وداعا....!
نشر بتاريخ: 22/03/2012 ( آخر تحديث: 19/04/2012 الساعة: 14:34 )
كتب ابراهيم ملحم- في ساعات الصباح الباكر، تكتظ صالة التحرير الفسيحة بالمحررات الشابات اللائي يزيد عددهن على عدد المحررين الشباب ،الذين يحبذون العمل في ساعات الليل.
وفي الصالة الانيقة تجد المحررات منهمكات في استقبال الاخبار الطائرة المتدفقة على "مطار التحرير" الذي يشهد ازدحاما غير عادي طيلة الاسبوع باستثناء يومي الجمعة والسبت حيث تخف حركة "الهبوط الاقلاع" للاخبار القادمة والمغادرة.
في ساعات الذروة لا تجد المحررات وقتا للاكل ،ولا حتى للثرثرة الاثيرة الى السنتهن،فتراهن يغرقن حتى شعورهن في "تنقية الاخبار" وتعشيبها" " وتقليم اظافرها" ووضع المساحيق على حروفها لتبدو قابلة للعرض للزبائن قبل ان تصل الي لالقي عليها نظرة الوداع بعد تشذيبها، وبردختها وتدوير زواياها الحادة ،وعنونتها ،وتجهيزها للاقلاع بيمن الله ورعايته، لتحط على عيون المتلقين الذين يتدافعون لشرائها من فترينات العرض الانيقة.
عندما يرتفع مؤشر الارقام على سلم الاخبار والذي يحتجب عن المتلقين، ترتسم ابتسامة راحة واندهاش بين الصبايا المحررات برواج بضائعهن ، بينما تسري همسات "وتلطيشات" ازاء الزميلات والزملاء الذين تعاني" بضائعهم" كسادا في سوق الاخبار.
وما ان ينحسر "المنخفض الاخباري" العميق الذي يمطر "المرسل" بوابل الاخبار العاجلة منها والاجلة حتى تراهن يخرجن عن صمتهن، ويشرعن بعقدحلقات الثرثرة على ضفاف التحرير ،فلا يتركن شاردة ولا واردة ،بدءا من الطعام اللذيذ، مرورا باخر صيحات الموضة وقصات الشعر والمكياج،وليس انتهاء باخر ما حرر على "الفيسبوك" وتغريدات "تويتر" وغيرها من الاحاديث التي اخترقت"حاجز الصمت المدوي " في مكتبي الزجاجي المشرعة ابوابة على الصالة الفسيحة الانيقة .
ما يجري في صالة التحرير اشبه ما يكون بخطوط الانتاج في المصانع الكبيرة ، عندما تمر الاخبار في عدة مراحل قبل ان تصل الزبائن بكامل مواصفاتها .
هادئة حينا، وصاخبة قليلا ،تلك هي العلاقة السائدة بين الزملاء في صالة التحرير لكنه صخب لا يفسد في التحرير قضية ، عندما يشتعل النقاش حول قضية او خبر او تقرير، يلقي حجرا في المياه الراكدة، فيتعرض هاتف التحرير الى عمليات طرق ساخنة من جمع الاطراف ذات العلاقة بالقضية ،حتى يجري احتواء العاصفة بمعسول الكلام ،وحسن الاستقبال، من المحررين والمحررات الذين يتعاملون مع المتصلين تعامل المضيف للضيف والرد بالتي هي احسن.
من يصاب بداء الاخبار، لا يقوى على العيش في اي بيئة غيرها ،لا يجد سعادته الا في العوم في عميق مياهها ، والتزلج على ذرى امواجها المتلاطمة.. داء اصابني من النظرة الاولى لـ"صاحبة الجلالة" حتى سرقني من اسرتي التي حرمت ترف الاجازات الاسبوعية، او الاعياد الدينية،ولا حتى المرضية الا القاهر منها ،والتي لم الجا اليها حتى الان والحمد لله.
بدات رحلتي الصحفية محررا رياضيا في صحيفة "الشعب " المقدسية قبل ان اتولى رئاسة تحريرها ، وكتابة افتتاحيتها اليومية في ثمانينيات القرن الماضي بعد ابعاد رئيس تحريرها صديقي واستاذي اكرم هنية الذي انتقلت الي اعراض المرض منه، فما ان كان يشاهدني لم اغادر " ثكنتي" مرابطا على" تخوم "مكتبي الصغير منذ ساعات الصباح حتى الهزيع الاخير من الليل ،يصرخ ممازحا "شو بتساوي لهلحين قوم روّح بكفيك"!
فكنت لا اغادر صالة التحرير الا للملاعب ،ارقب، وارصد واعلق،لم اكن اكتفي بتحرير الاخبار بل اقتفي اثرها بعد الاطمئنان على تصحيحها فالوقوف على طريقة مونتاجها ،واختيار الصور المناسبة لها، قبل ان ادفعها الى المطبعة التي كثيرا ما كان عمالها يتفاجأون بغاراتي الليلية عليها لاضافة خبر هام ،او استبدال عنوان باخر جديد في الدقيقة تسعين. ..... وهو المرض الذي ما زال يستبد بي في العمل الاعلامي باذرعه المرئي والمسموع والالكتروني... لايعرف الشوق الا من يكابده ولا "الصحافة" الا من يعانيها !!
اسمحوا لي قرائي الاعزاء بعد هذا البوح الشفيف لكواليس "صاحبة الجلالة"ان الوّح لكم بيدي من نافذة هذه "المنطقة الحرة"قبل ان اغادرها الشهر المقبل مطلا عليكم من "منطقة حرة" اخرى ،محمولا على نبض كل حرف ،وكلمة، وعبارة، سطرتُها ،حاملا اسمى مشاعر السعادة ،والمحبة، والطيبة، ازاء جميع الزملاء، والزميلات، الرائعين، والرائعات،مغادرا ،بكامل اناقتي،ولياقتي،وقيافتي، وتوقدي، للحراثة في حقل اخر اكثر خصبا ،وتوهجا، مرتاح الضمير ازاء كل ما كتبت ،وحررت ،ونشرت ،وشطبت...وداعا !