الثلاثاء: 01/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

شاهِد على الحج !!

نشر بتاريخ: 05/11/2011 ( آخر تحديث: 19/04/2012 الساعة: 14:33 )
كتب ابراهيم ملحم - هذا اليوم هو خيرُ يوم طلعت عليه الشمس،يومٌ يقف فيه ضيوف الرحمن على صعيد واحد في وقتٍ واحد بلباسٍ واحد شُعثاً غُبراً بيضا ًسوداً ،حُمراً شُقراً ،تلهجُ ألسنتُهم بالدعاء توسلاً وتضرعاً ،وتصدحُ حناجرُهم بالنداء الخالد " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".


هذا اليوم هو يومُ الحج الاكبر يتجلى فيه ربُ العزة جل جلاله على عباده التائبين الملبين الذين جاؤوه من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم وليطوفوا بالبيت العتيق مباهياً بهم ملائكتَه فيغفر لهم ذنوبَهم ويحط َعنهم خطاياهم ولو كانت مثل زبد البحر ليعودوا الى ديارهم مغفوري الذنب ومقبولي التوب كما ولدتهم امهاتُهم.

في الحج مواقفُ وحكايات، مشاق ُوعقبات، اشراقاتٌ ونفحات، تجليات ودعواتٌ، تبقى حبيسة قلوب الضارعين الملتمسين بَردَ اليقين وطمانينةَ الايمان حتى يعودوا من رحلة العمر فيقصوا رؤيتَهم على ابنائهم واحبابهم واصدقائهم ملامسين فيهم مكامن الشوق لزيارة البيت العتيق.

سنة عاشرة حج!!

حباني الله ان أؤدي الركن الخامس مراتٍ عدة حتى بلغت عشرا .. كنتُ في المرة الاولى مضطرباً وجلاُ متردداُ من جلال الموقف عندما وقع علي الاختيار في صيف عام 94 لامثل اذاعة وتلفزيون فلسطين في نقل شعائر الحج ضيفاً على وزارة الاعلام السعودية التي قدمت جميع التسهيلات للاعلاميين المشاركين عرباً ومسلمين في ذلك العام كما كل عام .

بصراحة أكثر فان مبعث الوجل والتردد كان شعوري بانه من المبكر ان يسبق "لقبُ الحج " اسمي وانا لا زلت في بواكير العمر،فحاولت الاعتذار مقترحا اختيار زميل اكبرَ سنا يليق به اللقب اكثر مني ، لكن محاولاتي باءت بالفشل بعد ان تم الاصرار على ان اقبل هذا التكليف وقد قبلت..لاكتشف بعد ذلك كم هو جميل هذا التكليف مستذكرا قول الرسول صلى الله عليه وسلم "يؤجرُ المرءُ رغم انفه" يومها دعوت الله في المكان الذي لا يرد فيه الدعاء يوم عرفة أن يقيضَ لي العودة الى البيت العتيق كل عام وهو ما كان حتى بلغت عشرا واطمع بالمزيد . !

... عندما بكيتُ وأبكيت!!


في احدى سنوات الالفية الثانية وبينما كانت فلسطين ممددةً تحت جنازير الدبابات وقصف الطائرات ذهبتُ ممثلاً للاذاعة والتلفزيون للمشاركة في نقل شعائر الحج فبينما كنتُ مستغرقا في وصفَ الموقف وجلالِ اللحظة الايمانية داهمتني دمعة حتى أجهشت بالبكاء على الهواء وأنا اضرع الى الله بالدعاء للخلاص من الاحتلال وبطشه مستذكرا الشهداء والجرحى الذين كان الرصاص الاسرائيلي يحصدهم يوماً بعد يوم وما ان انتهيت من الوصف المثير والمؤثر حتى وجدتُ جميع الزملاء في الاستوديو من حولي وقد اجهشوا بالبكاء وكانت حشرجاتُ اصواتِهم تَشِف عن تاثر عميق ،فجاء أحدهم والدموع تومض في عينيه يحضنني بقوة وهو يقول" لقد ابكيتنا يامذيع فلسطين". !

...وفي جوف الكعبة المشرفة صليت !!

كانت لحظاتٌ تقشعر لها الابدان قبل ان نرتدي ملابس الاحرام مستقلين الحافلة من جدة الى مكة المكرمة لتغطية مراسم غسيل الكعبة وكسوتها الجديدة، لم نكن حينها نعرف أننا سنشرُف بالصلاة في جوف الكعبة المشرفة فما أن انتهت عملية الغسل التي يقوم بها سدنتُها ويجمعون ماء الورد الذي يستخدمونه في العملية بانية خاصة وهو عبارة عن خليط من العود والعنبر يستخدم بكميات كبيرة لتنظيفها وتعطيرها حيث يستمر مفعوله طوال العام حتى دعينا للدخول من بابها الذهبي الى جوفها عندها تملكتني مشاعر جياشة لم اشعر بها من قبل ، سكينة وهدوء وخشوع وطمانينة طافحة ،قال لنا مرافقنا الشيخ ردا على سؤال احد زملائنا باي اتجاه نصلي ونحن بجوف الكعبة فقال صلوا كيفما شيتم .

كان المكان مريحا على ضيق مساحته صليتُ في جميع الاتجاهات واكملتُ الصلاة سبعاً وكانت لحظات من أجمل لحظات حياتي لن تسقط من ذاكرتي تُشِع بهجةً في النفس ونوراً في الوجه ..زادها الله بهاءً وتشريفاً وتكريماً .

ارضية الكعبة من الداخل مغطاة برخام من اللون الابيض وجدرانها من الرخام الوردي البهيج اضافة الى اضاءة مريحة هادئة تضطرب لها الجوارح،وفيها بلاطة واحدة بلون مختلف تحدد موضع سجود الرسول صلى الله عليه وسلم.

....وضحكةً مدويةً كادت تنفجرُ على الهواء... كَتًمت !!

في عام ستة وتسعين وبينما كان ممثلو وسائل الاعلام يجلسون بهدوء في الاستوديو الزجاجي الذي اقيم خصيصا في مقر وزارة الاعلام في جبل عرفات والمطل على بحر من البياض البهيج ،وهو مكان مزودٌ بكل وسائل الاتصال وكرم الضيافة لجميع ضيوف الوزارة،وبينما كنتُ على الهواء قدم لي زميلي مسير الفترة من التلفزيون السعودي وهو رجلٌ من فرسان الهواء متمكن وواثقٌ ومن الراسخين والرائعين في الحج، قدم ورقة يطلب مني فيها ان انقل الميكروفون بعد ان انهي فترتي الى زميلي ممثل اذاعة وتلفزيون لبنان وهو شيخ سبعيني ذو صوت شجي واداء رفيع ليقوم بعد ذلك بتقديم الورقة للزميل اللبناني مشيرا له ان ينقل الميكرفون الى ممثل اذاعة وتلفزيون "اوربت" المعروف فما كان منه الا ان قال : والان انقل الميكروفون للزميل فلان من اذاعة وتلفزيون "أوريَنت" مشددا على الياء ..عندها كادت تنفجر مني وزملائي المتحلقين حوله ضحكة مدوية على الهواء فتسللنا معا بهدوء الى خارج الاستوديو لندخل في نوبة ضحك اراحت القلوب المتعبة من مشاق العبادة الجميلة...فما ان خرج زميلنا حتى اقترح عليه احد الزملاء مازحا ان يتصل بشركة "اورينت" لصناعة الساعات لتسدد ثمن الاعلان المجاني الذي تابعه الملايين!!

...أمام مقر التائهين توقفت واستوقفت ..وضحكت !!

في العام الماضي وبينما كنت أهم بالوصول الى الحجاج من ذوي الاسرى الذي وصلوا متاخرين للاطمئنان على احوالهم وفرت وزارة الاعلام السعودية مشكورة وسيلة نقل سريعة تخترق الحشود بسهولة هي عبارة عن دراجة " موتور سايكل" يطلقون عليها هناك اسم " الدبابة" وهي لاتُقِل الا شخصا واحدا غير سائقها، فتنازلت لزميلي أن يذهب ممتطيا الدبابة على ان اتبعه مشيا كوني صرت خبيرا بشعاب مكة ، وبالفعل امتطى صديقي دبابته يذرع الارض محاولا الوصول الى هدفه باسرع وقت بينما بدات رحلتي مشيا ولم تمنعني الامطار التي داهمتني في منتصف الطريق من مواصلة المسير، وبعد نحو ساعتين من المشي المضني باتجاه مقر الحجيج التفت الى يافطة مكتوب عليها "الحجاج التائهون" واذا بزميلي يقف بينهم بجوار دبابته المتكئة على قارعة الطريق.. ضحكت وبادرته بالسؤال ما الذي جاء بك الى هنا في مركز التائهين؟!! فقال: لقد ضللت الطريق واضعت جوالي ياصديقي فقلت اعطني الرقم لنحاول الاتصال به بالتاكيد ستجده لانه اذا ما وقع بين يدي حاج لا يمكن الا ان يرده اليك لان احدا من الحجاج لن يضيع حجته بالتكتم على ضالتك، ولما لم يكن يحفظ رقم شريحته السعودية الجديدة سالته عن اخر شخص هاتفه من جواله فكان قريبا له في السعودية يحتفظ برقمه على كرت في جيبه وبالفعل اتصلنا بقريبه الذي اعاد الاتصال بالرقم فوجد الجهاز مع حاج ماليزي وصف له مكان تواجده فامتطى صديقنا دبابته ينشد ضالته التي كادت تعكر عليه حجته .

... ممثلا للوفود الاعلامية العربية !!

في العام 2005 وقع علي الاختيار لامثل الوفود الاعلامية العربية المشاركة في نقل شعائر الحج في القاء كلمة الوفود في الحفل السنوي الخاص الذي تقيمه وزارة الاعلام لضيوفها من الاعلاميين العرب والمسلمين عقب انتهاء المناسك حضره وزير الاعلام السعودي ورؤساء تحرير الصحف السعودية وشخصيات سياسية واجتماعية حيث شرفت بالتكليف وربطت في كلمتي بين اول بيت وضع للناس ببكة مباركا وبين اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين .. وما اذكره انني قلت فيها اذا كانت المسافة بين مكة والقدس بعيدة بحساب الكيلو مترات الا انها بحساب الرابط العقدي قريبة قرب الكعبة من استارها وقرب القدس من اسوارها .. لاقت الكلمة استحسانا كبيرا ونشرتها جميع الصحف السعودية كانت لحظات مؤثرة وجميلة ومحملة بالمعاني والدلالات .

وهذا البلد الامين

حيثما حللت واينما يممت وجهك تجد دعوة سيدنا ابراهيم عليه السلام تحف المكان " واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا امنا وارزق اهله من الثمرات" ،ففي البلد الامين ،تجوب الاسواق لتجد فيها ما تشتهي الانفس من الثمرات وكل ما هو لافت مما يمتع النظر ويهدى للاهل والاحباب والاصدقاء.

مساعدة ضيوف الرحمن شعار تجده يمشي على الارض في جميع المشاعر فثمة جنود مجندون لخدمة الحجيج سيماهم في وجوههم من اثر دعوات الحجيج لما يقدمونه من عون ومساعدة ، وفي المسجد الحرام بمكة المكرمة كما في المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة تشعر بالسكينة والطمأنينة من جودة الخدمات المقدمة على مدار الساعة فيما نظافة المكان تضفي عليه الكثير من البهجة .

في المشاعر المقدسة حالة طواري لجميع الاجهزة التي تتميز بدقة التنظيم وادارة حشود الملايين الني تجتمع في وقت واحد في مكان واحد لا احسب ان دولة في العالم يمكن لها ان تنجح في ادارة الحشود مثلما تنجح السعودية التي حباها الله بشرف استضافة ضيوف الرحمن الذين ياتون اليها رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق .

مع حجاج كزاخستان!

في اواخر التسعينيات هبطت بنا طائرة الملكية الاردنية في مطار المدينة المنورة ، انجزت وصديقي معاملاتنا في المطار بسرعة رغم وجود جموع غفيرة من الحجيج فيه ومن كافة الجنسيات ، كانت لحظات بين فحص الحقائب وضياعها حيث قام احد العمال وقد طمأننا بحمل الحقائب الى خارج بوابة المطار وما ان لحقنا به واذا بالحقائب قد اختفت ، وكانت عملية البحث عن حقيبة وسط ركام الحقائب في المطار كمن يبحث عن ابرة في كومة قش .

تملكت زميلي حالة من الضيق والغضب بعد ان ظن كل الظن انه لن يلاقي حقيبته ، ولم اكن اقل منه ضيقا لكنني كنت اكثر منه يقينا بالعثور على الحقائب الضائعة .

في المكان كانت تصطف عدة حافلات لحجاج من كازاخستان يقومون بتحميل حقائبهم في تلك الحافلات قلتلصديقي ممازحا خوفي ان تكون حقائبنا قد صعدت مع هؤلاء الحجاج ضحك ولم ياخذني على محمل الجد ،كانت دقائق معدودة قبل ان تبدأ احدى الحافلات بمغادرة المكان فاذا بصوت قادم من بعيد كنا قدمنا له شكوى بضياع الحقائب يطلب من سائق الحافة بالتوقف تهللت وجوهنا بالفرح بينما كان احد عمال المطار يخرج حقائبنا من الحافلة الكازاخية في الوقت الضائع.

يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم

في يوم عرفة الذي يمتد من شروق شمس التاسع حتى غروبها يمارس الحجاج حياتهم في خيامهم ،ياكلون ويشربون، يصلون قصرا وجمعا يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم في ايام معلومات تضرع اكفهم وقلوبهم بالدعاء يضحكون ويبكون يرضون ويغضبون وقد يتجادلون يعيشون حياتهم كالمعتاد وان كان الدعاء هو ذروة سنام ذلك اليوم المشهود الذي لايرد فيه الدعاء فقال رسول الله ردا على سؤال من اسوأ الناس في هذا المشهد فقال من شك بان الله لن يغفر له، فاكثروا من الدعاء في هذا اليوم العظيم ،قال صلى الله عليه وسلم ـ:" خير الدعاء دعاء يوم عرفة"، وقال ايضا : "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك". ...

لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك

لبيك يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين،

يامن ليس معه رب يدعى، ولا فوقه خالق يخشى ولا وزير يؤتى ولا حاجب يرشى ـ

يامن ضجت بين يديه الاصوات بلغات متخالطات يسألونك الحاجات وسكبت الدموع بالعبرات والزفرات اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في امرنا وثبت قلوبنا ويسر امورنا وفرج كروبنا .

نسالك اللهم موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل اثم والفوز بالجنة والنجاة من النار.

اللهم اختم بالخيرات اجالنا وحقق بفضلك امالنا وسهل لبلوغ رضاك سبيلنا.

اللهم لاتدع لنا ذنبا الا غفرته ولا هما الا فرجته ولا غائبا الا رددته ولا مريضا الا عافيته

وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد صلى اله عليه وسلم .



يتقبل الله الطاعات وكل عام وانتم بخير.