صاحب البيت/اللاجئ
نشر بتاريخ: 01/01/2012 ( آخر تحديث: 04/04/2012 الساعة: 09:25 )
أنا قهقهةُ الفجيعةِ التي تقطع شرايينَها،
في نهار هزيمتها ووعْيها الكوميدي الباهت،
وأنا لُغَتُها الجميلةُ.
أنا هشاشةُ العصافيرِ الحجرية،
وثلجُ القهوةِ البعيدة،
وهزيمةُ الحرفِ الذي تجرّه الخيولُ
إلى مقصلةِ البطولة.
أنا خارجُ الصلاة،
وداخلُ المذبحِ الأنيق،
وفي انتظار العَودةِ المستحيلة.
*
زلزالٌ بشري هاديء .. يبكي!
فتهتزّ الشواشي على غُرّة النافذةِ الحرّى.
وثمة كتابٌ أصفرُ كناريّ، يسرّ الناظرين
مفتوح ..
لم يكمل صاحبُ البيتِ قراءَتَه،
تركه .. وراح على طائرةٍ حديدية
إلى سماءٍ فارهة.
الغبارُ طبقاتٌ،
لم يجرح نعومتَها الماءُ الزجاجيُ الكاوي
الذي يبرق في مآقي صاحبِ البيت .
وقبل أن تحطّهُ الطائرةُ
على الليلِ الممسوس بالزمهرير،
كانت طفلتُه ترتجفُ من غرابة ألوانِ الماء
المبهم الجديد،
وكان صاحبُ البيت يضع يدَهُ على قلبه،
خوف أن يتلاشى ..
ويتركَ الضفائرَ في البئر البيضاء.
*
يا بغداد ! يا قرطبة ! يا مليلة!
يا تدمر ! يا سبأ .. يا يافا.. يا قدس
يا أمي القاتلة المقتولة !
لماذا تكسريني مثل مئذنةٍ فتيّة،
وتخلعيني من رحمك
قبل أن تكتمل مشيمة الكلام؟
ولمّا أرفع أوراقَ الليمون
على عجينة الدار، لأدخل مع العروس
إلى حمأة الزفافِ المطهم بالعَرقِ
والأغاني الهائجةِ الساخنةِ المدوَّخة؟
أنا صاحبُ البيتِ الذي خسر العشبةَ،
قبل أن تُعكَّرَ المرأةُ شرايينَهُ بعسلها،
وقبل أن أُطفىء لفافتي في الدم الأسود.
وطني حبُر الروح الذي أوزّعهُ
على الحدود،
ونشيدي الذي لا يعرفه الغرباء،
وضحكاتي التي تُبكي أصحابي القادمين
من الحجاز وبغداد.
*
وأنا صاحبُ البيت
الذي أخرجه "فاوست" الوطني،
بعد أن عَلَك الطاووسُ لحمَه،
وحبسه في عنكبوت الهلع،
وأذابوه في أَسيْد الشُّبهة،
وألْزموه بوصف عباءة العاري
وهو يجرّها على النّطع والجماجم.
*
وأنا من بترا أو بيت المقدس أو بيروت
وربما من استوكهولم.
غير أني كاتبٌ مقهور
أُحبّ الأشياءَ الصغيرة والأصدقاءَ البعيدين.
ولطالما بكيتُ على الإمام، وجفّ حلقى
كلما ذكروا العطشَ وقطْع الرأس،
فيما كانوا يبكون على الهريس ..
وأحبّ أبنتي التي عندما تضحك
تزهر ألفُ وردة، ويحلّ الربيع على أكتاف المدينة.
وأحفظ قصص جدّي الذي كان يعلّق
الأفاعي في الهواء، ويُخرج النحلَ
من أفواه الرجال.
وكثيراً ما قصّ حكاية السيف الذي
يقتل حتى المحروسين بالسحر،
وله نََصْلٌ يقطع كل شيء وأي شيء!
ولم يكن يعرف "ديموقليس".
غير أن تظاهرة التأييد التي مرّت،
ذات يوم،
أمام بيتنا وهي ترفع صورة البطل، لم تعجبه،
وتمتم قائلاً:
تحت جلد ذاك البطل وحشٌ كامن!
وأضاف: الرجل المناسب هو الذي يرتدي التاج.
كان جدّي يضطرب كثيراً لأسباب أجهلها،
إلاّ أنني أذكر حركة أصابعه،
ويده التي تتوتّر مثل رمح نِبتون الثلاثي.
*
وأحببت الأميرةَ الصهباء،
مثلما أحببتُ "أنانا" الطاهرة،
وتخيّلتها تتهادى فوق ماء النهر،
وعلى رأسها "شواجارا" تاج السهول الساطع!
ولم أبرح الصراط المستقيم و"طريق الكارما".
وما زلتُ وحيداً.
وأحلم أن أعود إلى تمبكتو
أو سرّ مَنْ رأى أو عمّان .. لا فرق !
فمن أين لي بطاقيّة الإخفاء
أو "سيفالوس" حصان الإسكندر،
ورماح أبولّو الحارقة،
وأصحب معي "كاليستنيس"،
ليؤرّخ عودتي الظافرة
وحياتي الهانئة الجديدة!
لتعود إلى ابنتي شمسها
فقد أخطأ مَنْ قال:
عندما تترك الفراشةُ شرنقتَها
تصبحُ أكثر جمالاً.
وأقسم بأنني سأهزم "داريوس"،
وأعيد إلى بابل صهيلها الذهبي،
فأنا مُحَبَّرٌ له حدسٌ حَاد
مثل سيف قلمه.
وأقسم بأنني سأجعل الريح ثملة
تتثنّى على تجاعيد البحيرة الحلوة،
وسأفتح قلبي، ذلك المعبد الصغير
الذي ينبض في الطرقات،
لتغنّي الأشجار بجرأة الموسيقى،
للمجنون الذي أدار ظهره للعجاج،
ليستقبلَ صباح الحب الجليل.
*
سأجعلك أيتها الأراضي السائخات جنّةً كاملة!
والجبالَ ملونةً كأنها تحف منحوتة،
والتجويفات والصخور الاسطوانية رسوماً ونقوشاً،
أما تماثيل الغيلان والعنقاوات والكائنات الخرافية
فستحظى بشموس وأقمار وخيول
وعقودٍ من الفلّ والورد!
وسيعود إلى بترا نجمُ "سيروس"
ليفيضَ الوادي، وتعمل المعازق والمحاريثُ
والفؤوس، ويجمعون السنابل في سلال كبيرة،
ويوشمون مواشيهم الكثيرة،
وتُرْضع "هيرا" هرقلَ الجديد ثانيةً
ليطلع درب اللبن من جديد.
*
إن هذا السطح الأنيق، في بلاد الثلج،
يخفي قلباً متحجّراً .. فأعيدوني إلى بلدي!
لأرمي معادن قلبي في غبغب الآلهة،
أو ليعلّقني العسسُ على المخلعة،
ولأهْدر مديحي في البطل القاتل،
أو ليأخذني الأقيالُ إلى حروبهم المأجورة،
وليجلعوني قرباناً لرغبات نسائهم الطائشات..
أو ليغدر بي العميلُ القبيح
أو آكل لحوم البشر
أو رئيس السجّانين
أو أعمل أجيراً لدى امرأة صاحب الخان،
أو لتنظر "ميدوزا" في وجهي
وتحيلني صنماً،
تبول عند قدميه الكلابُ السائبة ..
ولكن لا تتركوني هنا
لا تتركوني هناك.
*
ربما كنتُ من نسل "ميشع" الملك الموآبي،
الذي هزمه اليهودُ في الجزيزة العربية،
وهرب إلى شرق الأردن.
ولعلّي صاحب وثيقة "حران كويثا"،
التي تتحدث عن هجرة آبائي المندائيين من
أورسالم إلى أرض ميديا ثم إلى بابل،
ومنها إلى مملكة ميسان جنوب العراق.
وقد أكون المَعْنيّ في أشعار ابن القيسراني
الذي رثى انطاكية الضائعة، وأنا اٌبنها الشريد.
أو المقصود في قصائد ابن الرومي
وهو يبكي خراب البصرة،
فأنا من سلالة النازحين منها.
ويَصْدُق أن يكون جدّي الأول من بغداد
وهي تحرق وتهدم،
ودم جدّي هو حبْر المسعودي في شذوره.
ويَصْدُف أنَّ أبا البقاء الرنديّ
رأى أبائي وهم يهجرون الأندلس .
ولعلي من حيفا التي زلزلوها،
فهجرها أهلها .. ولم يعودوا بعد !
إن ما ضاع سيظلّ ضائعاً!
ولم ننتبه، حتى الساعة،
إلى ضَياع كل تلك المدن،
التي جعلها "السلام" سليبةً بامتياز!
والمفارقة، أننا نحب المدنَ الضائعة،
التي نراها جنّةً
وأناسها ملائكةً خالصين.
وأقول للذي عانقَ قاتله
قبل أن يأخذ حقّه أو ثأره:
إذا قررتَ أن تصبح فاسداً
فلا يجوز أن تعود بريئاً،
وليصمت الهراطقة التجار.
وأنا لا أتحدث عن خراب المدائن،
لكنني أبحث عن ملكيّتي لها.
تلك المدن التي أحالها المغولُ
إلى ملامح واٌسمٍ وجغرافيا جديدة.
ولستُ لاجئاً ليسيطر عليّ المؤقّتُ!
لكن الضياع الروحي هو الذي يلفّني
وليس ضياع الحجارة والأشجار.
*
إنني وحيد، أمشي في الغابة الماطرة،
وأتخيّل شكل الصفحة التي كنت أقرأها،
في ذلك الكتاب الذي تركته على حاله،
.. سأبقى أنا ذلك الكتاب المفتوح!
فأعيدوني لأتمّ الصفحة،
وأغلق الكتاب،
حتى لا يأكله البرد
ويرنو عليه الغبار
وتقضمه الأَرَضة.
والآن، ما زلتُ أقاوم الكاّبةَ بالجَمَال
وأكون رحيماً مع روحي،
لتساعدني على المعرفة،
وأحاول أن أفكّك الغابات والوجوه،
فالفضول هو خطوة التنوير الأولى،
في هذا المحيط العكر الكابي،
فلا تتركوني هنا
لا تتركوني ..
وما زلتُ أنادي
على هذه البقعة النائية:
إذا اٌتَّجَهْتِ إلى الشرقِ فاحترمي الآلهة ..
فهناك تخلّقت وأشرقت،
وهناك سأبقى.
ولا تتركوني ..
فأنا هنا ظِلّ ..
والظلالُ لا أسماء لها .