الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

قصص اعتقالية مهداة الى الشيخ المجاهد خضر عدنان

نشر بتاريخ: 20/02/2012 ( آخر تحديث: 04/04/2012 الساعة: 09:27 )
-1-
طُوبى
أخذوه منها!
لم يبق لها في الدنيا غيره. تزوجت وأنجبته بعد سنوات من الرجاء والبكاء، وراح زوجها إلى البعيد، ولم يعد! وأحاطت ابنها برموشها وشغاف قلبها، وكبر مع النذور والصلوات، وهيّأت له كل ما تستطيع ليعوّضها! لكنهم اعتقلوه، كأنهم نزعوه من أضلاعها، أو سلخوه من روحها، أو قطعوا فلذة من رحمها، وأدْموا قلبها، فبَكَت ورَجَت، وكادت تهيم جنوناً وتفقد لُبّها، لولا أن ربطَ اللهُ على فؤادها، فتماسكت، وبقي دمعها جارياً، وطرْحَتُها السوداء تلفّ رأسها المفزوع، الذي يتفتّت خوفاً عليه وجزعاً على مصيره.
وراحت ترابط أمام السجن. تقف من الشروق إلى الغروب، لا تأكل ولا تشرب، ودمعها يبلل أرض قدميها، وتعود صافنةً شاخصة في السماء وفي جدران السجن، وصارت تنام واقفة، وتبزغ الشمسُ فتجدها على حالها، واقفةً حيث تَرَكَتْها أمامَ السجن، واعتادت الكائناتُ على منظر وقوفها، ولم تفلح الدعوات واللغات معها، لتعود إلى دارها! بقيت ماثلةً راسخة أمام السجن، وشيئاً فشيئاً ضربت جذورها في التراب، وأطلقت ذراعاها الأوراق والأغصان، وتفرّعت من رأسها ووشاحها طلوقٌ خضراء، وبدأت شروشها تدبّ في الأرض، وتصعد في كل اتجاه إلى أن أصبحت شجرة، لجذعها شكل قوام امرأة، يصّاعد منها غُصنان كبيران، التفت حولهما غصون كثيرة وورق أخضر كثيف.. وجاء الطير وحطّ عليها، وراح الناس يتظللّون بفيْئها، واحتشدت بالأعشاش والزغب والهديل والزقزقات، وأضحى مَنْ يمرّ بها يعتقد أنها شجرةٌ تنبئ بغابة ستمتدّ، لتنشر المسْك والشَّهْدَ والزنجبيل.

-2-
انتحار
خرج المحقق، لا يلوي على شيءٍ، مصدوماً مذهولاً مما رأى! فتبعه جنود الحراسة المتحلّقون حول غرفة التحقيق، ليتبيّنوا الذي جرى! فما وجدوا شيئاً غيرَ متوقّعٍ أو جديداً!
تذرّع المحققُ أمام الجنود بغير أمر، فعادوا إلى مواقعهم، ورجع إلى غرفته!
نظر إلى السجين، فوجده على حاله، مقيّداً وجالساً على مقعد السؤال، لا دم في ذراعه أو على فمه!
ومرّة أخرى، خرج المحقق أكثر هدوءاً إلى الساحة، كأنه دار حوله نفسه مضطرباً، ثم عاد إلى غرفته، فوجد السجين كما تركه!
حاول المحقق أن يسأل السجين دون أن ينظر إليه، ولكن دون جدوى.
طلب من الجنود أن يذهبوا بالسجين إلى الزنزانة، ثم أمرهم أن يحضروه، ثم أعاده، ثم أحضره، ثم أعاده، وأحضره... حتى انغلق الأمر على السجين والجنود!!
في اليوم التالي، أمر المحقق بأن يظلّ الكيس على رأس السجين، والقيود خلف ظهره وفي رجليه، وحاول أن يسأله، فعجز عن الكلام! وقف المحقق، وسحب أقسام المسدس، ضغط بإصبعه على الزناد، فاخترقت ستُ رصاصات جسدَ السجين! هرع الجنود إلى الغرفة، فوجدوا المحقق يجثم على الأرض غارقاً بدمه، والسجين على حاله، ينتفض الكيس على رأسه، والسلاسل تخشخش خلف ظهره وبين رجليه!

-3-
اللبلابة
أَطَلَّتْ برأسِها الأخضر الطريّ، فاستبشرنا خيراً. ثمةَ لبلابةٌ تعربشت، وها هي تلقي برأسها على نافذتنا! وكبرت اللبلابةُ، ونفذت من بين مربعات الشَّبَك الحديدي، فابتهجنا وتفاءلنا!
وامتدت بعروقها، وراحت تفرد غصونها على السقف حتى صارت شبكةً خضراء، تتدلى فوقنا سماءً تشبّثت كالظلال العميقة على كلِّ تلك المساحة التي تغطّينا.
وهبطت بأصابعها الرفيعة إلى الجدران كالأواني المستطرقة، تنزل شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد لونٌ سوى لونها.
وأصبحت زنزانتنا مبطّنةً بتلك اللبلابة المندفعة بنسغها وعروفها الدقيقة إلى أن لامست الأرض من كل الجهات.
وازدادت اللبلابة متانةً وقوّة، وراحت تحتلّ فضاءنا وتكبر. وكنّا في نومنا نلمس تلك العروق التي تلامس وجوهنا وظهورنا وأرجلنا وأذرعنا، فنزيحها بلطف، فتتمسك بنا، وانتبهنا أن لتلك العروق رؤوساً تخترق الجلد، وتروح تمتصّ دمنا!
لم نصدّق الأمر بدايةً، حتى أدركنا أن هذه الأغصان الليّنة الرفيعة هي أقرب إلى المخلوقات الزاحفة التي تخترق لحمنا، وتشرب منه، دون أن نتألم أو نتأذّى، إلى أن زاد هزالنا وضعفنا، وازدادت قوّتها ونضرتها.
بعد شهور أو سنوات، كانت اللبلابة تعبئ الزنزانة، وكنّا هياكل هشّة نَخِرَة، تتحَلّل، وتذوب.
-4-
حلم..
مَنْ هؤلاء الذين يصّاعدون بعباءاتهم البيضاء، ويخترقون سقف الزنزانة، كأنهم ضوء أو هيولا؟
ومَنْ الذين يلفّون سماء الزنزانة بغلالات شفيفة كأنها الغيم الخفيف، ويرحلون مع الهواء؟
ومَنْ ذاك الذي يقف في الفراغ، ويمدّ ذراعيه، فتتدلى أكمامه الواسعة، لتلامس الأرض، كأنه ينتظر مَنْ يعانقه؟
ومَنْ تلك التي تلبس على رأسها تاج النور، فتضيء الزنزانةَ بهالتها الحليبية، وتفرّ منها الفراشات المضيئة كأزرار الثلج، وتسّاقط منها أزهار الياسمين؟
ومَنْ هذه التي تتهادى على فرس الغيم في طريق الغابة المطيرة، ويغطيها النوّار الأحمر؟
ومَنْ هذا الذي يمسك ذراع العروس، ويخطو معها على ماء النغم الهدهاد الرتيب، فتثور النوافير الملوّنة حولهما؟
ولمَنْ هذه الزفّة الصاخبة التي تضوّع الشرفات بزغاريدها وصهيلها ورقصات مزاميرها؟
.........
أيقظوه، إنه يحلم، كعادته!
-5-
يوم الحَمَام
كانت القاعة تعجّ بالحضور، وما إن دَخَل حتى وقفوا جميعاً مصفّقين مرحبين، فتوجّه إلى المنصّة، وظل واقفاً يلوّح لهم، يرسم بإصبعيه شارة النصر، ويردّ على تحيّتهم بأحسن منها !
بدأ محاضرته بالبسملة، وتوقّف لسانه عند ذكر الشهداء والجرحى وزملائه المعتقلين الذين أمضى بينهم عشرين سنة كاملة! ثم راح يذكر عدد الأسرى الذي بلغ قرابة ثمانية آلاف، من بينهم ثلاثمئة وأربعون طفلاً وست وثلاثون امرأة، وأن أربعة وعشرين من الأسرى أمضوا أكثر من ربع قرن في سجون الاحتلال، وما زالوا يقبعون هناك وراء القضبان. وتطرّق إلى صور التعذيب الذي تمارسه إدارات السجون، وإلى أشكال النضال التي اعتمدها الأسرى للحفاظ على منجزاتهم وحقوقهم، وما الذي ينبغي فعله لإبقاء قضية الأسرى حاضرة على كل المستويات المحلية والعربية والعالمية. ثم عرّج على المعتقلين في العَزْل، الذين هم أسرى الأسرى، وما الذي تقترفه فِرق "المسّادا" و"النحشون" و"دوور" العسكرية من فظاعات وتعذيب، وكيف يطلقون أيدي المعتقلين المدنيين اليهود ضد الأسرى الفلسطينيين المعزولين، وأشار إلى ما تتعرّض له النساء في المعتقل من تفتيش جسدي وتهديد وإذلال وضلالات، فيما يتم إرهاب الأطفال بقمعهم وابتزازهم والتعدّي عليهم.
كانت جُمله قصيرة حادّة، ولغته حاسمة، ولهجته تتهدّج بالدمع والغضب، وكلماته تتوالى دون أن ينظر في عيون الحاضرين الذين يعرفون الكثير مما يقوله، لكنه يقدّم هذه المعلومات، أو يعيدها، مشفوعة بإحساسه وشهادته الذاتية وبطزاجةٍ تَسحُّ وجعاً وحسرةً ورجاء.
ربما أنهى محاضرته، أو كاد! حتى بدأت الدموع تتدفق من عينيه العسليتين الواسعتين، كأنهما زهرتان تنبضان بالندى. وأَخَذَنا معه إلى تلك الزنزانة التي وصَفها بدقّةٍ متناهية، وصوّر لنا ذلك الرجل الملتحي الذي يقضي ليله ونهاره راكعاً ساجداً لله تعالى لأن إدارة السجن منعت عنه الصُحف والمذياع والكُتب، بما فيها القرآن الكريم، فما كان منه إلاّ أن صلّى وصلّى وصلّى!
كان السجّان يرقبه في قيامه وقعوده، ويطيل النظر إليه وهو يطيل السجود، ثم يقف ليبدأ من جديد، إلى أن كان يوم الحَمَام!
قال: كانت زنزانتي مقابل زنزانته تماماً، وكنت أنظر إليه بين الحين والآخر، ولا أحدّثه إلاّ وقت الطعام، لانشغاله بالصلاة. وفجأة، حطّت مئات الحمائم أمام زنزانته، وراحت تخفق بقوة وعزم، وتبغم بصوت عظيم، ثم اتّجهت بمناقيرها إلى باب الزنزانة، وراحت تنقره وتنقره وتنقره .. إلى أن تَنَخّل وَهَرّ حُبيباتٍ على الأرض، ودخلت الحمائم إليه.
ولكثرة هذه الطيور، لم أتبيّن ما الذي حدث، لكنني رأيتُ عشرات عشرات الحمامات يحملن الشيخ بمناقيرهن كأنه عَلَم مفرود، ويذهبن به إلى الأعالي!
أُطلقت صافرات الإنذار، وحضر جنودُ التدخّل السريع بكماماتهم وسلاحهم السريع ومدافع الغاز والهراوات والكلاب، وعمّت الجلَبةُ ساحة زنازين العزل، وراحوا يفتحون الزنازين تباعاً ليتأكدوا من وجود المعتقلين، الذين تكوّموا في الزوايا، واضعين أيديهم فوق رؤوسهم، بناء على طلب الجنود، ثم قالوا لبعضهم: الكلّ موجود!
فما الذي هَرَّأ الباب؟ وما الذي أدمى وجه السجّان بآلاف الإبر، وتركه مغموساً بدمه؟
تراجع الجنود، واقترب الضابط من زنزانة الشيخ، فوجده ساجداً يُصلّي.
أمره أن يقف، فأكمل الشيخُ صلاته حتى أنهاها، ثم وقف بكامل قوامه المنتصب أمام الضابط، وسأله: ما الذي حدث يا شيخ، احكِ؟
ابتسم الشيخ ، وأدار جسده، وتوجّه إلى القِبلة رافعاً يديه مردّداً: نويتُ أن أصلّي لله تعالى...

-6-
صهيل في العتمة
لا يذكر مَنْ هو أول شخص أطلق عليه لقب "دالي"! لكنه سعيد بهذا التوصيف، الذي يحمل قدراً كبيراً من الاعتراف بقدرته على اجتراح الرسومات اللافتة واللوحات الباهرة!
لكن "دالي" هذا ليس سريالياً، ويتحدث العربية، وليس له شاربان معقوفان فوق فمه، ولم يرَ إسبانيا، فهو من المخيم، ويحبّ الميجنا والميرمية وشوربة العدس، ولا يعرف ما هي الدادائية أو السريالية أو الوجودية أو التكعيبية أو الانطباعية، ولا يفرق بين الرومانسية والواقعية أو التفكيكية أو التعبيرية أو الكلاسيكية أو التجريبية أو التجريدية، ولم يتعرف بعد على المودرن آرت أو الانستليشن أو الفيديو آرت أو الجرافيك.
ولم يجرّب في لوحاته الكولاج، أو يتقيّد بمدرسة بعينها، لكنه أقرب إلى أتباع المدرسة الحُرّة؛ التي لا تقيد الرّسام ضمن إطار أو مدرسة، بل يعمل بحريّة كاملة أقرب إلى الطبيعة أو البديهة. ولعلي أراه أكثر انتماءً إلى الكلاسيكية الواقعية؛ التي ترسم الأشياء كما هي دون خيال أو تدخّل، وتعتمد على المهارة في استخدام الألوان والمقاييس والمنظور. كما أن صاحبنا هذا يجيد رسم الوجوه كما هي، أو ما يسمى بلغة الفن "البورتريه"، كأنه أحد رسامي الساحات العامة في العواصم الكبرى.
و"دالي" لم يتجاوز الخامسة والعشرين خريفاً، وَهبَه الله، عز وجل، موهبة الرسم، فأبدع بفطرته، وأجاد وأَحْسَن! وكان يرسم التظاهرات والمواجهات على الحواجز والأعلام المُشرعة والنعوش الطائرة على أكتاف الهاتفين.
فسجنوه!
ولم يتوفر له في المعتقل سوى أقلام الحبر الجاف أو الرصاص، فكان يرسم على القمصان الداخلية وعلى قصاصات الأوراق، ويهديها لأصدقائه، لكنه راح يرسم على جدار ساحة الفورة لوحته الكبيرة، فيقضي ساعة الفورة في الرسم، ثم يعود ويكمل، وبقي شهراً أو أكثر على حاله حتى اكتملت.
بعد ليالٍ استيقظ المعتقلون على رشقات رصاص متتالية، تبعتها قعقعة سلاح ورشّات أخرى، واستمر إطلاق النار ساعة أو يزيد.
في اليوم الثاني لاحظ المعتقلون أن جدار ساحة الفورة كان محفّراً ومرشوقاً برصاص كثيف، وأصبح كالغربال، وثمة دماء أسفل الجدار!
ما هذا؟ وما الذي جرى؟
يقول السجّانون: لقد باغتتنا الخيول المرسومة على الجدار، فخرجت منه، وجمحت وصهلت، وكادت توقعنا تحت حوافرها، فرميناها بالنار!
وها هو دمها على الجدار.

-7-
قمر الممرّ
سريرٌ فوق سرير، ومثلهما يقابلان الباب الحديد، وممرٌ صغير بينهما، لا يكاد يكفي ليكون جلستنا حول الطعام، فنأكل جالسين على حواف الأسرّة، ونصلّي فرادى.
في الصباح، لاحظ زملاء الزنزانة أنني أتحسس الممرّ وقطعة البطانية المفرودة فوقه!
في اليوم الثاني، رأيت زميلي يتحسّس البطانية، كأنه يتأكد من جفافها!
في اليوم الذي يليه، رأيت الثالث يتأكد من أن القطعة ناشفة، حيث راح يعصرها، وكذلك فعل الرابع.
في اليوم الخامس، أزحنا قطعة البطانية من مكانها، وتركنا الممرّ عارياً نظيفاً.
في اليوم السادس، كنّا أربعتنا نتحسس بأقدامنا العارية الممرّ، ونتأكد من أن ماءً لامسه أو جرى فوقه!
في اليوم السابع، كان البحرُ الذي يزورنا كل ليلة، فيعبئ الزنزانة بأمواجه الصغيرة، فتتراقص الأسرّة فوقه، كأنها تتهادى ببطء ورويّة! كان البحر قد حمل على صفحته قمراً صغيراً، فيندرج كالكرة على ثناياه! كان البحرُ قد ترك لنا القمرَ على الممرّ، فأصبح بقعةً بيضاء كالحليب، وصار الممرّ سماءنا، ونحن على وسائد السحاب.