الأربعاء: 02/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

في الجولان ما يستحق الحياة ... *بقلم: سامي مكاوي

نشر بتاريخ: 18/10/2010 ( آخر تحديث: 18/10/2010 الساعة: 18:28 )
كانت رحلتنا إلى الجولان العربي السوري المحتل يوم السبت الماضي تحمل الصفة الرياضية ... مباراة كرة قدم يبرز فيها التنافس بين شباب في مقتبل العمر، والكل يسعى للفوز والكأس ... وحين انطلقت الحافلة من أمام المدرسة الرشيدية في باب الساهرة بالقدس، كان لاعبو أندية القدس:

الهلال وسلوان والمكبر قد ملأوا مقاعد الحافلة، بعضهم يستمعون لموسيقاهم الخاصة بتثبيت قرص الأغاني من الجهاز الى آذانهم، والآخرون يتحدثون عن مباريات سبقت وأخرى ستقام على ملاعب الضفة ...

في الطريق إلى الجولان كان لاعبو كرة القدم وقد تخيلتهم وهم يرسمون بأحلامهم صورا لنجوميتهم المستقبلية ذات الشهرة والمال والجاه، وأكثر ما يفكرون به هي كرة القدم الفلسطينية ومباريات برشلونة وريال مدريد، عبر تلفاز أو لعبة "دي في دي" أو قراءة أخبار الرياضة المحلية والعالمية عبر الجرائد الفلسطينية أو تصفح المواقع الاليكترونية للمؤسسات والأندية والاتحادات الرياضية.

ولكن منهم من سرد قصص الهبة الشعبية في سلوان والصراع اليومي بين المستوطنين والسكان الفلسطينيين الأصليين في هذا الحي العربي الذي يقال عنه بأنه البوابة الشرقية الجنوبية للمسجد الأقصى المبارك.

شواهد الطريق
أما الطريق إلى الجولان لانجاز المهمة الرياضية بدأت عبر القسطل وباب الواد واللطرون ... يمكنك أن تشاهد التاريخ من خلف نوافذ الحافلة ... أشجار كثيفة تغطى مساحات الأرض ... دبابات انجليزية قديمة استخدمتها العصابات اليهودية ضد متطوعي الجهاد المقدس وقد تركت على هامش الشارع الرئيسي في باب الواد لتحكي بصمت قصة المعركة الحاسمة..

بعد سفر ساعتين ونصف في شارع رقم 6 الذي التهم آلاف الدونمات من أراضي المدن والبلدات العربية وصلنا الى مفرق طرق قريبة من مرتفعات الجولان، وهناك كان ينتظرنا وفد من بلدة مجدل شمس، ورافقنا في الحافلة مواطن مجدلي يدعى سلمان فخر الدين، عرفنا في ما بعد انه احد الناشطين في مؤسسة المصدر – وهي مركز لحقوق الإنسان في الجولان العربي السوري المحتل ... تحدث مرافقنا عن اللاجئين من سكان الجولان الأصليين الذي هجروا قسرا ... قال: "95 % من سكان الجولان اجبروا على الهجرة القسرية إلى داخل سورية تاركين أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم الأمر الذي دعا السلطات الإسرائيلية إلى عزل الجولان عن سوريا والسيطرة على موارد الهضبة من الأراضي والمياه ولم يتبق من السكان إلا عشرون ألف نسمة.

سألته: كم عدد المستوطنات التي أقيمت على أنقاض البيوت والأراضي للسكان الأصليين المهجرين؟
أجاب: بنيت ثلاثة وثلاثون مستوطنة، لقد هدمت سلطات الاحتلال قرى عديدة منها سنديانه وعيون السمسم وعناتا، وكفر نفاخ التي أصبحت آثارا مسواة بالأرض وتحولت إلى معسكرات للجيش أو مستوطنات، وسهل المنصورة الذي تبقى منه برج الماء والمدرسة التي تم تحويلها إلى مزرعة أبقار.

وفي الطريق شاهدنا مرتفعا جبليا يسمونه تل أبو الندى، ويقام عليه اكبر محطة استشعار عن بعد في الشرق الأوسط .. بينما تقع على الجانبين من الشارع مبان عسكرية سورية مهدمة منذ الحرب تستخدم للسياحة الإسرائيلية .. وأبقى الإسرائيليون على مبنى المحافظة وسينما الأندلس شاهدا ومعلما من معالم حرب ال 6 أيام ....

سألته: كيف كان السكان يعيشون ويمارسون حياتهم في مساحة 1150 كيلو متر مربع هي مساحة الجولان المحتل؟
أجاب: اصدر الحكام العسكريون الذين تعاقبوا على حكم وإدارة الجولان مئات الأوامر العسكرية بمنع عودة المدنيين الذين تم اقتلاعهم من أراضيهم وسكانهم ... . وأشار إلى مستوطنة "الروم" التي أقيمت على أنقاض قرية كانت تسمى عيون الحجل، وفي الطريق إلى قرية مسعدة وهي قرية جميلة تسبقها غابات من أشجار السنديان قطعنا مسافة قصيرة الى ان وصلنا إلى بلدة مجدل شمس التي اشتهرت بالتفاح و" بوادي الدموع " الذي أطلق عليه الإسرائيليون " تل الصراخ "، وفي هذا الوادي كنت تشاهد الأقارب يتواجهون على خط وقف إطلاق النار وهم يستفسرون عن أحوال بعضهم البعض والدموع والأسى عنوان في وجوهم !!

وحدة عربية
وعند مدخل مجدل شمس يلقاك تمثال لقائد ثورة عام 1927 اسعد كنج أبو صالح، ثم تقابلك ساحة سلطان باشا الأطرش ذلك "القائد العربي السوري الذي قاد ثورة كبيرة ضد الفرنسيين المستعمرين"، وفي الساحة اصطف الشيوخ والوجهاء وكبار البلدات في الجولان للسلام على الوفد الرياضي المقدسي ، أغلقوا شارع ساحة سلطان باشا الأطرش ورفعوا الأعلام السورية والفلسطينية ... رحبوا بنا بحرارة غير مسبوقة واقتادونا الى صرح الشهداء الذين سقطوا في حرب الأيام الستة حيث وضع عبد القادر الخطيب رئيس الوفد المقدسي إكليلا من الزهور على صرح الشهداء، وقرأت الفاتحة على أرواحهم الطاهرة وألقيت كلمات حماسية رفعت من قيمة النضال والكفاح من اجل الوطن والأرض والشعب والتاريخ.

ثم قام الوفد وبصحبة كبار ووجهاء مجدل شمس والقرى المحيطة بالسير في الشارع الرئيسي للبلدة مرددين أناشيد وطنية تدعو إلى الوحدة والالتفات الى الوطن الغالي ووضع الأيدي بالأيدي من اجل أن تبقى الوحدة العربية رمزا يدعى الجميع للعمل به وترجمته الى واقع ملموس وبينما موكب الضيوف والأهل يخترق الشوارع وإذا بالسكان يخرجون من بيوتهم يحيون الضيوف من القدس ويرفعون الأعلام السورية والفلسطينية.

كان لقاء أعضاء إدارة نادي النهضة بنا رائعا أولا بالابتسامة العريضة وبالسلام الحار والعناق الدافئ ... زرنا نادي النهضة وهو عبارة عن صالة صغيرة تقع في الدور الأرضي فيها طاولتين لكرة الطاولة ودرج يؤدي إلى طابق علوي منخفض السطح مخصص لاجتماع مجلس الإدارة ... لكن ليس بمساحة المكان تقاس الحيوية والنشاط والإنتاجية، بل بسعة عقول الذين يديرون النادي، فلا يوجد فيه احتراف ولا يوجد فيه سوق لشراء اللاعبين ولا توجد مغريات لجذب هذا اللاعب أو ذاك، والكل يتقدم بمجهوده ومن حسابه الشخصي للعب وممارسة الرياضة وتقديم الدعم المالي والمعنوي من اجل البلدة والجولان وسكانها.

نصرف من جيوبنا على الرياضة
سالت عصام أبو جبل المشرف الرياضي لنادي النهضة: هل تتلقون مساعدات من الحكومة السورية أو من وزارة الشباب والرياضة أو من جهة إسرائيلية؟
أجاب: نحن لا نتلقى أي مساعدات لا خارجية ولا داخلية ... نحن نصرف من جيوبنا ومن دعم الأكارم من الأهالي ومن اشتراكات الأعضاء.

وفي الوقت الذي وصلنا فيه إلى احد منازل أهل البلدة لتناول طعام الفطور انشغلت النساء في تحضير الطعام:
مناقيش زيت وزعتر، صفيحة، حمص، خبز الصاج، شاي وعصائر .. تماما كالفطور الذي يفتح النفس والتي كانت أمهاتنا تحضره لنا ...

مشهد وادي الدموع
وفي مشهد "وادي الدموع" .. المنطقة الحرام المزروعة بالألغام من الجانبين الإسرائيلي والسوري .. شاهدنا جبل الشيخ يطل علينا وهو يعانق السماء ... شاهدنا السلك الشائك والسلك المكهرب ، واستمعنا إلى قصص استشهاد الفدائيين من عائلات مجدل شمس والجولان ... رأينا في ربوه عالية برج مراقبة للجيش الإسرائيلي ويقابله في الاتجاه الجنوبي الشمالي برجا أخر لحراسة الجيش السوري، وبيوتا متناثرة هنا وهناك في الجانب السوري، وكان بعض سكان مجدل شمس الذين شاركونا حيرتنا من الذي نشاهده قد جاءوا وقالوا: أتشاهد ذلك البيت الذي واجهته بيضاء ... وقلت نعم.

قال انه لأختي !؟ وقال آخر ذاك البيت لاخي، نقف هنا نلوح لهم بالمناديل أيام الأعياد والمناسبات، انه شيء يحزن القلوب، فالحروب ما زالت تفصل بين الإنسان وأخيه أو أمه وأبيه !!...وقد يرى الأهل والأحباب عبر "ميكروفون" مضخم للصوت وهو مشهد تذرف فيه الدموع الساخنة والحانقة . !!

متحف من عمروا أرضهم
وانطلقنا بعدها من واد الدموع الى متحف مجدل شمس ... فيه صورواخبار معلقة في ممرات المتحف تدلك على بطولات الزعيم سلطان باشا الأطرش وأبناء عائلته الكبيرة، وكذلك هناك صور تحكى قصة الإنسان العربي الذي سكن الجولان وعمر الأرض بالناس والماء والخضرة والثمر، في جو من العمل والبناء في حضن الطبيعة التي تنتج لبنا وعسلا وهواء يشفي العليل.

تفاح المرج
لعب شبابنا المباراة في أجواء احتفالية جمعت شيبا وشبانا من الجولان وانتهت المباراة بفوز الفريقين والمتفرجين وأهل مجدل شمس ...، بعدها دعينا لتناول طعام العشاء في منطقة المزار الذي يقع في مرج " اليعفوري " (أو أبي ذر الغفاري ) كما قيل لنا ... هناك في المزار تجمع الأهالي كأنه مولد النبي موسى في القدس، وتحيط بالمزار، الدكاكين التي تديرها النسوة باقتدار ...، والزوار يصلون ويشوون اللحوم ويمرحون ...

واستمع بعضنا الى شرح لأهمية خل التفاح والعسل الجبلي المستقى من شجرة السدرة ... قالت لنا بائعه:
خل التفاح هذا مفيد جدا إذا خلطته بالماء وشربته فإنه يساعد على إذابة الدهون من الجسم ... وإذا ما تذوقت تفاح الجولان فانك ستقول : "الله على الطعم الأصلي" الذي يفوح برائحة المكان ويعود بك إلى الزمن الذي كنا نتذوق كل ما نأكله من الفاكهة أو الخضار على عكس ما نأكله اليوم !

تناولنا طعام العشاء وحمدنا الله وشكرنا مضيفنا نادي النهضة على حسن الضيافة والكرم العربي الأصيل وعدنا إلى القدس كل واحد منا محملا بهدية تفاح الجولان العربي .

وفي الحافلة حين عودتنا إلى القدس تجمعت في مخيلتي صورة الأرض والناس استحضرت ما قاله شاعرنا محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة ".

لقد أصاب محمود درويش في وصفه هذا، بينما نكاد نحن نصاب بغربة في الزمان واغتراب عن المكان . !؟

*سامي مكاوي: مدير دائرة الاعلام بالاتحاد الفلسطيني لكرة القدم.