في "التوك توك" !!
نشر بتاريخ: 16/12/2011 ( آخر تحديث: 19/04/2012 الساعة: 14:30 )
كتب ابراهيم ملحم - هنا القاهرة.. الثائرة، المثيرة، المبهرة، المدهشة، المنيرة، الصابرة، الساهرة، الرائعة، العامرة بأهلها الطيبين، وطعامها، وشرابها على ضفاف نيلها لذةً للشاربين ، والاكلين.
هنا القاهرة.. بشوارعها المزدحمة، وسياراتها القديمة، واسواقها المكتظة بالبائعين الجائلين، والمشترين، وفنادقها المليئة بالسائحين العائدين.
هنا القاهرة ..بأهراماتها وحضارتها، بفضائياتها، وصحفها،واذاعاتها، بمدارسها،وجامعاتها،بعمالها، وفلاحيها،بصنائعها، ومصانعها، بأعلامها، وعلمائها، بأدبها و كتابها،بمفكريها،وصحفييها،ضمير شعبها، وسنان رمحها،وصناع مجدها. .
هي المرة الاولى التي ازور فيها مصر بعد اندلاع ثورتها،فليست مصر التي شاهدتها،وتجولت في شوارعها،وشربت من مياه نيلها،واكلت من الطعام الذي اتهم به ثوراها،وتجاذبت أطراف الحديث مع سكانها في مطاعمها،ومقاهيها،هي تلك التي شاهدتها عبر الفضائيات من مظاهر الانفلات الامني والبلطجة ،فمصر الجديدة تعيش حياتها بكامل عافيتها،وحيويتها،بعد أن كسرت قيد استبدادها،ونالت حريتها ،وذهبت يشيبها، وشبانها بفتياتها،ونسائها،الي طوابير حريتها امام صناديق الاقتراع، في مشهد لم تعشه في تاريخها.
اذا تجولت في اسواقها ترى الناس كلهم فيها،واذا دلفت الى مطاعمها، ومقاهيها وجدت الناس كلهم فيها، واذا جلست في مسارحها ،وسينماتها حسبت الناس كلهم فيها،واذا ذهبت الى مساجدها ،وكنائسها،وجدت الناس كلهم فيها،واذا جلست تثرثر على ضفاف نيلها وجدت كل الناس يثرثرون معك هناك ، و إذا وقفت امام طوابير المنتخبين ترى المصريين كلهم ينتخبون بهدوء ،ونظام، وبهجة،و اذا ركبت "التوك توك" وجدت مصر كلها تركب فيه ...وهنا الحكاية : التوك توك!!
في مصر يتهادى "التو ك توك "في الشوارع الضيقة،والحواري،والأزقة المنسية،يشق طريقه وسط الزحام طولا وعرضا،"يمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل"فسرعته لا تتجاوز العشرين كيلو مترا في الساعة ، يختصر الوقت والجهد و الآم الانتظار،يحارب جيوب البطالة للعاطلين، و يثير السعادة في نفوس الاطفال والمسنين،ويوفر وسيلة نقل رخيصة للمحتاجين .
للفقراء والمعوزين.. توك توك، للمستعجلين..توك توك،للمتاخرين..توك توك، للرائحين والغادين... توك توك،للمرضى والمسنين...توك توك،لطلاب المدارس والجامعيين...توك توك، للمثرثرين على ضفاف النيل... توك توك ، للفقراء والمساكين والمصلين والقائمين بالاسحار .. توك توك ، للثائرين على الفقر والبطالة .. توك توك للسائحين والبائعين المتجولين.. توك توك .
توك توك ..للصحفيين الباحثين عن القصص المثيرة.. وتوك توك،للناخبين المتاخرين عن دوائرهم الانتخابية... وتوك توك للرياضيين واللمعاقين .
للراغبين بالنزول الى قاع المدينة والهاربين من زحام شوارعها المكتظة بالسيارات... توك توك ، لكل المصريين الرائعين المدهشين الطيبين .... توك توك!
التوك توك .. كان عنوان مقال منع من النشر في صحيفة الاهرام قبل الثورة ،وقام كاتبه بنشره في نفس الصحيفة بعد ان ارتفع سقف حرية التعبير فيها بعد الثورة وكان بعنوان" من الطائرة الى التوك توك" وقال في ختامه "انه لولا ثورة شباب مصر لما ظهر المقال الى النور" .
وكان المقال تضمن نقدا للسياسات الحكومية في مجال التعليم،وتحدث فيه كاتبه عن اتفاق تم ابرامه بين مصر والهند عام 54 لصناعة الطائرات،تقوم مصر بموجبه بصناعة محرك الطائرة،بينما تصنع الهند جسم الطائرة، وبعد مرور السنوات انتهى الحال بان اصبحت الهند اليوم احدى الدول الكبرى في صناعة وتصدير الطائرات بينما تدهورت مصر حتى اصبحت المستورد الاساسي لمنتج هندي صار احد معالم تخلف مصر . حسب الكاتب .
قال لي احد الاصدقاء،انه في القاهرة وحدها يوجد 25 الف توك توك، بامكانك ان تشتريه من الاسواق كما تشتري ( العجلة )" الدراجة الهوائية"..منه نوعان الهندي والصيني،اما الهندي فهو الاغلى سعرا،والاصغر حجما، والارفع مقاما لدى المصرين،اما الصيني فهو الاقل سعرا واقبالا، والاكبر حجما.
واضاف صديقي انه يعرف صاحب سيارة كبيرة ،تصل قيمتها الى 100 الف جنيه فكّها بخمسة تكاتك وزعها على ابنائه ليعملوا عليها حيث يدخل الواحد منها في اليوم 200 جنيه!
يتسع التوك توك لثلاثة ركاب مع السائق،لكن سائقيه جعلوه يتسع لسبعة ركاب، اربعة في الخلف ،واثنان على يمين السائق وشماله ، الوانه متعددة ،فمنه الاصفر، والازرق، والاحمر،والبرتقالي، والمزركش ،والبندي،وله فوائد جمة، يقوده الأطفال كما يقودون دراجاتهم الهوائية، تحبه النساء لأنه ياخذهن من عتبات بيوتهن الى الاسواق، ويعيدهن من حيث اتين دون ان يتجشمن مشاق السفر في الحافلات المكتظة،وصعبة الصعود على درجاتها .
يحبه الموظفون المتأخرون عن اعمالهم، و الطلبة المستعجلون الى مدارسهم وجامعاتهم ،وأطفال المدارس يمتطونه بهجة به، وتوفيرا لمصروفاتهم ، فهم يسعدون برحلة يومية في التوك توك.
على التوك توك تقرأ عبارات تجذبك وتضحكك "تمساح يبلعني ولا صاحب يحسدني و " عضة اسد ولا نظرة حسد " و " صعب تقلدني كبيرك تحسدني" وغيرها الكثير.
خلال الايام الاخيرة عاد الامن الى المدن المصرية ،ولا سيما القاهرة،فترى عناصر الشرطة ،يسيّرون باحترام وحرفية ،حشود السيارات في الشوارع ،فيما يبدو حضور الجيش خفيفا في الشوارع ،الا من مجموعات راجلة او محمولة على عربات لحماية مراكز الاقتراع التي تشهد في غالبيتها انتظاما هادئا في الطوابير، واقبالا على ممارسة حق الانتخاب قل نظيره .
في زيارتي الاولى لمصر قبل نحو خمسة عشر عاما لم استطع اغماض عيني المتعبة من مشاق السفر،كي لا اضيّع فرصة النظر الى كل شارع ،ويافطة ،ومبنى في شوارع المدينة المتواضعة ،الساحرة بتراثها،وتاريخها الذي تراه يمشي امام ناظريك حيثما يممت وجهك .
اما في هذه الزيارة وهي العاشرة لام الدنيا،ورغم انني نزلت الى ميدان التحرير عشرات المرات في زياراتي السابقة، الا ان هذه المرة كانت مختلفة، وكانها لاول مرة ،فما ان هبطت الميدان، حتى رحت اتفحصه كانني اشاهده لاول مرة ،ساحاته ،وتقاطعاته ودكاكينه، واكشاكه، ومكتباته، ومحلاته ،وشوارعه المكتظة بالسيارات،والمشاة،وقد سمح الثوار بفتحه،امام حركة السيارات حرصا على عدم تعطيل الحياة فيه ،فيما تنتصب خيام المعتصمين وسط الميدان النابض بالحياة والحرية ،ففي ساحاته اشرقت شمس الحق بعد غياب طويل ،وطلع عليهم بدر الحرية بصرخات الثائرين.
للقلقين على حاضر مصر ومستقبلها ،فان ام الدنيا اليوم بكامل عافيتها، وحيويتها ،وهي تستعيد شيئا فشيئا حريتها ، لتدخل عهدا جديدا من انعتاقها ، بعد ان كسرت بنزف جراح ابنائها، ووجع معاناتهم،وضياء عيونهم،واغنياتهم ،واناشيدهم ،وسخريتهم اللاذعة، ونكاتهم التي اضحكتنا في ذروة خوفنا وقلقنا عليها ، في ثورتهم التي سميت بالثورة الضاحكة،قيود استبداد وظلم مقيم ، دام اربعة عقود.. انها مصر الجديدة ....ادخلوها امنين مطمئنين .