الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

في عيد الأم عقد على غيابها / المتوكل طه

نشر بتاريخ: 18/03/2012 ( آخر تحديث: 04/04/2012 الساعة: 09:27 )
كانت تقول أمي ـ رحمها الله ـ دائماً: «ملح يافا حلو!»، وعندما خطبني أبوك كنت في العشرين من عُمري، على أبواب العنوسة آنذاك، العام 1942 أخذني إلى يافا لشراء كسوة وجهاز العروس، وما أن دخلت تلك المدينة التي كانت تضفضف بذهب البيارات وشهد الخيول، حتى أيقنت أنها مدينة معبأة بالسحر، تأخذك إلى امتلائها وروائحها وتفتحها الحذق. كانت مدينة واسعة مزدحمة وغنيّة بحريرها وأضوائها وأطعمتها الفوّاحة... غادرتها ذلك المساء لأزورها في أحلامي، كأنها مدينة ملوك الجان، أو علّيّات ابن الأمير، عدت إليها، غير مرة، لمعاودة طبيبة الولادة، وللسينما، ولابتياع أوّل خزانة ملابس بدل صندوق العروس!.

وقبل النكبة بعام واحد، كنتُ على شفير الوضع، وكان حملي صعباً، وما أن أجلسني أبوك على رصيف أحد مطاعم المدينة، حتى وقعت عدة انفجارات، فتراكض الناس، وعم الهلع والصفير واصطخبت المدينة، ولا أدري كيف وجد أبوك سيّارة أقلّتنا إلى قلقيلية... ومن يومها لم أذهب إلى يافا!.

ماتت أمي، ولم آخذها إلى يافا، حتى لا يحتشد قلبها، وتنفجر رمانة صدرها، لأن يافا لم تعد هناك، لقد أصبحت خرائب منكسرة وبيوتات مُرهقة ومحلات خاوية، كأن يافا تختصر سيرة المَظْلَمة، وتقدم مشهد النكبة كاملاً، ودون مبالغة!.

لقد ماتت أمي صبيحة يوم التاسع من نيسان، يوم ذكرى مذبحة دير ياسين، ويوم استباحوا بغداد الرشيد، وعشية معركة القسطل، كأنها ـ رحمها الله ـ ظلت تحمل غصّة الخبر المروّع قرابة ستة عقود، وأرادت أن تلتقي أرواح المذبوحين في ذكرى ترويعهم وبَقْر بطونهم واتساع جروحهم وسحجات صدورهم، أو كأنها تريد ان تشحذ الحزن وتبعثه فينا، لنعرف طعم اليُتم، ومعنى أن نهيل التراب بأيدينا على مَنْ نحب.

اليتيم يتيم الأم، لأن الإنسان يظل طفلاً حتى يفقد أمّه، عندها يشيخ ويهرم ويكبر فجأة ألف عام. ويكتشف، مرة واحدة، أنه كهل، وأن له أبناءً كبروا وطاولوه، وأنّه لم يبق من العمر أكثر مما مضى! وربما لا يتغضّن وجه اليتيم، لكن قلبه يتجعّد، وتأخذ ملامحه بالغروب، ولو كان مَصوغاً من تبرٍ وأرجوان.
*****
لم تكن تلك الليلة رقراقة نهارية، كما نشتهي ليل الربيع. كانت كابية لزجة، وصل دبقُ الدم البعيد، فيها، إلى وسائدنا، وضمّخ مرايانا. هذه الليلة ثقيلة قلقة، جاءتني أكثر من عشرين مكالمة تلفونية من الأهل في قلقيلية، تحاول جميعها طمأنتي على صحة الوالدة، وأن وضعها مستقرّ، وهي ترقد في غرفة العناية المكثفة في المشفى التخصصي في نابلس.

قبل يومين لم يستطع أحد من أشقائي اصطحابها بسيارة إسعاف لنقلها الى نابلس بسبب الحصار والاجتياح، ومنع الرجال من الخروج من قلقيلية، ومنع السيارات من التنقل، وإن سُمِحَ لسيارة فيكون معها تصريح من إدارة جيش الاحتلال، أو تقرير طبي يوضّح أن المنقول هو مريض سيتمّ إيصاله إلى أحد المشافي.

على الحاجز الشرقي الذي أقامه جنود الاحتلال في الطريق المؤدي إلى نابلس، في منطقة صوفين، أوقف الجنودُ سيارةَ الاسعاف، وراحوا يدقّقون في الأوراق والتقارير، وأنزلوا شقيقتي التي صاحبت أمّها الممدّدة على أرضية السيّارة، وبرابيج الأكسجين الرفيعة متّصلة بين جهازها التنفسي وأسطوانة الأوكسجين. أخذ الجندي الهوية الشخصية الخاصة بشقيقتي، وراح يفحص، وبعد ساعة أو يزيد، قال لها: عليك أن ترجعي إلى البيت، فليس لديك تصريح خروج، وذهبت كل كلمات شقيقتي أدراج الرياح، وأبقوا المريضة وحدها، وبعد ساعة سمحوا لسائق سيارة الإسعاف بمواصلة الطريق، ليواجه أربعة حواجز متلاحقة في الطريق، بالقرب من بلدة عزون، وجينسافوط، وكفر قدّوم، ورفيديا؛ ومكث السائق ـ كما أخبرني ـ ساعة أو اكثر عند كل حاجز، ووصل المشفى بعد ست ساعات من انطلاقته من مشفى قلقيلية، وكادت الوالدة تختنق وتموت بسبب نفاد الأوكسجين والتفتيش والصراخ.

واضطرت شقيقتي أن تسير وحدها ستة كليومترات عبر الطرق الفرعية والجبلية الموحشة، لتصل الى بيتها باكية منهكة.

وصلت سيارة الإسعاف إلى المشفى، وليس مع الوالدة غير سائق السيارة، وبعد اتصالات وتوضيحات، أدخلوها إلى غرفة العناية المكثّفة، وتوجّه أحد أنسبائنا القاطنين في نابلس، لمتابعة وضع الوالدة ودفع المبالغ المطلوبة لإدارة المشفى، ولم يستطع، على مدار ثلاثة أيام، أحد من أبنائها أن يزورها في رقدتها. وفي صبيحة اليوم الرابع، كانت الوالدة قد أسلمت روحها لبارئها.

اتصل بي نسيبنا من نابلس، ومن رجرجة صوته ولعثمته عرفت أن الوالدة قد توفّاها الله.

أعمل نفسك مريضا

حزمت أمري للسفر إلى قلقيلية، وبعد بحثٍ مضنٍ واتصالات مُلحفة، تمّ الإجماع على أنني لا استطيع الوصول إلى مسقط رأسي إلا بواسطة سيارة إسعا ف! إجعل نفسك مريضاً، وتمدّد على سرير متنقل، واحمل أوراقاً من أي طبيب، وضَعْ جهاز التنفس الاصطناعي، وأغمض عينيك، وتوكّل على الله... يا متوكل.
انطلقتُ بسيارة الإسعاف، وقمت باللازم، وبعد سبعة حواجز، وخمس ساعات ونصف الساعة وصلت إلى قلقيلية. كان الأهل قد رجعوا من المقبرة، ودفنوا أعزّ الناس، وعادوا باكين، وصوت الشيخ عبد الباسط يضوّع المكان الحزين.

منذ اندلاع الانتفاضة لم أرَ أمي، وكنت أرجئ سفري إلى قلقيلية، لعل الأمور تيسّر لي فرصة لتقبيل يديها ونيل رضاها.

في المساء ومن بين المعزَّين الذين امتلأ بهم الديوان والممرات، أطال رجل الوقوف معزّياً مع أشقائي ـ الذين يكبرونني كلهم ـ ولّما وصل إلي شدّ على يدي، وقال لي حرفياً: عليك ان تكتب لكل العالم كيف أهانوا أمّك وهي ميتة، وطفقت من عينه دمعة عزيزة، واتّخذَ مجلسه بين الناس.

في ساعة متأخرة من ذلك المساء الطويل الدامع، ذهب الأهل إلى بيوتهم، وظلت كلمات سائق سيّارة الإسعاف تضج في رأسي، مثل طحن الحجارة الصمّاء.

أحضر نسيبنا سيارة إسعاف، ووضع الجثة في صندوقها الخلفي... وكان السائق من أهل البلد، ويعرفنا جيداً، كانت الساعة السابعة صباحاً، واتجه غرباً من نابلس إلى قلقيلية، وأراد أن يمضي مُبكراً قبل ان تقع حادثة هنا أو صدام هناك، وتتعقّد إمكانية إيصال الجثة... لكن الحواجز دائمة الاستنفار، وتعرف مهمتها في تعذيب الأحياء والأموات، وإهانة البشر والشجر.

يقول السائق: لم يصدّقوا أنها ميتة، كانوا يكشفون عن جسدها وينخسونه بالهراوات أو أفواه البنادق. وكنتُ أحاول أن أصرخ أو احتجّ، لكنني كنت أبلع غيظي وأطبق على فمي، بل إن جندياً عند حاجز عزّون قرر أن يفتّش جسد الميتة خوفاً من احتوائه على متفجرات أو مواد ممنوعةـ إنكم أيها الفلسطينيون تهرّبون السلاح في عوراتكم ـ وعندها، يقول السائق، صرخت، وكان صراخي خشناً ووحشيّاً، وكنت أرتعش، وحضر الجنود والضباط، وبعد أربع ساعات من ذلك العنت والتفتيش والوخز في الجثة... وصلنا إلى قلقيلية.

بعد أربعة أيام من تقبّل العزاء والبكاء لا بدّ من العودة إلى رام الله، وعليه، لا بد من الاتصال بسيارة الإسعاف نفسها، وتمثيل الدور السخيف نفسه.
لقد كان ممكناً أن أصل بعد الجنازة بثلاث ساعات، إلى قلقيلية، وأتقبل التعازي. وأحمد الله تعالى أنها لم تمت هذه الأيام، بعد الاجتياح وإعادة الاحتلال، فعندها كان من المستحيل الوصول إلى البلد، والوقوف أمام شاهدة القبر وقراءة الفاتحة على روح الحاجة عفيفة رحمها الله.

عندما تموت الأم يصيح ملاكٌ في السماء يقول لابنها: مات أول من يحبّك وآخر من يحبّك.

لقد رحلت الحاجة عفيفة قبل أن يخلعوا عليها باب دارها، وقبل أن ترى كل أشجار الزيتون والبرتقال واللوز والتين والرمان مخلوعة في أرضها، لقد عادت أرضك يا أمي حمراء دون زرع، كأنها رحم امرأة تنتظر مَنْ ينعفها بالصغار والشجر والطيور.

وربما ـ رغم موت أمي ـ كنتُ محظوظاً أكثر من ذلك الرجل، الذي أجبره جنود الاحتلال على خلع ملابسه كلها، هو وكل الرجال الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال عند ذلك الحاجز، ثم أمر الجنود النساءَ المتواجدات أن يخلعن ملابسهن كلها، ولولا ذلك الاشتباك الطاحن الدامي الذي وقع فيه شهيدان... لرأى ذلك الرجل أمه عارية! بسبب صمت العرب والمسلمين والمسيحيين والسيخ والبوذيين والفودو والطوطميين... و...

ماتت الحاجة عفيفة

ماتت أمي والطبول البعيدة تقترب من نافذتي، فيترنّق الأصيص، ويبدأ حلم طفل يلهث بالحجارة في براري الشقائق والشمس الصغيرة. ماتت، والقوس بكامل توهّجه في سماء الانتفاضة، واضح الأطياف، يفتح الأبواب للبرق المخزون في غيوم الأرض.

ماتت الحاجة عفيفة والدم لم يتخّثر في أرض الرباط، والبطن المبقور يشهد على الجلّنار المذبوح على صدر أُمه، واللجوء ما زال يفرد غربانه من هناك إلى هناك.

ماتت، وامرأة نائحة تقول لآخر أبنائها: اذهب حتى لا تغلبني الخنساء أو تجد نساءُ المخيّم ما يكسر عزائي. وامرأة تقول لضفيرتها: احترقي حتى يحفظ ابني خارطة الغناء. والمفتاح الثقيل يقول لحامله الشيخ: ما زلت قادراً على فضّ الرمّانة وفك الصدأ. وطفل يولد الآن يقول: امسحوا دموع فاطمة حتى لا ترمد عيون مريم.

ماتت أُمي، والحجر الفلسطيني ما زال يهشّم وصايا التائهين الذين أحالوا المكان المؤوّل بالوَهْم، حيث تصل البساطير، إلى سجن يُدوّي بالغضب.
ماتت وعرق الشيوخ يختلط بشرايين أبنائهم، ويدهم على جراح أحفادهم كأنها يد الله على كتف الأنبياء.

ماتت الحاجة عفيفة، والناس هنا في فلسطين يتقاسمون الرغيف والنزيف الذي يصهد الصخر، فتنحلّ خاصرته ويصبح ذراعاً تشهد على تعالي النسغ والضفيرة والرغيف الذي يسقط قمحه في جرحٍ غائر أو قبرٍ صغير أو حديقة لا تنام، ليشقوا العتمة، ويفتحوا ذلك المسرب السرّي للبراعم الفراخ، لتكون كمشيئة الله، لا يهتك بها غاز او عارٌ أو دخيل، وحتى نصحو بعد ليل طويل على صوت مولودة لها اسم إيمان أو فتى له اسم محمد، وحتى ننسى عرائس الموت وقشعريرة الإعدام الجماعي، او نحتفي بأولئك المصلوبين، خلف القضبان، على العقرب المخاتل.

ماتت أمي، والسيدة العمياء «العدالة» لم تسترجع بعد بصرها أو بصيرتها، لكننا ماضون.

*****

غالباً ما يضع أهل المريض سيناريو موته، كأنهم يُهيّئون روحهم للحدث الغليظ الذي سينزع عزيزهم من بين ضلوعهم، وكأن المرض توطئة للموت أو أولى درجاته المعتمة، رغم أن عظام المرضى لا تزال مبتلّة بالحياة، وبخار أنفاسهم ينسرب بهدوء إلى النوافذ الكئيبة. وربما كان هذا السيناريو مداراة لصعقة الموت، أو استعداداً لاستقبال الخبر الواقع لا محالة، أو تفادياً لجزع الفراق وضربته المصوّحة!.

أما أهل الميت الذي يغادرهم فجأة فانهم يلجأون إلى غير حيلة من حيل الدفاع الآلي، لينتصروا على المفاجأة الفظّة العارية التي تسقط في رؤوسهم مثل قنبلة عمياء.

بمعنى، أن مرض الأعزاء أواخر أيامهم عزاء، بما يحمله من رسالة أولى، تجعلنا نتخيّل أنفسنا وحالنا عند موت أحبابنا، وما أنْ يموتوا راضين مرضيين، حتى نحيل أنفسنا وحالنا إلى معايشة الواقع الذي مررنا به وجرّبناه، واحتملناه، لهذا يكون دمعنا أقل، وحزننا أبهى وأعمق.

*****

"تخيّل، لقد دفناها بأيدينا، وعندما أصعد درجات البيت لن أجدها"، قال أحد أشقائي وراح يبـكي كأنه لا يصدّق موتها.

الحاجة عفيفة «عِفّو» عندما كنّا ندلّعها حتى آخر أيامها فتنسكب ضحكتها المرتاحة، كانت مرهــونة للبــكاء الهادئ.
من أين تأتين بالدمع يَمّا؟ ولماذا؟.

عندما يُرزق أحدهم بمولودة أنثى كانت تبكي. وعندما تسمع بموت أحدهم، آخر البلد، كانت تبكي. وعندما يتأخر المطر كانت تبكي. وعندما كان يسافر أحدنا أو يُعتقل كانت تبكي، وعندما يعود كانت تبكي. كانت تبكي وهي تشاهد المسلسلات التلفزيونية. وتبكي إذا جاء العيد، أو هلّ شهر رمضان. وإذا تزوّجت حفيدتها تبكي، وإن جاءها المخاض تبكي. كانت تعتقد أنها بدموعها تناصر المغلوب والمصاب، وتشارك الفرحان فرحته، وقلّما حرّكت شفتيها وهي تبكي، لكنها أحياناً كانت تقول: الله يعينها، أو الله يعين أمه، كان بكاؤها خفيفاً طاهراً، وغالباً ما ينتهي بضحكة صغيرة تقنع بها مَنْ حولها بأن بكاءها طبيعيُّ وواجبٌ لا بد منّه.

لكن بكاءها يمتد ويطول ويصبح ضارياً ومؤلماً عندما تذكر يافا وبيّارات البلاد وأيام السَعْد هناك، أو عندما تسمع بخبر استشهاد أحد الشبان الاستشهاديين الذين يفجَّرون أنفسهم. وكانت تبكي على أشلائهم، وتخاف عليها من النجس والعري والحرمان من الدفن، كانت تعتقد أن الأعداء يرمون أشلاء الشهداء في مكبّات النفايات للجرذان والقطط الضالة، وتبكي.

لقد اعتدنا على بكاء الحاجة عفيفة، لكن الغريب أن رموشها الطويلة كانت تزداد طولاً ولمعاناً، كأنها كانت تسقيها بهذا الدفق الحنون، حتى بقيت حزمة السنابل السوداء شاهدة على عينيها المصقولتين اللتين تترجرجان بذلك الماء الزجاجي السهل. وبقيت الحاجة عفيفة معافاة ناشطة، محافظة على عاداتها، كارهة كل التقنيات الجديدة وكل الأجهزة الحديثة، فهي لم تستعمل «الشامبو» ولم تصبغ شعرها، وظلّت تمشطه أو «تكدّه» بمشط العظم المسنّن من جهتيه، وكانت تفرك أسنانها بالملح، وظلت مخلصة للصابون النابلسي، وتلوك الزعتر عراق والمريمية لتطيّب أنفاسها، مثلما تنصح النساء من حولها بوضع الحبق الجاف الملفوف بقطعة قماش خفيف فوق أماكن الجسد أو فركها بورق الليمون الطري بعد الاستحمام، أو استعمال حزمة من الشجيرية (المريمّية) لتلييف الجسد بدل الليفة أو الاسفنجة. وكانت الحاجة عفيفة لا تثق إلا بالدنانير، بل تعتبر الشواقل (العملة الإسرائيلية)، مثلاً، عملة غير محترمة ولا تساوي شيئاً، ولا يمكن أن «يحوّشها» الإنسان العاقل.

كانت تحبّ المرأة المدبّرة غير المبذّرة، وتكره الرجل البخيل أو العنيف الذي يضرب بناته أو يشتم زوجته وتعتبره «مُش زلمة» لأنه «يتشاطر على الولايا» مثلما كانت تنفر من الرجال الذين يحلقون شواربهم، ومن النساء اللواتي يبالغن في المكياج ووضع الأحمر والأخضر للرايح والجاي!.

*****
كيف قبلتِ الزواج من أبي ـ رحمه الله ـ وهو أكبر منك بثلاثين سنة. تقول لي أمي: لأنني كنت متيقّنة من أنه سيأخذني إلى يافا... كان بإمكانك أن تذهبي مع أبيك إلى هناك!.

تقول: لم يكن من عادة الآباء اصطحاب أبنائهم، وبالذات البنات، إلى «شم الهواء» أو إلى أي مشوار، ثم كان أبوك أنيقاً شاباً...
وهو في الخمسين؟

تقول: لم يكن في الخمسين من عمره، بل أقل بكثير، ثم إنني «شفقت عليه» لقد كان خارجاً من سجن عكا، بعد أن أمضى سبع سنين معتقلاً، وكان أرمل غنياً، ثم إن أبي ـ جدك ـ رحمه الله أجبرني على الزواج منه... الله يسامحه!! ثم ماذا تريد الواحدة منّا! لقد أعطاني كل ما أريده؛ أولاداً وخيراً كثيراً، ثم كان أبوك حنوناً كريماً إلى حد التبذير، لقد عشت معه أكثر من عشرين عاماً كلّها عسل ولوز، وكان يجلب لي من يافا، كل شهر، هديّة؛ مروداً أو عطراً، أو اسوارة، أو أكْلة حلو، أو مشاوي عالفحم، أو عباءة...

أو ماذا يا «عِفَو»؟!

تضحك، وتذهب إلى هناك، وتغييب عنا وهي جالسة بيننا وتبرق عيناها بالزجاج الرخو، بهدوء رسولي عميق.
*****
كانت أمي ـ مثل أهل زمان ـ تعتبر ذهابها إلى يافا قبل النكبة، أو إلى القدس للصلاة في الحرم، بضع مرات سفراً بعيداً، كانوا يستعدّون إليه ويودّعون بعضهم قبل أن «يخطروا» إلى تلك المدن، وبعد عودتهم يظل سفرهم هذا مدار حديثهم عدة أسابيع، ثم كانوا يعرضون الهدايا التي جلبوها من هناك، لكل من يأتي للسلام عليهم وتهنئتهم بسلامة العودة، كانت الأرض حينذاك صغيرة، وأفقها القريب بعيداً إلى حد السذاجة والاستغراب.

أما عقد الذهب العثملّي الذي كانت تضعه الحاجة عفيفة على صدرها، في المناسبات، فهو عبارة عن اثنتي عشرة ليرة ذهبية رشيدية، اشتراها زوجها من عند أبي حنا، من «نُصّ يافا» قبل ما تروح البلاد بسنتين، وكانت الحاجة تتحسس عقدها كأنها تمسّد حبّات برتقال يافا «الناصح» أو تمسح حبّات الشتاء عن زهرة ليمون تضوّع الأرض بأريجها الأخّاذ.

ربما عرفتُ لماذا أصرّ والداي ـ رحمهما الله ـ على زرع بيارة برتقال في أراضينا شرق قلقيلية، بعد النكبة. كأنهما يريدان أن تحمل قلقيلية عن يافا بياراتها وأراضيها الممرعة العطرة التي أخذها اليهود. لكن أمي كانت تفضّل تناول البرتقال بعد تقشيره، وتكره عصير البرتقال! والسبب أن أحد أخوالها واسمه «أبو زهدي» كان يملك بيارة وبئراً ارتوازية بين يافا والرملة، وكانت له «حسبة» خضار في يافا، يبيع فيها برتقاله وخيرات المواسم الباذخة، ولّما وقعت النكبة هاجر أبو زهدي هذا إلى قلقيلية، وحرّم على نفسه أكل البرتقال أو شرب عصيره ما دامت البلاد تحت الاحتلال، لكن أحد الشبان تآمر على أبي زهدي ولم يكن يقصد أن يؤذيه. لقد صبّ عصير البرتقال في إبريق الفخّار الذي اعتاد أبو زهدي الشرب منه في الصيف، وما إن وصل العصير إلى جوف أبي زهدي، حتى نزل كأنه السمّ الزعاف، ونقلوا أبا زهدي إلى المشفى، وضاقت أنفاسه، ولم يلبث يومين حتى مات.

*****
كانت أمي تقول: لولا رحمة الله لسقطت قلقيلية مرتين في أيدي اليهود! فالمرة الأولى عندما أطبقت العصابات الصهيونية خناقها على المثلث الفلسطيني (جلجولية، الطيرة، الطيبة)، وهي قرى تحيط بقلقيلية من الشمال والغرب والجنوب ولا يبعد بعضها عن قلقيلية مسافة ثلاثة كيلومترات، وتتصل أراضي هذه القرى بأراضي قلقيلية التي راح معظمها مع النكبة، حيث خسرت قلقيلية أربعين ألف دونم زراعياً خصباً، من أصل خمسين، عندها هاجر بعض أهالي يافا إلى قلقيلية، فيما وصل معظم أهالي قرى كفر سابا وحسكة وخربة عزون وسيدنا علي وملبس والعباسية ورأس العين الى قلقيلية أيضاً، فاستقر بعضهم فيها، وواصل الآخرون هجرتهم شرقاً والى كل الجهات، والمفارقة ان أهالي قلقيلية، عندما وصل اليهود الى قرى المثلث واحتلوها، حملوا أنفسهم وهاجروا شرقاً بضعة كيلومترات إلى منطقة تسمى «حنيش»، لكنهم لم يطيلوا فيها المقام، وعادوا إلى بلدتهم بعد أقل من أسبوع.

أما المرّة الثانية، فكانت ظهيرة حرب حزيران 1967 عندما هاجر كل أهالي قلقيلية شرقاً، وعادوا بمعجزة بعد شهر إلى بلدتهم، بعد أن كان الاحتلال الإسرائيلي قد هدم وحرق أكثر من ثمانين في المئة من بيوتها، حيث كانت تنوي إسرائيل هدم البلدة وتسويتها بالأرض، لاقترابها وتداخلها مع حدود أراضي 1948، كما فعلت بقرى اللطرون (بيت نوبا، وعمواس، ويالو)

وقد شهدت قلقيلية العام 1956 عملية نسف مبنى «العمارة» التي كانت تقع شمال المدينة، حيث تسللت عصابة عسكرية صهيونية، وقامت بتفجير المبنى بمَنْ فيه، ليلاً، ليستيقظ أهالي قلقيلية مع سقوط قرابة سبعين شهيداً قضوا في العملية الغادرة. كما قامت عصابات يهودية أخرى بنسف ست آبار ارتوازية ومحطتي الوقود في البلدة خلال العامين 1964 و1965م. كما يتذكر أهالي قلقيلية كوكبة من الشهداء الذين وقعوا ضحايا الرصاص اليهودي، وهم يهمّون بالتسلل إلى الدولة العبرية، الناشئة آنذاك لتنفيذ عمليات ثأر ضد مَنْ أخذوا أرضهم وطردوهم منها.