الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

"موات" فيلم فلسطيني، فاحذروا /المتوكل طه

نشر بتاريخ: 08/02/2012 ( آخر تحديث: 04/04/2012 الساعة: 09:27 )
"جيسي موات"، الذكي الشرس، الذي كبر بين جدران الإصلاحيات و السجون الجنائية، كان أحد الهزّات التي رجّت أمريكا بعد المكارثية وقبل انهدام البرجين، وتمكّن من الهروب غير مرّة، والإفلات من يد العدالة والأحكام الصادرة بحقه، بالموت، على الكرسي الكهربائي.

وبالرغم من أن "موات" ارتكب أكثر من خمسين جريمة قتل بشعة، إلاّ أن أحداً لم يسأل لماذا شبّ مجرماً بهذه السادية ! بل إن سينما هوليوود التقطت رواية حياته، وأنتجتها فيلماً مثيراً عُرف باسم "Unspeakable "، مضيفةً إليه إبهاراً بصرياً، وبهارات ميثولوجية جعلت البطل السفّاح فيلسوفاً فطريا،ً ينطق بالحكمة المُقطّرة، دون أن يشيروا إلى أن "عمقه الفكري" هذا تأتَّى من ذلك القمع الرهيب، الذي تعرّض له "موات" من أبيه صغيراً، ومن كمية الألم المُفزع الذي أحيط به طيلة سنيّ احتجازه، في مؤسسات إعادة التأهيل والزنازين والعقاب المتواصل، رغم أنَّ مدرسي "موات" شهدوا له، مبكّراً، بالنبوغ وبقدرته الفذّة على حفظ "الكتاب المقدّس" عن ظهر قلب، والأناشيد والصلوات، وتوقعوا له أن يكون قديّساً، غير أن سبباً ما هو الذي أحاله إلى نموذج لأعتى مجرم وبامتياز، وهو الذي طوّر لديه قدرة الاحتمال غير العادية، التي راح يوظّفها في ثباته وتقدّمه على درب مواجهة المجتمع الكريه الظالم، من وجهة نظره، والسبب هو "القمع" و"القمع" و"القمع" ..

"وجيسي موات" المقموع الذي أعاد تفريغ قمعه على غيره، كعملية "طبيعية" متوقَعة، يمكن اعتباره، وبحق، طفل الأرض اللقيط، الذي يمثل قوّة الشرّ في الحياة، ومدى ما تنتجه الكراهية التي تقوّت منها وتغذّى من ضرعها، وتجشّأ حقداً لا يرحم.

هذا الشاب الخُلاسي الذي كان يصلح لأن يكون وريثاً لراهب صيني قديم أو هندي زاهد عميق، راح يجزّ الأعناق وينحر الوتين تلو الوتين، بدم بارد وقناعة تريحه، وتشعره بأنه يردّ "التحية" / القمع بأحسن منها / قمعاً مهولاً !
ولعل خلاصة حياته تقول لنا: إنه من السهولة أن نُجسّد الشرّ في ظاهرة أو شخص أو فعل، حتى نبرأ مما نفعله ونقوم به من أخطاء وخطايا، ولكن من الصعب أن نضيء ذلك الشرّ الذي فينا ونكشفه ونحاصره ونعالجه ونسيطر عليه ونحوّله إلى "خير".

والقمع هنا هو الإرهاب، والعنف، والتعدّي، والشرّ، والكراهية، والفوضى، والثأر، والفساد، ومراكز القوى، وشخْصنة الأمور، والهبوط بالأمر العام إلى الذاتي، والملاحقة الأمنية بكل أشكالها، والخَرَس الذي يربي الآباء أبناءهم عليه، والتلقين الفجّ في التعليم، والنمائم، والشائعات التي تؤدي إلى الإعدام المعنوي أو الجسدي، وغياب القوانين الضامنة للحريات والترهيب ، أو غياب المعلومة ،والحبس على خلفية النشر وتكميم الأفواه ، والعدمية القومية القادمة من الجهل، وقبول الاستلاب والوقوعية، وتفكيك المنظومة المناعية، والاستقواء بالخارج، وانتفاء الحوار أو الإعتراف بالآخر الوطني، والتعصّب وكذلك المناداة وممارسة الجهوية والحزبية الممجوجة الضيقة ..إلخ وكل تلك المفردات السوداء التي نكتفي بإدانتها، دون خسارة، ودون أن نبهظ أنفسنا بالبحث عن دوافعها وكوامنها ومرجعياتها، ولإيجاد حلول معقولة ومناسبة لإطفاء جذوتها وانفعالاتها. مع العلم أن أشكال القمع هنا تنتج بعضها بعضاً، وتشدُ أزر بعضها، مثلما أن إضعاف إحداها يضعف الباقي .

أما الفقاعات التي ترهص للعنف والتعصّب وتشير اليه، فتتمثل في لغة الإحباط العدميّة وفي اللغة النهائية التي تؤلّه أو تشيطن , والعبث والسخط وتوالي الشكوى، وتلك الفلتات الحادة، والادّعاء بامتلاك الحقيقة , وشيوع أدوات العنف، والوقائع البدائية وإن تباعدت مكانياً وزمانياً .

علماً أن الهزيمة التي نعيشها تؤدي، ضمن ما تؤدي إليه، إلى أن يذهب المهزومون إلى تمزيق مجتمعهم /ذاتهم، ولأن الهزيمة تحوِّل المهزوم ، بالضرورة، إلى شخص عاجز عن تحديد الاتجاهات، وتدفعه الهزيمة إلى إهانة رموزه وعدم الثقة بالمستقبل، وتجعله يبحث عن خلاصه الشخصي، مثلما تغريه لأن يقلّد قاتله أو عدوه، ويذهب للإنتماء والإحتماء بالدوائر الصغيرة (العشيرة، الطائفة، الحزب) بدل انتمائه للدائرة الكبرى (الوطن أو القضية).. وأعني بالهزيمة حالة التردّي أو كل حالات الانغلاق والأزمات التي نعانيها، والهزيمة هنا مجاز، لاعتقادي أن شعبنا لم ينهزم، ولن يرفع الراية البيضاء، لكنه يعاني مما يشبه الهزيمة ! ولعل التوصيف السياسي للانقسام واعتباره انقلاباً لم يدرك أن جوهر ذلك كان تمزيقاً للذات الفردية والحزبية والوطنية، وأن علاج الإنقلاب/ التمزيق يتطلب ما هو أبعد من المصالحة على أهميتها، ذلك أن المصالحة هي إدارة الإختلاف بين الأجندات الفصائلية المتعارضة وصولاً إلى أجندة جامعة، تمثل الحد الأدنى من التقاطعات الوطنية، لتعميق الشراكة على قاعدة الوحدة، باعتبارها مصدر الحفاظ على القضية ومنهلاً للمناعة الوطنية. أمّا ما هو أبعد فذلك التربية والثقافة والفكر القادر على اعادة صياغة الفرد | المجتمع والتطهّر من الشوائب والأدران .

وفي حالتنا الفلسطينية فإن المتحكّم الأقوى في فضائنا الأمني والإقتصادي هو الإحتلال، الذي يسعى بكل الطرائق والآليات لأن يمزّقنا و يفتّ في عضدنا ويعمق خلافاتنا ويؤبّدها، ما يعني أن ننتبه أكثر من غيرنا إلى ضرورة تمتين عُرى منظوماتنا الفكرية والأخلاقية والوطنية، لمواجهة غوائل التفتيت والتشظية والعنف الجوّاني، وسحب الذرائع المعادية التي تسعى لإبهاظنا، وحتى لا يبرز فينا من يدعو إلى أن نصبح ضحايا سلبيين.

وبالمناسبة فإن الفاشية والنازية والكارليّة والهبّات الهوجاء التخريببية المنفلتة من عقالها .. لم تجد لها أرضاً إلا في مناخ الأزمات الإقتصادية والإجتماعية العميقة وانغلاق الخيارات أمام الناس، الباحثين عن إشباع متطلباتهم وممارسة حقهم وحفظ كرامتهم .

أما مناسبة تناولي لهذا الموضوع فهو التعصّب الذي يتضخم ويصّاعد و ذلك الكلام الساخن الغليظ الذي لم ينقطع، والاستنكارات التي تترى تباعاً كرد فعل على أي عمل "مُنكر" يجترحه شخص ما أو مجموعة منا فينا أو منا علينا وعلى منجزاتنا، والشواهد، في مجتمعنا الفلسطيني "والحمدلله" كثيرة لا تحصى ! والكثير منها ما زال إرهاصاً أو مُضمراً، فلنسارع إلى الحفر والتبصّر والتبؤر فيه، ودون مجاملة لأي اعتبار، حتى لا يكبر أو يتجلّى برعبه القبيح.
وأنا هنا لا أبرِّر العنف والتخريب، ولا أجد فيه عزاءً أو معقولية أو حلاً أو رجاءً أو ما يحزنون، لأنه أمر ناتئ مرضيّ يشبه الزجاج المشروخ، لكنني أطالب وأنادي بسبر غور الأسباب التي دفعت هذا أو أولئك إلى ذلك الفعل الشنيع الخطير، وألا نكتفي "بفشة خلق" آنية، أو بإجراء مجزوءٍ، أو بمواجهة الخطأ بخطأ مماثل، أو بقمع هؤلاء وترك الأسباب تتفاعل وتُنتج "مجرمين" و"عابثين" جُدداً !!

وربما ينسحب هذا القول برمته على "العنف" و"الإرهاب" والتعصّب الذي يقارب التطرّف بكل مستوياته وأشكاله، وأعني المستوى السياسي والوطني والثقافي والفكري والاجتماعي الاقتصادي ... الخ .ولا تقتصر ممارسة العنف على الأفراد، بل تتعداها إلى المجاميع التي تمارس "خروجها" بصورة عمياء ومخيفة، وتكون نتائج فعلها شديدة الخطورة والمقت، مثلما تكون تداعياتها في منتهى التعقيد والخسران . كما أن العنف والتعصّب يمتدّ من العنف اللفظي إلى الإغتيال .

فإذا ما وجدتم "مُجرماً" فلا تُعلّقوا له المشانق أو لا تفرحوا إن وقف على نطع السيف ليموت، فهو "ضحيّة" بشكل ما ، وبحاجة إلى ردع ومحاسبة، ولكن ثمة أسباباً أنتم جميعاً مسؤولون عنها، وهي برسمكم أيضاً، وربما تصبحون أنتم "مضطرين" في لحظة ما لأن تكونوا "مجرمين" أو "أصحاب ثأر" وخصوصاً إذا ما اعتُدي عليكم أو تم استلابكم أو منعكم من ممارسة حقوقكم، وخصوصاً أن حالة من الفلتان والفوضى والتعويم والاستباحة نشهدها تعود بأشكال جديدة إلى مجتمعنا .. فماذا أنتم فاعلون ساعتها ؟ هل ستقبلون روح "العبد" لتنسرب إلى أضلاعكم، أم أن شعلة "المروءة والكرامة والحق" ستضطرم في أرواحكم وستثورون على هذه المَظْلَمة أو هذا القمع !؟ وهل الحلّ الفردي وأخذ القانون بيدنا هو الحلّ الأمثل والأجدى ؟ أنا لا أعتقد ! فما هو الحل عند غياب القانون والضبط أو ضعفهما ،أو عندما تسيطر روح سكسونيا في أروقة القانون؟

إنني أحذر، ليس إلاّ ! وتحذيري هو أمنية عاجلة ونداء للمستوى السياسي والديني والثقافي والأكاديمي والتربوي والإعلامي .. لإجراء عصف فكري وبحث جاد متكامل مسؤول، لمحاصرة تلك الظواهر على درب اجتثاثها ، ليهنأ الناس بنومهم وصحوهم الصعب المعيش، على أرضية العدل والإعتدال، وشرط أن يظل الإعتدال أمراً نعوّل عليه. ولعلي لا أجد أكثر من الثقافة والفن والتربية علاجاً لكل تلك الحالات الخائبة، جنباً إلى جنب الحرية المسؤولة غير المسقوفة. وحتى لا نخيب أكثر!