الخميس: 14/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

خلال ندوة لوزارة الإعلام- اسرى مُحررون يوثّقون تجربتهم الاعتقالية

نشر بتاريخ: 09/01/2012 ( آخر تحديث: 09/01/2012 الساعة: 15:50 )
جنين- معا- أعادت ندوة "ذاكرة الحرية" التي نظمتها اليوم، وزارة الإعلام في طوباس، ومركز الشهيد صلاح خلف التابع لوزارة الشباب والرياضة، لمناسبة سنوية انتفاضة عام 1987، بناء لحظات مزدوجة داخل زنازين وساحات تعذيب، ارتبط بالسجن الذي تحرر من الاحتلال.

فسار رائد جعايصة، وعاصم منصور، وعبد الكريم يونس، ومحمد الشيخ إبراهيم، بعكس عقارب الزمن، وقصّ أربعتهم شهادات وجعهم مع سجن الفارعة، الذي صار أكاديمية للأمل.

وظلت أحزان جعايصة حاضرة، بالرغم من أن مكتبه في متابعة المنشآت الرياضية صار في المكان ذاته، الذي كان محكمة عسكرية لتمديد أسرى الحرية، يقول: في نيسان 1982، كنت في الثالثة عشرة، عندما شاهدنا جنود الاحتلال، يحضرون أسلاكاً شائكة، ودوريات، وآليات، إلى المركز القريب من مخيمنا، الذي أقيم أيام الاحتلال البريطاني.

وقتها، كان بعض أهالي المخيم يرددون إشاعة إن هذه الأسلاك، أحضرها الاحتلال من صحراء سيناء بعد انسحابه منها. وبعد وقت قصير، هبطت قرب منازل المخيم، طائرة هيلوكبتر، كانت تقل أرئيل شارون قبل أن يصبح وزيرا للجيش، وعندها تقاطر الأطفال والشبان والأهالي، ليشتبكوا مع جنود الاحتلال. لنشاهد بعد شهر تقريباً، حافلات خضراء، كانت تقل أسرى معظم من مخيمي الدهيشة وبلاطة، وتزج بهم في السجن، وتُنكل بهم في افتتاحه.

لم يكن جعايصة يعلم، أنه سيكون هدفاً للسجانين الذين احتلوا المكان الملاصق لبيته، ففي العام 1986، عمت مظاهرات صاخبة طوباس احتجاجاً على قتل مستوطني "ألون موريه" لشابين من نابلس، فاعتقلنا بعد هجومنا على مركز للشرطة، وحرقنا لعلم الاحتلال، ورفع العلم الفلسطيني.

يقول: اعتقلت في الفارعة أربع مرات، وتكرر دخولي لهذا السجن في 20 كانون أول عامي 1991، و1993، ولا زلت أتذكر كيف كان الاحتلال يستهدف شبان المخيم، بوضعهم في غرفة رقم(7)، التي صارت اليوم مكتب مدير المركز، للتنكيل بنا، مع تعرض كل دورية للاحتلال لحجارة أطفال الفارعة، وقنابلهم الحارقة. والمحطات كثيرة، ولا تُنسى، لكن أقساها، حينما تصادفت لحظات اعتقالنا مع عاصفة ثلجية هبت على فلسطين في كانون الثاني 1992، وعندها استغل جنود الاحتلال وسجانيه الثلوج لتعذيبنا. ولا أستطيع نسيان لحظات إجبارنا على التعري، في لحظات اعتقالنا، أمام ممرض وممرضة، بحجة الفحص الطبي.

فيما يسترد عاصم منصور، قصة اعتقاله تسع مرات في السجن ذاته المجاور لمنزله، اختلفت مدتها بين 3 و9و18، و56 يومًا، لكنها تشابهت في التعذيب والإذلال والتنكيل، وبخاصة عندما طلب شربة ماء خلال إحدى جولات التحقيق معه، فأحضر له الجندي مادة(السولار) بدلاً من الماء، وشرب قليلاً منها، قبل أن يتعرف إليها، ويلفظها.

يضيف بصوت يسكنه الألم: كانت الفارعة ساحة تعذيب، ولا أنسى التنكيل بي خلال العاصفة الثلجية عام 1992، حينما أزاح السجان بحذائه العسكري الثلوج من كرسي الشبح المصنوعة من الباطون، وأجلسني عليها، رغم أنني كنت أرتدي ملابس خفيفة. كما أدخلوا علي في الزنزانة متعاوناً معهم، كنت على عداء شخصي معه من خارج المعتقل، وهددني، واستقوى بإدارة السجن عليّ.

ولا تسقط ذاكرة عبد الكريم يونس، الذي يسكن جنين، أسماء المحققين الذين كانوا يختفون وراء أسماء عربية، واشتهروا ببطشهم وامتهانهم لكرامة الأسرى كـ"نور"، و"أبو علي ميخا"، و"أبو جبل"، و"غدير"، حينما كانوا يبتكرون وسائل إهانة وقهر. لكن لحظة وصوله إلى الفارعة، التي تكررن ثلاث مرات، لم تكن هينة، ففي كل مرة يتجرع فيها المر، وخاصة عند تعرية الأسرى.

يقول: إنها إهانة كبيرة للكرامة الإنسانية، أن تسير كما ولدتك أمك، أمام مرض وممرضة، يدعون فحصك الطبي، وينهال عليك السجانون بالضرب، وأنت تخرج من العيادة، عندما تسير في ممر يصطف الجنود من جهتيه، ويركلونك، أو يضربونك بالعصي، ويشتمونك بأقبح الألفاظ.

ومحمد الشيخ إبراهيم، الذي يسكن قرب نابلس، لا ينسى لحظات الفارعة السوداء، ويشبهها بالمسلخ. لكن أصعبها، عندما كان يتفنن المحققون في طريقة شبحه، فمرة يربطون يديه وراء ظهره، أو أمامها، أو يربطونه وهي ملعقة فوق رأسه، بحلقات من المعدن، كانت مثبته في جدار.

يقول: إذا أردت ن تعرف معنى التعذيب الذي تتعرض له في سجن الفارعة، فعليك فقط أن تتذكر بعض المحققين، الذين تخصص كل واحدة منهم في أسلوب لإهانة كرامتنا، بعضهم كان يمسكنا بقوة في الرأس، وآخر يلطمنا بيده السميكة، وثالث يبحث عن أقبح الألفاظ لإطلاقها على أمهاتنا وأخواتنا، أما رائحة "الكردل" النتنة، وهو الوعاء الأسود الذي كنا نُجبر على قضاء حاجتنا فيه، فهو قصة أخرى.

ولا زالت جدران الزنازين تحتفظ بتواقيع الأسرى الذين تجرعوا علقمها، ففي "الإكس"، و"الإسطبل" و"الزنزانة" ترى ابن طلوزة، وبجواره، شباناً تركوا بصماتهم من سيلة الحارثية، وبلاطة، وعسكر، وطولكرم، ونابلس، وقلقيلية، وجنين، وغيرها. فيما آثر البعض خط عبارات:"القدس في العيون نفنى ولا تهون"، و" الاعتراف خيانة"، و" لا بد للقيد أن ينكسر". غير أن الفنان رسل أبو صاع، من دير الغصون، بجوار طولكرم، اختار أن يرسم جدارية على واجهة السجن، تشير إلى تاريخ أسره في 25 نيسان 1983، وهي اللوحة ذاتها التي حرص أبنه علاء على ترميمها، بعد رحيل والده.

وذكر منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف، أن محاولة الوزارة إعادة بناء لحظات قهر أسرى الحرية، تتقاطع مع ذاكرة المكان وتاريخ الذين قبعوا فيه، وتجرعوا عذاباته، وتعرفوا إلى قهر جلاديه، وظلمة أقبيته، ورطوبة زنازينه، التي تتسلح بالتاريخ الشفوي، من شهود عاشوا تجربة اعتقالية لن تنطوي صفحاتها بعد.

ويقول مدير مركز صلاح خلف، المنبثق عن وزارة الشباب والرياضة مروان وشاحي، إن الفارعة كسجن تحول إلى مركز شبابي، يُقدّم رسالة إصرار وإرادة على قهر السجان والمحتل.

ويشير وشاحي إلى محاولات جادة لتحويل المكان إلى متحف تفاعلي، لأنه يحمل ذاكرة ما تعرض له شعبنا من قهر وتعذيب، تشارك فيها أسرى سابقون ومؤسسات بحثية، ودارسون أجانب، أعد بعضهم أطروحة ماجيستير حول السجن، وتاريخه الشفوي، وألوان التعذيب التي عاشها شعبنا في سجن صار مركزاً لتأهيل الشباب وتدريبهم، وتحولت غرفه وساحاته إلى مكان يبعث على الأمل.