كيف تدلل إسرائيل الصحافيين الأجانب؟ سلة العروض الشاملة لمراسلي الميدان الأجانب!!
نشر بتاريخ: 12/08/2006 ( آخر تحديث: 12/08/2006 الساعة: 11:03 )
معا- الدعاية الجيدة جزء أصيل من آلة الحرب كما حال القنابل والجنود, الرعاية الإسرائيلية للصحافيين الأجانب تنبع من إدراك ساسة إسرائيل النافذ هاتيك القواعد والدروس.
وتلك رعاية فائقة وفي فاعليتها تثير الإعجاب, ومنها يستفيد الكثير من الصحافيين ويركنون إلى جوانبها الشاملة.
الإتصال الصباحي في التاسعة يجيء دائما في موعده: "صباح الخير يا سيدي! معك المكتب الصحافي الحكومي الإسرائيلي." هكذا يفاتحك الصوت الأنثوي المريح. "
ما هو برنامجك اليوم؟ هل تحتاج إلى فكرة (قصة) ما؟". وبعدها تنساب الإقتراحات لتطال رزمة فيها أسماء خبراء ومحادثين, جولة على المواقع التي أصيبت بالصواريخ ومنها بيوت خاصة في حيفا, حوار مع ضحايا القصف, وخبير عسكري يشرح لك أمام الكاميرا- إن أردت - شيئا عن طراز الصاروخ الذي سقط."
وذلك فيض من غيض هو عند السيدة التي تتحدث باسم المكتب الصحافي الحكومي متابعة:"الذروة تأتيك لاحقا, فعندنا لك في نهاريا فرصة محادثة مع والدي أحد الجندين المختطفين في لبنان". ذلكما هم ذوو الجندي (أيهود غولد فاسر), الذي وقع في الأسر عند حزب الله يوم 12 تموز 06. والداه ينتظران في الفندق ويجيدان الإنجليزية.
وفي الضحى يتقاطر (استجابة للعرض الحكومي) رهط من المراسلين غالبيتهم من بولندا أو جمهوريات من الإتحاد السوفياتي سابقا. فينهل نحو عشرين إذاعيا وبعض الكتاب مما أعد لهم في الفندق من قهوة ومن ساندويشات. ثم يظهر والدا الجندي ويلجان بهو الفندق بتؤدة ووجوم. بشيئ من التردد يتقدم الوالد أولا نحو الميكروفون.
كثرة الميكروفونات التي أمامه على الطاولة توحي بأن سياسيا قديما سيلقي كلمة هامة. يتصبب الوالد عرقا وتلوح شرايينه المتصلبة من تحت جلد وجهه والعروق. لم يطل الوالد في الحديث بما يزيد عن مضمون ما يهمسه رجال الأمن المختصون في آذان ذوي المخطوفين في مثل هذه الحالات - وخصوصا عندما يوجهون النداء عبر وسائل الإعلام. ويقول جولدفاسسر: "أنتم خاطفي ولدي تتحملون كامل المسؤلية عن سلامة إيهود". ثم يضيف: " وتتحملون كذلك وزر إعادته سالما إلينا." (....) " وليس لدي المزيد لأضيف, فما أنا برجل السياسة وإنما أنا أب".
الضحايا البشر مادة دعائية مجردة:
ما أن فرغ الوالد غولد فاسر من مداخلته السريعة, حتى خيمت أجواء عراك على المكان. يتعالى صراخ المصورين. ويصيح احدهم:" يا سيد غولد فاسر, هنا من فضلك. أرجو عدم الإبتسام!" وآخر يطلب منه أن يحكي قصة عن طفولة ولده, فهذا يؤثر في المشاهدين. وآخر يطلب إلى الأم أن تتصفح للكاميرا ألبوم صور لزواج ابنها لتهز بذلك قلوب الأمهات. ويستمر "العرض المهرجاني" قرابة تسعين دقيقة يؤكد الوالدان خلالها أنه ما لهم في السياسة من شيئ. كل ما في الأمر ان أحدا ما قد أخبرهما بأهمية الظهور العلني لقضية ابنهما وإنقاذ حياته.
وظهورهما يتم تنظيمه من قبل المركز الصحافي الحكومي لأغراض المراسلين الأجانب لتعريض صورة معاناتهما لضوء الإهتمام العالمي. وإبان ذلك يتمركز الوالدان في دائرة الضوء, ولكنهما لا يخرجان عن كونهما أرقاما مجردة (في معادلة الدعاية الحكومية).
الدعاية إذا جزء من الحرب, وبخاصة عندما تكون الدولة معنية بتصوير حربها بصورة الحرب العادلة والمبررة. وقد شوهدت نفس اللعبة في حرب الخليج (الثلاثينية) وحرب الخليج الأخيرة وحرب أفغانستان. هناك عملت الطواقم بحجم الطوابير على تسويق قضية أصحاب الحرب إلى الإعلام محشوة بالصور العاطفية. ذلك أمر اعتيادي يتعاطونه على شكل علاقات عامة من أجل الحرب - كما تقولون.
لم نكذب عليكم, بل اعتنينا بكم
لا يكاد اثنان يختلفان على أن سيلا من الأكاذيب ينساب في مجاري وقنوات المعلومات المبثوثة من هنا إلى هنالك. وكذلك فما هو بالشيئ المعيب أن تجهد إسرائيل نفسها وهي تحت تهديد الصوارخ من حزب الله في استخدام الإعلام لتغطية أحوال الضحايا في الإعلام. هذه الضحايا (وعددها 17 حتي تاريخ كتابة هذا التحقيق) هي ما يعطي الحرب الإسرائيلية على حزب الله ولبنان بأكمله مبرراته ومعناه. (إسرائيل تسعى لاحتلال دور الضحية لتبرير استمرار الحرب-المترجم).
لكن اعتناء إسرائيل بالصحافيين الأجانب يصل إلى حد البذخ والإفراط. فما أن يتم اعتمادك بلامكتب الحافي كمراسل اجنبي حتي يمطروك بالمكالمات والرسائل الإكترونية وفيض من المعلومات. وإن يكن معتاد للصحافي الألماني في بعض أماكن العالم (غير المرحبة) أن يجامل ويداهن ليحصل على المعلومة وسبل الإتصالات الشخصية تراهم هنا ي إسرائيل يطيرونك على بساط الريح بمائدة العروض الشاملة.
هنا لا يمارسون التضليل أو التعتيم, بل إنهم يعتنون ويدبرون. أفكار ناجزة لقصص وتقارير وربورتاجات, جولات بالباص يتخللها الغداء (بالمجان), خبراء عسكريون مختارون. كل ذلك يتدحرج إليك بإرادته ودون كبير عناء. وعليه يقبل الكثير من الصحافيين سعداء. ولأيام عدة "تقادحت" ومضات صور المدافع الإسرائيلية حول العالم. وقد التقطت وقت الغروب من الأماكن المرتفعة التي يوصلك إليها المكتب الصحافي ويعلم أن المصورين يحبون الضوء وقت الغروب.
أحسن الرسائل الإلكترونية جاء يوم الأربعاء حاويا لأحد عشر اقتراح من المكتب الصحافي:
قصة عن النازحين الإسرائيليين؟ أو عن مشاكل العرب الإسرائيليين (العرب في إسرائيل - المترجم)؟. إقتراح ل Feature عن قرية تم توزيع سكانها على جميع أنحاء إسرائيل؟ ريبورتاج عن بشر تحتم أن يغادروا منازلهم؟ مقابلة رهائن سابقين؟ أم أنك سيدي تفضل يا ترى شيئا عن قرية (صامدة) يتم إطلاق النار عليها منذ عشرات السنين. هنا... كل شيئ ممكن.
الأسماء المقترحة للمقابلات عندها أرقام هاتفية
تقول امرأة المكتب الإعلامي اللطيفة أن ما من حاجة للكثير من الحركة هنا في المواصلات, فمعظم الأشخاص المفترض بك مقابلتهم حاضرون على خط الهاتف. "وذلك يناسب طبيعة العمل الإذاعي حكما" كا تقول. المنظمون يعرفون رغبات المراسلين بدقة, ويراعون التزام رجالات التلفزة والمذياع بالظهور والمداخلات المتكررة على رؤوس الساعات ومن ثم افتقارهم للوقت الكافي لمغادرة الهوتيل.
وهكذا وفور سقوط الكاتيوشا على سبيل المثال يبرقون إليك عبر البريد الإلكتروني لائحة بأسماء شهود العيان مسلحة بأرقام الجوالات. وبمثيل هذا اليسر يتم جسر الهوة اللغوية. فتحتوي كل لائحة على أسماء شهود يتكلمون لغات مختلفة! وفي بلد المهاجرين إسرائيل يتراكم الكثير من الخضار المشكل في "الحلة": هناك المتكلم بالإنكليزية أو الفرنسة أو الإسبانية أو الروسية وبطبيعة الحال بعض المتحدثين بالألمانية في كل مدينة. لا حاجة هنا- عليه - لخدمات الترجمة الفورية المكلفة. وعندئذ على أبعد حد يتذكر المرء (كألماني) يافطات "هنا تحكى الألمانية" التي تنتشر بكثرة في جزيرة مايوركا الإسبانية التي يرتادها ملايين السواح الألمان كل عام.
اليوم هو يوم الجمعة والساعة 9:28 . فات موعد الإتصال اليومي من المكتب الصحافي. لم يتصلوا إذا. لكن برنامج اليوم يأتيك عبر البريد الإلكتروني. اليوم سيتوجه عضو للمطبخ الوزاري المصغر إلى مدينة في الشمال.وسيكون مناسبا - وفق معطيات البريد الإلكتروني أن نتناول موضوع عرب الداخل, وذلك نظرا لأن الوزير إسحق هيرتسوغ سيتوقف هناك. لم يتبين لي عدد الصحافيين الذين أخذوا بالفكرة. ولكن الأكيد هو أن رسالة بريد الجمعة لن تكون الأخيرة في أيام حرب قد تطول للمزيد من الوقت.
تعقيب المترجم:
لقد عمدت إلى ترجمة هذا التقرير ونشره عساه يسلط الضوء على الفرق بين نظرة الفلسطينيين وتعامل الإسرائيليين مع الصحافيين الأجانب. هناك تفاوت مريع بين وعي الإسرائيليين بأهمية الرأي العام وإهمالنا ولامبالاة بعضنا بصورتنا في نظر العالم. لا بد لنا من الاقتناع بأنه لا يمكن لك أن تكسب اليوم قضية في أي ميدان ما لم تجمع حولها تأييد الرأي العام المحلي أو الدولي.
لقد نأينا طوال السنوات الست الماضية عن تعاطف الرأي العام الدولي وأفلحت إسرائيل بتصوير نضالنا على أنه إرهاب وحشرتنا في موقع الدفاع بينما هي تحتل كل أرضنا. اليوم نجد "الحزب الحاكم" في بلدنا مسجلا على ما يسمى بلائحة المنظمات الإرهابية. يجب علينا تركيز نضالنا من أجل رفع اسم كل المنظمات الفلسطينية عن هذه اللائحة الجائرة.
ولإنجاز ذلك علينا أن ننجح في أن نوضح للعالم حجم الفارق المحيطي الأبعاد بين نضالنا من أجل الحرية وبين الإرهاب الإجرامي الذي لا يصح أن يرتبط بسمعة نضالنا الطويل. العالم يتفهم أن ينهض الفلسطيني لرفض الذل بكل سبيل لكنه يتغاضى عما يفعله الإسرائيليون بمدنيينا, وقد حان الوقت لنسأل أنفسنا عن الأسباب.
ولقد عجزت الحكومة الفلسطينية الحالية عن إقناع العالم بأنها تملك تصورا منطقيا ورؤية لتحقيق السلام. وكان أجدر بها أن تحذوا في هذا حذو سابقاتها. فقد تمكنت السلطة الفلسطينية خلال الانتفاضة وحتى الانتخابات التشريعية من أن تحفر في وعي العالم "ممرا آمنا" لحق الفلسطينيين في المقاومة وحقها هي في السعي الجاد لإتمام العدالة للفلسطينيين بالسلام. وفي إسرائيل يمارسون القتل بحقنا ويتحدثون للكاميرات عن السلام, أما عندنا فيدعوا البعض لهدنة غير مشروطة لخمسين عاما ويلتزمون بها عمليا بينما هم يتشدقون لوسائل الإعلام الغربية بأن من أهدافهم "تدمير إسرائيل". والنتيجة هي أن العالم قد بدأ يتفهم أن من حق اسرائيل "أيضا" أن تدمر فلسطين.
* ترجمة الدكتور جمال نزال / عن دير شبيغل الالمانية