي والجموع تزداد ، ويزداد معها إلحاح الباعة الجوالين ، والصخب والزيطة والزمبليطة ، فتنكفئ جموع إلى البيوت ، لتصطدم بجموع أخرى قادمة .. وفجأة يقطع استغراقك في همومك وأشجانك رنين رسالة ، تخبرك بسقوط ثلاثة شهداء في بيت حانون ، اثنان منهم شقيقان ، فتتساءل في حزن قاتل لماذا تأبى أعيادنا إلا أن تتلون بالدم والرماد والدموع ؟؟؟!.

تحت إلحاح رنين هاتف زوجتي، وجدتني أغادر المكان على عجل ،بعد أن عمّ الظلام، حيث كان الشارع الجانبي الفاصل بين شارعي عمر المختار والوحدة ، مكتظاً أمام محلات المرطبات والشاورما ، وحدها القطط كانت الأكثر حزناً من جميع الناس في غزة في العيد ، بعد أن تكاثرت أعدادها ، وانقضى شهر رمضان الذي كان يوفر لها الطعام الدسم ، دون جهد ، أو مواء حزين على الموائد ، كعادته طلب مني محاسب مخبز العائلات شيقلا ليرجع لي باقي نقودي ، سألته ضاحكاً ألم تنقض أزمة الفكة بعد شهرين من الانحباس ، فأجابني ضاحكا : نعم ، ولكن تظل أزمة الشيقل ماثلة في مخبزنا ، ودعته وانكفأت إلى بيتي، وأنا أدرك أن ضجيج مولد الكهرباء على شرفة غرفتي ،سيرافقني حتى منتصف الليل!