"تنبأ أيها السرطان" بقلم عيسى قراقع
نشر بتاريخ: 30/07/2005 ( آخر تحديث: 30/07/2005 الساعة: 15:18 )
"وضعي يزداد تدهوراً كل يوم...وأناشد جميع المؤسسات والوزراء والسيد الرئيس أبو مازن لاطلاق سراحي لكي أستطيع أن أقضي بقية حياتي بين أهلي".
كان ذلك جزءاً من مناشدة الأسير الفلسطيني المريض "مراد أبو ساكوت" المصاب بسرطان الرئة والذي يقبع في سجن مستشفى الرملة الاسرائيلي وهو بذلك يعبر عن عشرات الأسرى المرضى الذين يتعرضون للموت البطيء بسبب الاهمال الصحي...يموتون كل يوم...أجسادهم تذوب...بعضهم سقط شهيداً والبعض الآخر ينتظر وما زالوا يتألمون...
وقد ارتفع عدد الشهداء الأسرى الذين سقطوا بسبب المرض داخل السجون خلال الخمس سنوات الأخيرة ليصل الى أحد عشر شهيداً...وهذا مؤشر فظيع على مستوى الاستهتار بحقوق وانسانية الانسان الأسير...
السرطان...والسجن...وخمسة وعشرون عاماً وزفرات نداءٍ أخيرة هي ما تبقى للأسير مراد أبو ساكوت...ابتعدت الخليل عنه كثيراً ولم تعد يداه تطال كروم العنب أو عش الحمام في مدينته الحزينة...
تنبأ أيها السرطان...ربما نعيش سويةً...وربما تنجح التحركات السياسية الجارية لإيجاد دولة ومشفى لي ولك...نتخلص حينها من الغرفة الضيقة ومن جرة الأكسجين ووجع الليل...
تنبأ واحتملني حتى ينسحب جيش الاحتلال من قطاع غزة...فمن المؤكد أن يختلف الطقسُ...هواء نقي...أرض واسعة لها حدود وبوابات...لك متسعٌ للتمدد أينما تشاء ولي متسع للتأمل في الخيول القادمة من الآخرة...قد تعدل عن قرارك بقتلي وتكتشف أن جسدي صغير وضعيف أمام جبروتك وطموحك وبروتوكولاتك الجامحة.
ولأنك لم تدخل جسماً الا قتلته...ولم ترع في أرض الا وجففت آبارها ودائماً أنت المنتصر، وحدودك حيث يحط شَرُكَ...قد يخيب هذه المرة رجاؤك لأن جهات مسؤولة وذات ضمير عالمي سترسلني الى أرقى الدول المتقدمة طبياً لتعالجني منك...تدعمني بالدواء والهواء والأيادي النظيفة...قادرة على ابطال مفعولك وهزيمتك وردك الى صوابك...
تنبأ أيها السرطان وفكر كثيراً لأن معي كل مؤسسات حقوق الانسان...المواثيق والاتفاقيات والمباديء والقرارات الشرعية وحولي حشد من الاهتمام والمتابعة من الوزارات والهيئات والنواب...انهم قلقون جداً علي، حياتي وحريتي محك لهم ولمسؤولياتهم ورتبهم ومقاعدهم وصدقهم أمام الله وأمام شعبهم...سيحاصرك المشغولون بي لتبقى وحيداً معزولاً على أرض جسد ليست لك.
لا تراهن أيها السرطان على قضاء كل محكوميتي داخل السجن...لأني سمعتك تقول: بأنك ستأكلني سنةً وراء سنة، متمهلاً مستمتعاً بغذائك الطويل الأمد...وسمعتك تقول: بأنك ستتركني عظاماً جافة، جمجمة بلا وجه...لا أحد يعرفني بلا هوية واسم ومعنى ومبنى ومكان...لكن حساباتك خاطئة...فالمسؤولون في تصريحاتهم الشجاعة قد ربطوا الانسحاب من قطاع غزة ومن سائر المدن الفلسطينية بإطلاق سراح الأسرى وخاصة المرضى...وعندما أتنسم الحرية وتدخل رياح بلدي الى رئتي ستموت أيها السرطان...فلا تتعجل ولا تقامر بالزمن...
تنبأ أيها السرطان وصافحني لنتعايش معاً...إننا نستطيع أن نكون أصدقاء، ونتخلص من أكاذيب الأطباء ومماطلاتهم الدائمة...نستطيع أن نتصدى لسياسة تفتيش الجسد المريض وتقييد يديه بالسرير وحشو جسمه بالمسكنات...
وعليك أن تدرك أنهم أدخلوك اليّ بعد أن عبأوك بالسم لتذبحني باسم القضاء على الإرهاب ومن أجل السلام والأمن في العالم...مهمتك امتصاص إرهاب دمي ووقف حرارة أنفاسي ولم يخبروك أن إنهاء حياتي هو فناؤك وعودتك للصحراء، ولو علموا كم أصبحت العلاقة حميمة بيني وبينك وأنك لا تحيا الا على دمي ولا تعيش إلا بارتجاف مفاصلي لأستأصلوني قبلك وتركوك بدوني كي تموت جوعاً.
تنبأ أيها السرطان ولا تسمح لهم أن نبقى مرسفين بالحديد وبين أكوام البرابيج والإبر الطبية صامتين باردين...خذ رئتي اليمنى واترك لي رئتي اليسرى وعش على أرض جسدي بسلام واستقرار وأمان...
لا تثر ولا تنفعل... لا تتثائب في صدري... دع لي مساحة من الوقت لألملم ضوء عيني...لا أريد أن أموت فوق هذا البرش كما مات "محمد أبو هدوان" بعد أن نقض الداء الهدنة المعقودة مع قلبه بعد ثمانية عشر عاماً من التعايش المرير...خرج جثةً بلا فرشةٍ ووداع...لا علم ولا قنديل ولا نشيدَ كشافة...لم يضئ أي مخلوق في العالم شمعةً على قبره أو يرمي وردةً للريح من أجله.
تنبأ أيها السرطان... واعلم أنك سجين في رئتي، تتنفس مني، جسدك جسدي فان جففت داخلي ستخور أنفاسي فنختنق معاً...
لا تقل بأني لم أعد أحتمل...وأن حبة الأكامول لا تطل عمري...وجهي أصفرٌ شاحب...صورة أمي على الجدار، أنتظر قراراً من الأرض قبل السماء، تركت ورائي وبعدي أحلاماً...أكره المنفى في التوابيت السوداء.
تنبأ بالقادم وكن صديقي...لنحمل بعضنا بعضاً في هذه الرحلة...ليكن برشنا هو معبدنا...فلسنا وحدنا...حولنا أوجاعٌ وصرخات وزبدٌ وشهيق...هنا أحمد التميمي واسماعيل جمعة وسلطان العجلوني ومحمد أبو علي وعلاء البازيان...حولنا منصور موقدة ورياض العمور وصالح ديرية وعبد الرؤوف وأحمد دراغمة وماهر بدوي ومحمد حلاوة وأحمد شحادة...وحولنا ثائر شريتح ومعتز حجازي واسامة جنازرة وعلي شلالدة...جميعهم أسرى مرضى...أبرموا صلحاً مع أمراضهم وسرطاناتهم...مع جلطات القلب المفاجئة والسكري والفشل الكلوي...ومع الشلل النصفي والإعاقات والأيادي المبتورة...أبرموا صلحاً مع الجنون في الجسد، معك.
وهذا التعايش على أرض الجسد في مكان يقع بين الجنة والنار، وبين الموت والحياة أقلق الجلادين الذين سئموا الانتظار...نحن ننتظر وهم ينتظرون...أرادوا أن يحسم الأمر مبكراً...أن يسمعوا صوت البوق ليعودوا الى منازلهم وأبقارهم وحدائقهم مطمئنين هادئين...أرادوا أن يرتاحوا قليلاً من حمل المفاتيح وصدى الابواب الحديدية ومن اوامر الاستنفار وتعليمات القمع والتفتيش والتعرية وجرّ الاسرى الى الزنازين...لكن انتظارهم كان اطول مما حسبوا...فظلوا في لباسهم العسكري...ينتحلون البساطير ويحملون الجنازير وقنابل الغاز وكلهم يسأل متى...الم يحن الوقت للرحيل.
تنبأ ايها السرطان...لا نريد ان نموت هنا بلا انشاد وارتقاء...حاول معي ان نقفز عن حصار اللغة ونستدعي البحر وتلك المرأة الجذابة الملفوفة بالرمل والطين والماء...حاول معي...خذ نفساً عميقاً من زيت الزيتون واقرأ الجهة الاخرى من جسدي..غزلان تجري...قمرٌ يضحك للحياة، حاول معي حتى لا نموت هنا حرقاً أو قهراً أو جوعاً أو يأساً من قرار...ففي جسدي ما يطيل الحرب وفيه صهيل الحصان.
ما ابشع الموت في زنزانة سرطانية، بلا آيات قرآن...لا أحدَ يرفعنا على سورة الكرسي أو إلى تابوت مزركشٍ بالورد الأحمر...لا نسمع احداً يبكي علينا أو يخدش ارواحنا بترابٍ ينعفه على اجسادنا في تلك الابدية البيضاء.
حاول ايها السرطان ان تكون دوبلوماسياً كما فعلت مع الاسير هايل ابو زيد...لقد اشتبكت معه ثلاثة وعشرين عاماً داخل المعتقل...ولم تتحررا من الحرب الا بعد ان اطلق سراحكما على ارض بلده الجولان، هو راح شهيداً في تفاحة وانت رحت الى الخرافة تسأل عن جسدٍ آخر موعود.
أُسكن فيَّ كما تريد...لكن الموت خلف الباب الوحيد يستفزني...فدعني اموت بين اهلي كما مات اصدقائي مسلم الدودة وزياد حامد وعاطف ابو بكر وعايد جمجوم ويوسف العرعير ومحمود ابو حنفي وسعيد شملخ...حملوك صابرين في كريات دمهم سنوات وسنوات فقتلتهم في النهار، تحت اشعة الشمسِ وبين الناس...فلماذا لا تمنحني هذا الامتياز كبقية الشهداء...
لا تفتك بي امام سخرية السجان، في مردوان السجن، في ساحة مسيّجة، داخل الحمام او في زنزانة داكنة، لا تقتلني في العتمة او في عمق النوم...اقتلني بكبرياء واتركني اقول للحياة سلاماً واسأل السجان ماذا جنيت..
أنشد الهواء الهواء...يا مدينتي اقتربي لا يد الطبيبة بيضاء ولا مبضع الجراح محايد وحدكِ المفتونة بي، القصيدة المشبعة بنمل ترابي وعسل دَمي...الوحيدة التي تغسلني من الليل والخوف تدلني عليّ...يا مدينتي اقتربي، لم يبق وقت للعناق والقبل اللذيذة..
أَطل عمري ايها السرطان...قد تحتاجني طفلة لأفسر لها دروس الإعراب...او تحتاجني أمي في كبرها لأساعدها في جمع الذكريات من بساتين عذاباتها المتناثرة..
أطل عمري لأني وضعت ابدي بين يديك وتركت هديل حماماتي على اشجارك بلا فجرٍ وندى..
تنبأ ايها السرطان...اقتربت الساعة واليوم الموعود...نحن محشورون في جسدٍ لا يصلنا القبطان او تحسم امرنا مفاوضات السلام ولا طبول الحرب، نحن في النسيان الباقون الوحيدون في هذا العالم الحديدي البعيد..
انتظر حتى ارتب برشي واستلم الامانات وعليك ان تنهض الان من طحالبك وتغتسل بي...واقترح ان نرقص قبل الموت لنتظاهر بالحياة...سأبدل ملابسي البنية...امشط شعري...احلق ذقني...سأكتب الوصية...دعني انهي السطر الاخير وأقول: انا العريس لماذا تأخر الزفاف.