السبت: 16/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

"البقعة" جنة فلسطين استحال جمالها جحيماً

نشر بتاريخ: 26/03/2011 ( آخر تحديث: 26/03/2011 الساعة: 11:37 )
كتب خالد الفقيه - البقعة قطعة من الأرض تمتاز بظلالها الوافرة وقطوفها الدانية وكروم عنبها المتدلية، تختص بخصوبة منقطعة النظير وبدفق مياهها الجوفية، كانت فيما مضى تشكل سلة غذاء لجنوب الضفة الغربية ويتسابق الفلسطينيون ليحظوا بقطوف عنبها وخيرات ما تنبت أرضها من فواكه وخضار تتصف بجودة نوعيتها... بقي حالها كذلك واستمرت في الاحتفاظ بهذه الميزات حتى حطت على أطرافها الغربان السود عام 1972.

البقعة تقع إلى الشرق من مدينة الخليل شكلت منذ سنوات الأحتلال الأولى نواة لإنطلاق العمل المقاوم ضد المحتل حتى ما قبل نكسة عام 1967 فأحتضنت بين كرومها وفي كهوفها الخلايا المسلحة الأولى لحركة القوميين العرب ومن بين أشجارها أنطلق الفدائيون للمقاومة والمناوشة. وبعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة بخمس سنوات زرع المحتل في رحمها أكثر البؤر الاستيطانية تطرفاً فسارع لتشييد مستوطنة كريات أربع ففصل هذه الجنة الوادعة عن الحرم الإبراهيمي وقلب مدينة الخليل القديمة. من هذه مستوطنة كريات أربع إنطلق أكثر الصهاينة تطرفاً وحقداً دفيناً على عرب فلسطين متزودين بأكذوبة لا تاريخ لها تعود إلى هيكلهم المزعوم الذي ما فتئوا يبحثون عن بقايا له فردت مزاعمهم حقائق التاريخ والجغرافيا فلم تسعفهم أساطيرهم المؤسسة. من هذه المستوطنة إنطلق المأفون باروخ غولدشتاين لينفذ مذبحة بحق الركع السجود في محارب أبي الأنبياء إبراهيم الخليل.

وتعاني البقعة كما سكانها من إرهاب المحتل الذي لم ينقطع يوماً ولم يقف عند شكل واحد، فمن هدم المنازل إلى مصادرة الأراضي لصالح الاستيطان وشق الطرق الإلتفافية التي تخدم الغرباء وحدهم فيما يحظر على المالك الأصلي أن يفكر في إستخدام أو سلوك هذه الطرق.

ضريبة الصمود والمقاومة ارتفعت مقاديرها وفواتيرها في الإنتفاضة مع تقطيع أوصال الوطن وارتفاع وتائر إرهاب المستوطنين والجنود الإسرائيليين، فمعظم كروم العنب القريبة من مستوطنة كريات أربع باتت ممنوع الوصول إليها من أصحابها رغم إمتلاكهم وثائق تعود للحقبة التركية تثبت ملكيتهم لها، واليوم تقوم سلطات الاحتلال بعد سنوات من منع المزارعين الوصول إلى حقولهم ما أدى لتيبس معظم أشجارها وتحولها إلى ما يشبه الأرض البور بدفنها بخلفات البناء بغية طمرها تهيئة لضمها للمستوطنة كحدائق عامة وطرقات إلتفافية.

ومن صور المعاناة في البقعة هدم المنازل فبعض السكان جرى تدمير منازلهم مرتين أو ثلاثة ولكنهم بعزيمة وإصرار أعادوا تشييدها بأنفسهم دون أن يمد أحد يد المساعدة لهم كما يؤكدون، كما أن الطريق التي توصلهم إلى قلب مدينة الخليل وسوقها المركزي والتي لا تبعد عنهم سوى كيلو مترين مغلقة منذ تسع سنوات ببوابة حديدية ما يضطر المرضى والطلبة والعجزة لسلوك طرق أخرى تصل أحياناً إلى 45 كيلومتراً خاصةً وأن من يستخدم سيارة على الطريق الإلتفافي المعروف بإسم خط ستين الذي إبيلع ألاف الدونمات من أراضيهم ممنوع عليهم إستخدامها وإذا ما حاولوا ذلك فإن النتيجة تكون دوماً إما مصادرة مركباتهم لمدد طويلة أو تغريمهم مالياً أو الإثنتين معاً، وهو ما ينطبق على المزارعين الذين يضطرون لقطف ثمارهم يدوياً وحملها على ظهورهم إلى أسواق الخليل.

حفر الآبار يدوياً
وعند زيارتنا للمنطقة أخبرنا قاطنوها بأشكال أخرى للمعاناة اليومية التي يعيشونها فوصول مواد البناء لتشييد المنازل ممنوع ما يجبرهم على نقلها يدوياً وعلى ظهور الدواب كما يؤكد المواطن تيسير أبو شرخ الذي شيد منزله عام 1970 أي قبل بناء كريات أربع بمحاذاة منزله، حيث قال لنا أنه في يوم من الأيام أحضر مواد بناء لإضافة جزء أخر لمنزله فسارع المستوطنون للإتصال بجيش الاحتلال الذي سارع للمجيء ومصادرة المركبة وتغريمها بمبلغ 8 ألاف شيقل.

ويضيف: إن المستوطنين يعتدون عليه بالحجارة وتكسير سخانات منزله الشمسية فيما الجيش يراقب ذلك دون أن يحرك ساكناً إلا توفير الحماية للمعتدين والتنكيل به وبأسرته علماً أن للجيش معسكراً على تلة لا تبعد عن بيته إلا أمتاراً.

ويقول أبو شرخ أنه في أيام منع التجوال التي كان يفرضها الاحتلال على المنطقة كان يبقى حبيس البيت دون أن يعلم برفع المنع كون منزله يقع وحيداً على الطرف الغربي للبقعة وأن حركته كانت رهناً برؤيته باقي المواطنين يتحركون، مستطرداً أنه في أحدى المرات لم يسمع بإعادة فرض منع التجوال وكان في زيارة لأحد أقاربه ولدى عودته أمسك به الجنود فأقتادوه للإعتقال وفرضوا عليه غرامة مقدارها 350 ديناراً أردنياً وهو الأمر الذي تسبب له بالإنعزال عن باقي الجيران والأقارب الذين يخشون زيارته خوفاً من إعتداءات المستوطنين والجيش.

ويعتب أبو شرخ على السلطة الفلسطينية ومؤسساتها التي لا تدعم صموده على أرضه بل وتلاحقه بلدية الخليل لدفع مستحقات الماء والكهرباء ولكنه رغم ذلك يرفض الرحيل.

|122720|
آبار المياه في البقعة تحفر يدوياً

وبسبب منع الحفارات من العمل لحفر الآبار أو لإستخراج المياه الجوفية الغزيرة في المنطقة التي هدم الاحتلال معظمها يقوم المواطنون بحفر آبار جمع الماء يدوياً في عملية قد تأخذ عاماً بأكمله لتلبية احتياجات المنازل لا سيما وأن صهاريج المياه ممنوعة من الحركة.

كهوف للسكن
وبسبب هدم المنازل المستمر في البقعة يضطر المواطنون لإستغلال بعض الكهوف والمغاور للمبيت فيها كما فعل المزارع جواد جابر الذي أكد أنه أسرته تعيش في هذه المنطقة منذ 150 سنة وأن هدم منزله أضطره لبناء غرفة واحدة أمام كهف يستخدم كغرفة ثانية يعيش فيها سبعة أفراد يعملون في الزراعة ويعيدون زراعة ما يقطعه المحتل من أشجار بشكل فوري.


|122721|
كهف يستخدم كمسكن بسبب منع البناء

قصص الصمود في البقعة لا تتوقف عند هذا الحد فالمزارع عطا عبد الجواد مثال للتحدي فالبرغم من هدم منزله مرتين وحرق الثالث من قبل جنود الاحتلال لازال وزوجته يفلحون الأرض ويزرعونها بالخضار في تحد يومي لتخريب المستوطنين مزروعاته بواسطة الجياد التي يركبونها والإعتداءات بالضرب والتكسير عليه وعلى أفراد أسرته والتي أدت إلى بقاء والده المسن خمس سنوات طريح الفراش بعد تكسير أطرافه من قبل المستوطنين حتى وفاته قبل أشهر.


|122723|
إلتحام بالأرض

الموت في البقعة ليست استراحة محارب
الموت أو مجيء القدر المكتوب كما هو متعارف عليه في ثقافتنا أوجد له أهل البقعة فلسفة أخرى دمجوا فيها الموضوعي بالذاتي فأنتجوا وصاغوا جدلية جديدة مفادها أن الصمود والمقاومة لا تنتهيان بالموت العضوي وإنما يمكن أن يستمرا تحت الأرض كما فوقها تماماً.

أحد المواطنين الذي أمضى من عمره 18 عاماً في السجون الإسرائيلية وفقد منزله بعد هدمه، قرر بعد تحرره مواصلة رحلة كفاحه فأعاد بناء البيت وعمر مئات الدونمات من الأرض وجعل منها جنة تزدان بكروم العنب والزيتون وأشكال أخرى من الشجر والثمر، ولم يكتف بذلك بل قام ببناء مقبرة تضم عدداً من غرف الموت المشيدة على شكل غرف وأطلق علها أسم الإستراحة إيماناً منه بضرورة الإنزراع في رحم الأرض التي دفع ثمن حبه لها ثمانية عشر ربيعاً من زهرة عمره.

والإستراحة المذكورة لم تستضف حتى الآن أي من زوارها المرتقبين كما يقول المناضل جبران جابر وأن تشييدها كما يؤكد ليس إلا دليل على استمرار التشبث بالأرض ومواصلة للحالة الكفاحية خاصة وأن المحتل لم يستطع سلب الأرض من الأحياء فكان القرار ببناء المقبرة أو الاستراحة كما يفضل أهالي البقعة أن يسموها لتأكيد فرضية عظماء فوق الأرض حماة لها بعظامهم تحتها.

ويضيف جابر إن البقعة سهل فيضي خصب تصب فيه عدة أودية من شرق الخليل استهدفها الاحتلال لأنها تحيط بالخليل من الجهة الشرقية حتى يعيق تطورها وتوسعها العمراني لتتصل بالقرى الشرقية.

وعن سبل المواجهة التي اتبعها المواطنون هناك يقول جابر: نحن تصدينا للمخطط الاسرائيلي وبدأنا بحركة مقاومة مدنية عبر نشر البناء في البقعة على طول الأراضي المخطط مصادرتها، وأستصاحنا 4500 دونم من الأرض وجمعنا عدداً كبيراً من الأهل القاطنين في مدينة الخليل ما مكننا من بناء 128 منزلاً يسكنها اليوم قرابة الألف مواطن الأمر الذي قلب المعادلة وجعلنا نحاصر الحصار فلم يعد بإمكان مستوطنة كريات أربع التمدد شرقاً.

ولتدعيم صمود سكان البقعة طالب جابر السلطة الفلسطينية والمؤسسات المختلفة العمل على توفير متطلبات البقاء على الأرض لا سيما وأن البقعة ينقصها الكثير من الخدمات فلا يوجد بها خدمات صحية بشكل متواصل أو على مدار الساعة وينقصها مدرسة للأطفال وسيارات تخدم سكانها.

بدوره عزمي الشيوخي الناشط في مكافحة الاستيطان قال إن المنطقة تتعرض للسلب والنهب وسكانها يعيشون الجحيم ساعة بساعة بسبب اعتداءات المستوطنين المدعومين من جيش الاحتلال، مشيراً إلى حرق وهدم المنازل التي تتم بمباركة وتغطية من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

ومن حوادث الإعتداءات التي سردها الشيوخي دهس ثلاث طالبات جامعيات من البقعة من قبل أحد المستوطنين على الطريق الإلتفافي رقم ستين عدا عن النعرض لطلبة المدارس وترويعهم.

ويقول الشيوخي إن البقعة اليوم تتعرض لحصار من ثلاث جهات فكريات اربع تحيطها من الغرب وخارصينا من الشمال الغربي وبؤرة استيطانية جديدة من الشرق ورغم ذلك فإن صمود المواطنين صورة يعتز بها.