الثلاثاء: 24/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

اضحك مع الانتفاضة..عن البيان رقم 10..و"كل الرصاص في الراس" !!

نشر بتاريخ: 11/12/2011 ( آخر تحديث: 19/04/2012 الساعة: 14:30 )
كتب ابراهيم ملحم-كانت الانتفاضة الاولى"انتفاضة اطفال الحجارة"التي تصادف هذه الايام الذكرى الرابعة والعشرين لانطلاقتها المجيدة ،ربيعاً فلسطينياً وعربياً مبكراً طافحاً بالاختراع،والابداع،وملهماً للثورات الشعبية في أسلحتها ،ومسلحيها ،الذين انتصرت حجارتهم على الرصاص،وارادتهم على السجان والدبابة،وقبضاتهم على عناصر الغطرسة،وعيونهم الجريئة على مخرز القوة العمياء،كاسرين هيبة الجنرال الذي كسّر عظامهم،وتمنى أن يبتلع البحر ذات صباح قطاعهم الذي لاحق المحتلين في كل بيت، وحارة ،وشارع.

في الانتفاضة الوهّاجة قصص بطولة،وحكايات ابداع،اندلعت عند متاريس الاطفال المدججين بكل انواع الحجارة، و"النقّيفات" و"المقاليع" الرّاجمات التي تُستدعى فرقها، لقصف تجمعات الجنود الذين ليسوا في مرمى حجارة قبضاتهم،وتمهيداً للهجوم البرى لكتائب الاطفال،للسيطرة على فلول الجيبات المحمية بالشّباك الحديدية ،لكسر هيبة المختبئين بحديدها .

كان للاعلام حضورٌ طاغ ،ومؤثر فكان للخبر الاذاعي، والمكتوب ، وللبيان السري ،تاثير سحري على المنتفضين الذين كانوا يتوجهون بجرحاهم وشهدائهم الى مكاتب الاعلام لتسجيل أسمائهم ،ونوعية اصاباتهم ،قبل أن يتوجهوا بهم الى المستشفيات لما للاعلام من قوة تأثير في مسارات المعركة ،فقد كانت اذاعة" مونت كارلو" كالجزيرة اليوم بقوة تاثيرها ،واتساع تغطيتها ليوميات الانتفاضة المتوهجة .

بصراحة فان ثورة شعبية ضخمة فرضت اسمها على اللغة الاعلامية في جميع وسائل الاعلام العالمية " انتفاضة" لم تحظ حتى الان بما يليق بها من رصد وتأريخ ليومياتها،وتفاصيلها،حتى النُكتة فيها ،لم تكتب ولم تؤرخ ،فالنكتة والسخرية، كانت قوة باعثة على الامل بالحياة، والتحدي والاصرار على تحقيق الاهداف .

حتى النّكبة التي نقيم احتفالات سنوية بذكراها الاليمة لم يؤرّخ لها كما ينبغي ،فباستثناء ما كتبه الروائي الكبير الصديق يحيى يخلف بعد عودته الى ارض الوطن عام 94 في روايته "نهر يستحم في البحيرة "وبعدها روايتيه" ماء السماء" و"جنة ونار" فان أدب النكبة يكاد يكون غائبا عن التأريخ.

لم تكن الانتفاضة متجهّمة كما يعتقد البعض،فقد اشتعلت فيها النكات بجوار الاغاني الصادحة باصوات المنتفضين في الشوارع تحت سحب الدخان الطالع من الاطارات المشتعلة التي كانت بمثابة ميادين تحرير لهم يغنون فيها للحرية، وللوحدة الوطنية،اغان تبعث الامل والعزيمة، وحجارة من سجيل على رؤوس المحتلين .

تقول احدى النكات انه بينما كان الشهداء يتساقطون بالعشرات في المدن والمخيمات والبلدات،فان احدى المدن الكبيرة المعروف اهلُها بطيبتهم ، وعنادهم، لم يسقط فيها طيلة الايام الاولى من الانتفاضة اي شهيد،فسأل صحفي أحد ابنائها الطيبين عن سر ذلك فرد عليه "لانو كل الرصاص في الراس"!!

تقول نكتة ثانية،ان جنود الاحتلال جمعوا سكان أحد المخيمات أطفالا وشيبا وشبانا،في احدى المدارس بعد أن اعيتهم اجراءاتهم في وقف قذف الحجارة باتجاه سيارات المستوطنين المارة بمحاذاة المخيم،وقد بدأ الحاكم العسكري بمخاطبة المجتمعين بان يحضروا اعتبارا من صباح اليوم التالي طعامهم معهم لحراسة الشارع من رشق الحجارة ،وبينما ساد الصمت المكان،وقف شيخ سبعيني وقال للحاكم العسكري بلهجة ساخرة " يا سعادة الحاكم بس نتفق على الحراسة بعدين بنتفق علمين الاكل "انفجر الحضور بالضحك قبل أن يفقد الجنود سيطرتهم على الجموع التي تمرد فيها الشيخ والعكاز والحجر وارتفعت صيحاتهم،وقبضاتهم،واندلعت مواجهات بالايدي بين الجموع والجنود سقط خلالها عدد من الجرحى.

ذات مساء من مساءات الانتفاضة المجيدة ،وبينما انتهيت وزملائي من وضع اللمسات الاخيرة على العدد الجديد لصحيفة الشعب المقدسية اليومية التي ترأست تحريرها وكتابة افتتاحيتها اليومية،بعد ابعاد رئيس تحريرها الصديق أكرم هنية قبل قليل من انطلاق الانتفاضة،دلفت وزملائي من مبنى الصحيفة الواقع في شارع متفرع من شارع صلاح الدين في مدينة القدس قاصدين المطبعة ،فما أن شقّت السيارة طريقها في الشارع الضيق،حتى فوجئنا بسيارة شرطة تلاحقنا وتأمرنا بالتوقف،نزل منها ثلاثة افراد طلبوا تفتيش السيارة ،وبينما هم كذلك واذا بتعزيزات اخرى من افراد الشرطة وحرس الحدود تصل المكان، وقد بدأوا اجراءات تقييدنا لاعتقالنا،ولم تشفع لنا بطاقات الصحافة الصادرة عن "رابطة الصحفيين العرب" انذاك من تخفيف حدة الخشونة الزائدة في التعامل معنا بينما كان أحد زملائنا الذي يعرف اللغة العبرية بطلاقة،يستمع لمحادثة بين افراد الشرطة تقول،بانهم القوا القبض على البيان "رقم 10" وهو في طريقه الى المطبعة.

كانت لحظات صعبة وقد اجتمع حولنا نحو خمسين من أفراد الشرطة وحرس الحدود،قبل أن يصدر أحد الضباط الذي اشرف على تفتيش السيارة تعليماته لجنوده باطلاق سراحنا ، وسط عبارات توبيخ اطلقها تجاه قائد الدورية الذي اوقفنا بعد أن تبين له أن ما قيل بانه البيان "رقم 10 "ليس سوى صفحات "الماكيت" للجريدة المعدة للطباعة.

كان لبيانات الانتفاضة قيمة عالية ،وقوة تأثير كبيرة حتى أن المنتفضين كانوا ينظرون لقيادتها السرية الموحدة نظرة القديسين،فما أن يصدر بيان حتى تتناقله الايدى باعتباره واجب التطبيق .

كان البيان يبعث في النفس قوة الارادة، ومضاء العزيمة ،وكان المنتفضون يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل التنفيذ الدقيق والامين لتعليماته التي كانت بمثابة صب للزيت على نارها المقدسة،وكان رفع العلم الفلسطيني على عمود كهرباء بمثابة عملية استشهادية يذهب من يكلف بها حاملا روحه على كفه دون أن يلتفت وراءه،ولطالما اختلطت الدماء الزكية بالوان العلم.

أحسب انها مناسبة لدعوة أدبائنا وكتابنا وباحثينا لرصد وتأريخ الانتفاضة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس بشهدائها وجرحاها ومعاقيها ومعتقليها بحجارتهم المضيئة ونكاتهم وسخريتهم الماضية مضاء عزائمهم .
|157351*صورة نادرة وزعتها في حينه وكالة الانباء الفرنسية في يوم 21 شباط من عام 88 لحشود من المواطنين يهاجمون سيارة جيب عسكرية اثناء توجههم من البلدة القديمة الى المقبرة لتشييع جنازة احد شهداء الانتفاضة الاولى في المدينة|.