بريد العيد !!
نشر بتاريخ: 09/11/2011 ( آخر تحديث: 19/04/2012 الساعة: 14:33 )
كتب ابراهيم ملحم - عشيةَ وأثناء وحتى ساعة إعداد هذا المقال وتحضيره للإقلاع إلى الفضاء الرَّحب قبل أن تتلقفهُ العيون وتتناقله الألسن قبولاً اورفضاً ونقداً جميلاً. ما زال جوالي يتعرضُ لقصفٍ متواصلٍ من الرسائلِ النصيةِ بمختلفِ أنواع العبارات جميلها وغريبها مهنئةً بالعيد ومتمنيةً السعادةَ والعمرَ المديد.
وما أن أنبأتني ذاكرةُ الرسائلِ بامتلاء معدتها من عُسرِ الهضم للأطباق الجاهزة الطائرةِ المجففةِ والباردةِ حتى طفقت مسحاً بها لأفسح المجال لغيرِها قبل أن تلقى نفسَ مصيرها.
رسائلُ العيدِ على جميلِ مبادرةِ مرسليها ونبلِ مَقاصِدهم، فإنها تبدو كباقاتِ ورودٍ بلاستيكيةٍ جميلة المظهر لا المخبر.فمجموعة رفع العتب "For All" تنزعُ دسمَ الخصوصيةِ من الرسائلِ النصيةِ وتفقدكَ الشعور بدفئِها وحميميتها،حميميةٌ لا تشعر بها إلا إذا جاءتك أنت وحدك "خاص ومستعجل" ما يجعلكَ تحتفي بها وترد عليها بأحسنَ منها، بأن ترفع هاتفك وتخاطب مرسلها صوتاً دافئاً لا نصاً بارداً مجففا لا يلامسُ لديهِ وِدّا على ان تهنئة من تحب صوتا حيا مباشرا لا رسالة مسجلة معلبة تبقى اجمل فعلا واكثر وقعا ودفئا .
قبلَ ثورةِ الاتصالات التي بلغت الآفاق كان ساعي البريد يذرع الحي "زنقة زنقة ودار دار وبيت بيت" بحثاً عن صاحب الرسالة ليسلِّمها له يداً بيد ووجهاً لوجه بعد أن تكون أخبارُها قد وصلت كل سكان الحي الذينَ يتلقطونَ ما تناثرَ منها اختلافاً وائتلافاً على عتباتِ البيوت وحجارة السناسل التي تفك الثرثرة الهيروغليفية الهامسة لنساء الحي اللائي لا يُطِقنَ كتم الأسرار وطي الأخبار فتنبيك فضاءاتُ البيوت بالأخبارِ عاجلها وآجلها قديمها وحديثها خاصها وعامها سعيدها وشقيها فقد قِيلَ قديماً "للحيطان آذان وللشوارعِ ألسنة".
فما أن يطرق ساعي البريد باب بيتك حتى تجده في جوفه قبل أن يُؤذن له بالدخول ليطَّلع على جميع مرافقه التي تحتشدُ في غرفة واحدة ذرْعُها ستة عشر متراً أو يزيد هي للنوم والطبخ والدراسة والسمر واستقبال الضيوف وأشياء أخرى.
كنت آخر من يعلم!
بالفعل كنتُ آخر من يعلم بينما امتلأت صفحتي على "الفيسبوك" بالتهاني والتبريكات بحلول عيد ميلادي في يومٍ كانت فيه صرخةُ الحياة الأولى لي احتجاجاً على ما كان يُنسجُ من مؤامراتٍ تُعطي من لا يملك لمن لا يستحق وعداً بأرضٍ هي مُلك آبائي وأجدادي ليُصادِرَ المتآمرونَ مني فرحةً شخصيةً دون ان أعلم أنني سأدفعُ ثمنها طيلةَ حياتي بأن لا تضاء لي شموعٌ على كعكِ ابتهاجي في ذلك اليوم الذي كان منعطفاً حاداً لشعبِ ظلَّ يدافعُ عن وطنهِ برموشِ العيون ونزفِ الجراح ووجع المعاناة.
منذ وُلِدتُ ذاتَ يومٍ تشريني باردٍ تحتَ جذعِ زيتونةٍ كادَ زيتُها يضيء احتفاءً بلحظةِ ميلادِ أمي رحمها الله التي حملتني وهنَاً على وهن منتقلةً من خيمة إلى أخرى حتى استقر بها المقام في خيمتها الأخيرة بمخيم للاجئين بعد أن ظنت كل الظن أنها مؤقتةٌ بانتظار قطار العودة الذي لم يأت بعد، لا أتذكرُ أنني أشعلتُ شمعةً إلا لأبدد بضوئها وفودَ الظلام التي كانت تحتشدُ بالبيت الصغير كلما نفدَ زيتُ القنديل.
ما أذكرهُ في هذا اليوم أنني كنتُ وأترابي وقد تفتحت عيونُنا على جنودِ الاحتلال يجوسونَ خلالَ الديارِ نُشعِلُ إطارات السيارات على الإسفلت احتجاجاً، بينما كان "البنشرجي"السبعيني أبو محمد يلحظ انخفاض منسوب الإطارات المرتفع أمام متجره المفتوح على قارعة الطريق ليرى إطاراته تَتَلظّى ناراً أمام عينيهِ يملأُ دخانُها رئتيه التي سوّدها دخانُ "التتن الهيشي" الذي طالما مَشى سجائرهُ بين يديه وعلى شفتيه.
فما أن فوجئتُ بهذا السيلِ المتدفق من رسائل التهنئة حتى بادرتُ بالردِ على المهنئينَ مرةً واحدةً قبل أن يأتيني هاتفٌ من بعيد، يهنئُني ويحاولُ بأدبٍ جمٍّ أن يَعِظَنِي ويُقوّمَ اعوجاجي وقد رأيت احمرار وجنتيه وهو يشرحُ لي عادات وتقاليد سكان العالم الجديد وأصول التعامل معهم بالرد عليهم فرداً فرداً بما ينسجم وعاداتهم وتقاليدهم ويليقُ بتجشمهم مشاقَ السّفر إلى بيتي الزجاجي الذي تبوأتُه بينهم حديثاً .
قبلتُ موعظةَ إبني بهجة قلبي مستذكراً مجلسَ الساحة الذي كان حراً كما هذه المساحة عندما كان يدخل أحد الضيوفِ مكتفياً بالقول "قَوْ الغَانمين" قبل أن يُفسحَ له أحدُهُم مكاناً يليقُ بهِ في صدر الساحةِ بين الجالسين على فرش بطائنها من قَش وصوف البائعين المتجولين ..فهل نقولُ "قَوْ الفيسبوكيين" ونمضي !!.