الجمعة: 20/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

موقع "إيلاف" /فتياتُ الليل وحرب لبنان: بين من صمدن في مرابعهن ومن غادرنها هاربات

نشر بتاريخ: 31/08/2006 ( آخر تحديث: 31/08/2006 الساعة: 19:29 )
بيت لحم -معا- نشر موقع "ايلاف" تقريرا من مراسله في بيروت رصد فيه قاع المدينة التي طالما ضجت بزوارها وسهرت معهم حتى مطلع الفجر وحياة فتيات الليل خلال الحرب .

حسن المصطفى موفد "إيلاف" إلى لبنان:

لم يكن سهلا على مايا، الصبية التي لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها أن تظل في بيروت، في الوقت الذي كانت فيه دائرة الحرب الإسرائيلية تتسع يوما بعد آخر. مع كل ما يخلقه صوت القذائف والتدمير من رعب في قلبها، إلا أنها قررت البقاء، فالخيار كان واضحا بالنسبة لها، "أن أموت في بلدي، أشرف لي ألف مرة من أن أهرب، وأموت في بلدٍ ثانٍ".

مايا، فتاة الليل، صبية اللذة المنتظرة، من تندس أصابع الرجال خلسة مداعبة مفاتنها، ما ظهر منها، وما استتر. نهداها الباذخان يطلان عليك من خلف حمالة سوداء، نهدان طالما طبعت قبلة عليهما شفاهٌ عابرة، وأُشعلت أعواد ثقاب. تلك الصبية التي ينظرُ لها الكثير من الناس بعين الاشتهاء تارة، وعين الريبة أخرى.

يشتهون قضم أجاصتها الطرية، ويشتمون مهنتها. فأن تعتاش فتاة من عرقِ "أوراكها"، أمرٌ مريبٌ في نظر مجتمعها المحافظ والمنافق في آنٍ معا.

بالنسبة لها، تعتبر مايا نفسها فتاة لبنانية كباقي الصبايا الأخريات. تشعر بما يصيب وطنها من ألم، وتعبر عن هذا الشعور بالبكاء ساعة، والغضب تارة أخرى.

لا ينقصُ ما تقدمه من خدمات جنسية من تمام لبنانيتها، رافضة وبشدة الطعن من قناتها، أو اللمز ولو خلسة "أرفض أن يشطبني أحدهم، أو أن يسلبنني لبنانيتي أو أن يتعامل معي كآلة وكأنني لا إحساس لي ولا شعور، وكأن الشهداء الذين يسقطون من كوكب ثانٍ بعيد عني كل البعد".

ذات وجهة النظر هذه، تسمعها أيضا من رندا، السيدة التي كانت في صباها فتاة ليل، ومنذ 7 أعوام أصبحت صاحبة محل، بعد أن استلمت إدارة ملهى Candle Light، الواقع في شارع "جان دارك"، بمنطقة الحمرا، ببيروت، بعد خبرة 15 عاما في العمل الليلي.

ممسكة بسيجارتها، وجالسة بوثوق على الرصيف المجاور لمحلها، تقول وبثقة "لم نغلق باب المحل ليلة واحدة طيلة الحرب. بقينا هنا صامدين، ولم نهرب.

ومنذ أول يوم أخبرت الصبايا العاملات في المحل، أنهن حرات، من تريد البقاء تبقى، ومن تريد الفرار، فلن أمنعها"، مضيفة "بقيت صبية واحدة معي، فيما 3 أخريات هربن إلى سورية.

ومع أن صبية واحدة لا يمكنها تغطية حاجة جميع الزبائن، إلا أنها بقيت تعمل طيلة الوقت، ولم تتخلف يوما واحدا. الآن باقي الصبايا عدن من سورية. بعضهن عملن هنالك طوال الفترة السابقة، والبعض جلسن دون عمل".

الزبائن بدورهم، كيف كانت أحوالهم، وهل كان بالأصل ثمة زبائن تجيء للمحل؟ تجيبك رندا "في أول أسبوع كان القلق يسود الجميع، ولذا كانت الزبائن قليلة جدا.

لكن وبعد الأسبوع الأول، والعشرة الأيام الأولى، بدأت الحركة تعود تدريجيا، وكنا في أسوأ الأحوال نستقبل 5 زبائن يوميا، وأحيانا يصلون إلى 10، وهو رقم مقبول في مثل هذا الوضع".

كان السهارى، يجيئون إلى المكان لينسوا جو الحرب ويخرجوا منه، وكان يُلحظ على بعضهم أنه كان يحتسي من الكحول، ضعف الكمية التي كان يحتسيها سابقا. فمن كان يشرب 3 كاسات من الوسكي، صار يحتسي 5 أو 6 كاسات، لأن الألم كان لدى بعضهم لا صبر عليه.

تروي رندا عن أحد الزبائن "أتانا في إحدى الليالي رجلُ (ختيار)، وحاله النفسية صعبة، علمنا منه أنه فقد 3 من أقاربه في القصف الإسرائيلي الأخير، وكان يبكي.

صرنا نواسيه ونصبره، ونقول له أنهم ذهبوا للجنة، وأنهم شهداء عند ربهم. إلى أن هدأ قليلا، وبدأ يتمالك نفسه".

كثير من الزبائن -على قلتهم- كانوا يقضون الوقت في النقاش السياسي حول الأوضاع الراهنة، بين مؤيد ومعترض، وحانق، وشاتم.

الموقف السياسي لرندا، ومعها الصبية مايا، كان داعما للمقاومة، ومؤازرا لها "نحنا مع المقاومة، واللي قامت بيه شي منيح، وبيرفع الراس"، معللة موقفها هذا، بقولها "ليش بيكون من حق إسرائيل أن تقصف، وتهدم البيوت، وتقتل النساء والأطفال، ونحنا ما بيكون من حقنا أن ندافع عن أنفسنا. المقاومة وقفت لإسرائيل بالمرصاد".

خطابات السيد حسن نصر الله، كانت تتابعها رندا على التلفزيون، وفي حال انقطاع الكهرباء، كانت تستمع لها عبر الراديو، شاعرة بـ"مسئولية تجاه ما يقوله السيد، وكنت أبكي أحيانا واني بسمعه، ويوقف شعر بدني".

مايا هي الأخرى، كانت على درب "معلمتها"، فعندما سألناها عن السيد نصر الله أجابت، "السيد تاج راسنا وأكثر، ونحنا فدا السيد". عبارة تسمعها من كثير من جمهور "المقاومة"، على اختلاف طبقاته وتوجهاته المذهبية والمناطقية، لكن، هذه المرة لها وقعها الخاص، كونها صادرة من فتاة ليل، ولذا سيكون لها أكثر من تفسير.

البعضُ سيرى فيها إهانة للسيد نصر الله، وكأنك تدنسه بذكر اسمه على لسان "عاهرة". وآخرين سيستخدمونها للغمز والسخرية، شامتين من نصر الله لامتداح "داعرة" له، وكل هذه التفسيرات لا تعني شيئا لمايا، لأنها "لي مطلق الحرية أن أقول رأيي وبكل صراحة. فنحن في بلد ديموقراطي، وليس من حق أحد أن يصادر رأيي"، متسائلة في ذات الوقت "من يستهجنون أن يكون لي رأي سياسي، أليسوا بشرا مثلي مثلهم. هل يجوز لهم أن يسهروا، ويسكروا، ويعربدوا، ويناموا مع الصبايا، ويخرجون من عندنا ليكون لهم الحق وحدهم في الكلام، فيما نحن ممنوع علينا! مهنتي شي، والسيد شيء ثاني. وما بيعني إني عملت خطأ إني ما بكون لي رأي وموقف".

إجابة الصبية، ترجع بذاكرتك إلى الوراء، لتستحضر يسوع ومريم المجدلية، عندما قال المسيح "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر"، ساعتها لم يتقدم أحد. مريمُ المجدلية التي ازدراها قومها، هي ذاتها التي لم تخن يسوع، ولم تسلمه لصليبه، ووقفت معه حتى آخر صرخة وجع، فيما مدعو القداسة هربوا، وأسلموه لأعدائه وحيدا.

البعض من الزبائن، يحبُ أن يتلهى بجسد فتاة، فيما هو يشرب كأسه. كانت مايا هي من تقدم لهم هذه الخدمة الكريمة. رغم أن "النفسية كانت تعبانة بسبب القصف، ومشاهد الأطفال، كنت أجلس مع الزبائن ولا أرفض لهم طلبا. ولكني في ذات الوقت كنت أشرب قنينة البيرة، دون أن أشعر بطعمها. جسدي كان مع الزبون، فيما تفكيري وروحي في مكان آخر".

التعب النفسي الذي كان لدى الطرفين، الزبائن، والفتيات، كانت رندا تحاول الترويح عنه عبر الحديث المباشر مع رواد مربعها. تستفسر عن أحوالهم، تسليهم، تضحكهم، تتناقش معهم في كل شي، من السياسة إلى الجنس، وفي بعض المرات، كانت تعفي بعضهم من دفع المبلغ المتبقي عليه، لعدم توفره لديه في هذه الظروف، فـ"نحن في حرب، ويجب أن نراعي ظروف بعض الزبائن، خصوصا القديمين منهم، لنحافظ عليهم أيضا من جهة أخرى".

هذا الموقف الداعم للمقاومة ألا يبدو غريبا، سألنا رندا، خصوصا أنها تعمل في مهنة يراها حزب الله من "الكبائر"، و"المحرمات"، ومن المؤكد أنه لو سيطر على لبنان، سيمنع هكذا محلات، أجابت "نحن واثقون من حزب الله، ومش خايفين. ولبنان بلد ديموقراطي، ومستحيل يتحول لإيران ثانية. وأريد أن أخبرك خبرية مهمة. في هالحرب ما في أحد تعدى على المحل، ولا أطلق رصاصة وحدة، أو استغل الظرف وتعرض للبنت اللي معي. في حين كنا في الحرب الأهلية، نتعرض لزعرنة وتحرشات وسرقات، وضرب بالسكاكين".

تلك كانت تجربة ملهى Candle Light، تجربة لها خصوصيتها، مهنيا، وسياسيا أيضا، فماذا عن باقي الأماكن؟. على بعد أمتار قليلة جدا، كان ملهى آخر. لكن صاحبته فضلت إغلاقه، وعادت لتفتحه من جديد بعد أن توقفت الأعمال الحربية، "الحركة في المنطقة قليلة جدا. ولم يكن هنالك من مردود مادي يستأهل أن نفتح من أجله. لذا فضلت إغلاق المكان طيلة الحرب".

في النوادي الليلة الأخرى في منطقة الحمرا، -وخصوصا تلك التي تعتمد في شغلها على الفتيات الروسيات، والأكرانيات، والرومانيات- شلت الحركة تقريبا، لأن فتيات جمهوريات روسيا المستقلة، هربن من فندق "البافيون"، حيث كانت إقامتهن، وحزمن حقائبهن، وعدن أدراجهن إلى بلدانهم، بعد أن استدعتهم السفارات، وأمرتهن بالرحيل، خصوصا أنهن هنا جئن بحثا عن عمل، لا عن "الشهادة".

رحيلٌ كان في صالح فتيات الهوى اللبنانيات، بحسب رندا، والتي استبشرت بسفرهن، لأن منافسا أساسيا خرج من السوق، ما يعني أن عدد الزبائن سيزداد، فـ"مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد"!.

في جونية، والمعاملتين، كانت السوق "مضروبة" من الأساس، بسبب غياب السياح، وخصوصا الخليجيين منهم، والذين كانوا يسهرون لساعات متقدمة من الفجر في نواديها الليلية، ويدفعون مبالغ مجزية بالدولار الأمريكي، نظير كل فتاة يصطحبونها معهم. إلا أن فقدان السياح، وسفر كثير من العاملات هناك، وانحسار عدد كبير من اللبنانيين عن النزول للسهر، أضر بالسوق كثيرا. وجعل كسادا يسود، حتى لدى اللبنانيات المتواجدات. فترى عدد منهم متناثرات، يشترين "المناقيش" الصباحية، عند الخامسة فجرا، لتختار من بينهن ما طاب لك من جسد، كيفما شئت، وبثمن أقل من ثمنهن في الأيام العادية.

البعض من الصبايا ممن تقطعت بهن السبل، لك أن تراهن واقفات على طريق جونية السريع. تحت جسر "الدورة"، أو "جل الديب". من ليست لديه خبرة لن يعلم أنهن فتيات ليل. سيظن أنهن "عابرات في كلام عابر"، ينتظرن سيارة أجرة تقلهن لمخادعهن. فيما هن ينتظرن "تختا"، يكون جسرا لشيء من المال يسد عوزهن.

فتيات الليل الـ"كلاس"، من فئة خمسة نجوم. هن الأخريات هبطت أسهمهن. فالسولدير، وسط بيروت التجاري، حيث اعتدن النزول إليه، بلباسهن المثير، وتنانيرهن القصيرة، وثيابهن الوفيرة، كان مغلقا طيلة الحرب. والمطاعم الفخمة، والمقاهي التي يرتادها الخليجيون والأثرياء من لبنانيين، كانت بين مغلقة وخالية.

ومن كانت من الفتيات تسترزق من وراء سياسي أو إعلامي أو حزبي تصاحبه، فقدت هذه الصحبة، لأن عشيقها المتيم، سرقته الحرب منها.

تلك هي الحرب، حرمت فتيات الليل من أموال طالما حسدن عليها، ولكنها في ذات الوقت، ستزج بفتيات جدد إلى "أقدم مهنة في التاريخ"، لم يكنَ يوما في وارد ممارستها. فتياتٌ سلبتهم الحرب المال والمأوى والمعيل، لن يجدن سبيلا سوى الأكل بأثدائهن، عوضا عن الموت جوعا، في بلد، يزداد فيه السياسيون ثراء وفحشا، فيما الفقراء يزدادون تعتيرا وعوزا.