الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

راية سوداء لعزل العنصرية../بقلم: د. دوف حنين *

نشر بتاريخ: 22/10/2006 ( آخر تحديث: 22/10/2006 الساعة: 20:54 )
تأتي الذكرى الخمسون لمجزرة كفر قاسم في ظل تعزّز الخطاب الترانسفيري العنصري ضد المواطنين العرب وبقائهم في البلاد، ما يعني بأن عقلية المجزرة وسياستها، لا تزال معششة وفي هذا ما يفسر امتناع الحكومة عن الاعتراف بالمجزرة والاعتذار عنها.

فالاعتذار عن المجزرة هو ليس اعتذارا عن حادثة تاريخية من أراشيف الماضي، إنما أمر أكتوالي، له انعكاساته على الحاضر والمستقبل، فهو اعتذار عن السياسة التي رأت وترى بالأقلية العربية في البلاد ثقلا وتهديدا على الدولة، وأعتقد بأن رئيس الحكومة أيهود أولمرت بحاجة الى قدرة هائلة على النفاق ليقوم بالأمرين معا: أن يعتذر على المجزرة من جهة وأن يفاوض ليبرمان الترانسفيري على دخول الحكومة من جهة أخرى.

المأساة، هي بأن عقلية المجزرة التي أباحت الدم وحللت القتل أصبحت في هذه الأيام أكثر رواجا وقوة.

ولأن المجزرة وعقليتها ما عادت بعد في عداد الماضي فإن المؤسسة الرسمية تخافها وتخاف تدريسها أمام الطلاب، فقد توجهت وتوجه نواب آخرون غيري الى وزيرة المعارف، يولي تمير، من أجل تخصيص بعض الساعات للحديث عن المجزرة في المدارس الاسرائيلية الا أنها رفضت. وهو رفض المسخ من الوقوف أمام المرآة حيث تنكس بشاعته بكل أبعادها.

ولعل أسوأ ما في هذه المجزرة بالنسبة للمؤسسة الرسمية، بما فيها وزارة المعارف، هو شكل فضح المجزرة على يد النائبين الشيوعيين الأسبقين، المناضلين ماير فلنر وتوفيق طوبي وما تحطمه وقفتهما البطولية من أسطورة العداء التاريخي بين الشعبين وما ترمز اليه من اثمار النضال العربي اليهودي المشترك ضد المجزرة وعقليتها!

كما أن أكثر أحد الأسئلة اخافة للمؤسسة هو ذاك السؤال التقليدي الذي قد يطرحه أي طالب متوسط "وما العبرة من القصة؟"

وهنا تمتلئ أفواه المعلمين ماء، فالحقيقة إن شيئا من عبر المجزرة لم يذب، وكفر قاسم التي رمزت الى عقلية التهجير بدأت تجد لها شقيقة اسمها أم الفحم، التي تتعرض لحملة تحريضية ترانسفيرية مجنونة!

على أي حال، فإنني في هذه المقالة، ورغم بشاعة المجزرة وعمق الألم سأحاول التنقيب عن ضوء ما، خافت حد خطر الانطفاء، في محاكمة سفاحي كفر قاسم.

عند الحديث عن المحاكمات التي تلت المجزرة، ردة الفعل الأولية لكل انسان سوي وبحق ستكون بأن هذه المحاكمات كانت استمرارا للمجزرة ذاتها، اذ سنستذكر أول ما نستذكر مسخرة الأحكام المخففة على المجرمين، سنستذكر تلك الصلحة المشينة وقرش شدمي، وفي هذا كله وصمات عار دامغة على جبين القضاء الاسرائيلي، ولكنني ما زلت أعتقد بأن هنالك ضوءا خافتا بين ركام الألم..
هذا الضوء، كامن فيما سُميّ "الراية السوداء"، وهو أحد أشهر الأفكار في القضاء الاسرائيلي، وقد وضعت في أعقاب مجزرة كفر قاسم.

المصطلح وضع في الحكم على القتلة في كفر قاسم (حكم ملينكي)، حيث ضحد القاضي مناحيم هليفي ادعاء القتلة بأنهم لم يقوموا الا بتنفيذ الأوار. القاضي هليفي قرر بأن هنالك أوامر، عدم تنفيذها لا يكون مسموحا فقط انما تنفيذها ممنوع، وأن مجرد تنفيذها هو جريمة جنائية بحد ذاتها.

وما هي هذه الأوامر؟

هي الأوامر "غير القانونية بشكل قاطع" (?????? ???? ?????? ?????).
هي الأوامر "غير القانونية التي تنخز العين وتثير القلب ان لم تكن العين عمياء والقلب ليس بليدا أو منحلا".

معيار "الراية السوداء" هو معيار موضوعي: إن رأى انسان عادي بالتعليمات خرقا جليا للقانون فإن الراية السوداء ترفرف فوقها وتنفيذها ممنوع حتى وان لم يكن من تلقى الأوامر ذا قيم أخلاقية رفيعة ولم ينتبه الى عدم القانونية. الاعتبار الأساسي هو بأنه من الممكن، بل ومن الواجب، معرفة التمييز بين المسموح والممنوع.

"الراية السوداء" لقيت انتقادات كثيفة في الأدبيات القضائية، اذ ادعى المنتقدون بأن صيغة هليفي غامضة ولا توفر ارشادا كافيا لذات الظروف الكثيفة في واقع الحياة.
عدا ذلك فإن عدم قانونية الأوامر، قال المنتقدون، تقرّ دائما بعد فوات الأوان، وعلى يد المحكمة العسكرية حيث يحاكم من نفذوا أو امتنعوا عن تنفيذ الأوامر. كجزء من الجهاز العسكري فإن المحاكم العسكرية تميل- بشكل طبيعي- الى الامتناع عن القضاء بأن التعليمات الصادرة عن الجيش تتصف بعدم قانوية متطرفة، وهكذا تأسست القاعدة للانتقاد الأكثر شرعية: هنالك فجوة عميقة بين الشريعة القضائية وبين الفعل العسكري، بين المبادئ على الورق الأبيض وبين الفعل في الواقع الأسود.

الفجوة بين القانون وبين الفعل تنعكس بالاطلاق المبكر لسراح القتلة في كفر قاسم.
هذه الفجوة بالتكرار تنعكس الكبير لقتل المواطنين العرب، في حدود اسرائيل على يد قوات الأمن والشرطة دون أن يلقى المجرمون عقابهم.

في أحداث أكتوبر 2000 أطلقت الشرطة النيران على المواطنين العرب وقتلت 13 منهم دون أن يقدم أي من رجال الشرطة الى المحاكمة. وفي السنوات الست الأخيرة بعد أكتوبر قتل بأيدي الشرطة 21 مواطنا عربيا آخر، وهنا أيضا فإن التحقيقات تداس والمجرمون لا يحاكمون.

دم العرب، يا للفظاعة، ما يزال يعتبر أقل احمرارا واليد أخف على الزناد ما دام موجها ضد العرب.

قضية تعامل الشرطة مع المواطنين العرب هي مجرد حلقة في سلسلة منهجية شاملة من التمييز ضد المواطنين العرب في كل مجالات الحياة. وهذا النهج يتواصل بفعل دعم الرأي العام في اسرائيل والذي حُرّض ليرى في مواطني اسرائيل العرب جزءا من التهديد على بقاء اليهود في البلاد.

المعركة اليوم تدور على الرأي العام في البلاد، المعركة على المجتمع الاسرائيلي شرسة، لكنها تصبح مستحيلة اذا ما فقدنا البوصلة وحولناها ضد هذا المجتمع، فمعركتنا عليه ضد المؤسسة العنصرية، ضد مغسلة الأدمغة!

المعركة اليوم هي على منع عزل الأقلية العربية سياسيا ومن ثم زجها الى خارج الحلبة السياسية والجماهيرية في اسرائيل والعمل مقابل ذلك على عزل اليمين العنصري. وهذا ما يعيدنا حتما الى السؤال المركزي، من يعزل من؟!

الاجابة على هذا السؤال لا تخص المواطنين العرب وحدهم انما المجتمع الاسرائيلي برمته، فالاجابة ستقرر بمفاهيم عدة مستقبل هذا