الخميس: 19/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

لا لصبّ الزيت على النار /بقلم: علي جرادات

نشر بتاريخ: 21/12/2006 ( آخر تحديث: 21/12/2006 الساعة: 12:34 )
في لحظات اشتداد الصراع الداخلي والمراحل المصيرية للشعوب كما حال شعبنا حقا وحقيقة هذه الأيام، بل منذ عام تقريبا، يرتبك وعي الحقيقة وتختلط الأمور وتتشوش الرؤى لدى الأفراد والجماعات، وتتعالى أصوات المبالغة ونزعات التوتير، ويتراجع منطق المسؤولية الوطنية والتفكير العقلاني الموزون، ويغدو ضبط النفس والقبض على ما يصون المصالح العليا للشعب والوطن ويخدمها وعيا وممارسة من أصعب المهام وأهمها في آن، وهذا ما لا يكون، ولا يمكن بلوغه إلا بضبط الذات للموضوع وترجيح الوطني على الحزبي وانتهاج المسلك الموضوعي الواعي بما يعكس ويجسد وعيا وانتماءً وطنيا أصيلا ووعيا ديموقراطيا عميقا وإدراكا دقيقا للأساسي والثانوي من تناقضات الواقع، ولعل هذا ما يفرض على الساسة عموما، وعلى مَن هم في موقع القرار والمسؤولية خصوصا وزن أقوالهم وما يدلون به من تصريحات وآراء تشحن الناس وتعبئهم بميزان الذهب فضلا عن ما تفرضه من انشداد إلى حقائق ما يكتنف الواقع الوطني من تعقيدات ومصاعب أكثر من الغطس في أوهام ما تعتقده هذه الذات الحزبية أو تلك من حقائق مطلقة.

في هذا السياق وولوجا في ما هو ملموس، فإن خطاب الأخ الرئيس محمود عباس لم يك فاتحة لما يعيشه شعبنا من أزمة وطنية داخلية عميقة طالت واستطالت، بقدر ما كان تعبيرا عما بلغته هذه الأزمة من تعقيد وما وصلته من محطة خطرة من محطات تطورها واستفحالها واستعصائها فضلا عن تعبير هذا الخطاب عما اتسم به الحوار الوطني لتجاوز هذه الأزمة من روح فئوية أعاقت تكلله بالنجاح وأوصلته إلى "طريق مسدود" وأوقعته فريسة لتدخلات أطراف دولية وإقليمية لعبت دورا بارزا في وصوله إلى ما وصل إليه، وهو (الخطاب) بقدر ما رأى في الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة خيارا لتجاوز هذه الأزمة، فإنه لم يطرح اللجوء إلى هذه الانتخابات خيارا وحيدا ونهائيا لا رجعة عنه، بل أبقى الباب مفتوحا وليس مواربا، وحسب حين تمت صياغته بعناية ودقة بما لا يغلق الباب على خيار مواصلة الحوار الوطني وممكنات التوصل إلى حكومة ائتلاف وطني تنهي الحصار السياسي والمالي المفروض على شعبنا ظلما باسم دولي وإرادة أمريكية إسرائيلية لا تخفى على أحد، بل وأبقى هذا الخيار (التوافق الوطني) كخيار أول حيث لم يلجأ إلى تحديد موعد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية المبكرة التي دعا إليها.

في هذا الإطار، وعلى خلفية ما أثاره الخطاب، والدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة تحديدا من ردود أفعال وطنية تفاوتت بين الترحيب والتأييد والتحفظ والاعتراض والرفض، ومن موقع المسؤولية الوطنية والتقدير الدقيق لما يمكن أن يترتب على التسرع من تداعيات وطنية خطرة لا على راهن قضيه شعبنا الوطنية وحسب بل وعلى مستقلبها أيضا، فإننا، وإن كنا لسنا ممن يطالبون الناس بأن يكونوا أنبياء أو ملائكة أو ممن يطالبهم بعدم اتخاذ موقف لصالح هذا الطرف السياسي أو ذاك كون هذا غير واقعي أولا وغير منطقي ثانيا وغير ممكن ثالثا وغير مطلوب رابعا، إلا أنه يحق لنا المطالبة بأن لا يكون هذا الموقف أعمى أو موتورا أو نزقا أو ذاتيا أو متسرعا أو مستعجلا أو جزئيا أو طائشا، أي أن لا يكون موقفا بعيدا عن مقاسات الانحياز لمصالح الشعب والوطن أولا وقبل أي شيء آخر، وهذا ما لا يمكن بلوغه إلا عبر الإقرار بالحقائق الموضوعية التالية والانطلاق منها:

أولا: نحن في أزمة وطنية داخلية عميقة قبل الخطاب وبعد الخطاب، وبطرح خيار الانتخابات وقبل طرح خيار الانتخابات، والأزمة كانت ولا تزال وستبقى بحاجة إلى حل وطني ديموقراطي توافقي، ودون ذلك فإن الكل الوطني يسير نحو كارثة وطنية سياسية اقتصادية اجتماعية أمنية، هذا إن شئنا الابتعاد عن المجاملات وتصوير الواقع كما يحلو لنا وليس كما هو حقا وحقيقة تفقأ كل عين لا ترى غير ما تصوره لها مصالحها الفئوية الضيقة.

ثانيا: أن السبب الجوهري والحقيقي للأزمة الوطنية الداخلية هو ليس ما بين الأطراف الفلسطينية من خلافات حول سبل الخروج من الأزمة بل هو ما بينها ككل وطني وما بين ما تفرضه السياسة الأمريكية الإسرائيلية على قضيتنا الوطنية من عزلة سياسية وما تفرضه على شعبنا من حصار مالي اقتصادي ظالم فضلا عن عجز الحاضن العربي الرسمي عن اتخاذ موقف جاد وجدي يسند شعبنا ويعضده في مواجهة هذه السياسة.

ثالثا: أن مط الحوار الوطني إلى ما لا نهاية واستمرار اللجوء إلى تكتيكات التسويف والمناورة والتملص من تحويل ما تم التوافق عليه في وثيقة "الوفاق الوطني" ومن قبلها في حوار القاهرة إلى آليات عملية توحد البرنامج الوطني ومؤسساته وأداءه لا يمكن أن يفضي إلا إلى المزيد من تفاقم الأزمة وتحولها إلى استعصاء تصعب السيطرة عليه، ويحولها من أزمة خلاف بين القوى السياسية حول السبل والتكتيكات السياسية القادرة على تجاوزها إلى أزمة تطال العظم الشعبي في كافة مناحي الحياة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، ولعل هذا ما لم تعد مظاهره خافية على أحد وتتجلى في أشكال وصنوف من الفقر والبطالة والتفسخ الاجتماعي والهجرة والفلتان الأمني وانعدام سبل الأمن والأمان فضلا عن ما هو كارثي وغير محمود العواقب من اغتيالات وإشتباكات مسلحة ما أن تهدأ موجة منها وتتم السيطرة عليها إلا وتنفجر موجة أخرى.

رابعا: إن عدم تجنيب شعبنا وخلاف ألوان طيفه السياسي حول سبل وكيفيات ما يواجهه من تحديات واستحقاقات هي بثقل الجبال في مرحلة التسيد الأمريكي لمخاطر الركوب غير الحذر وغير الذكي وغير الحصيف لمحاور وخلافات النظام العربي الرسمي لن يحصد إلا الوقوع في خطيئة المزيد من فقدان قضية شعبنا الوطنية لميزة كونها جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، ولن يقود إلا إلى المزيد من تحويلها بوعي أو من دونه إلى مجرد هامش أو ملحق بهذا النزاع أو ذاك من نزاعات المنطقة، ولن يجر إلا إلى المزيد من فقدانها لما كان لها من بريق كونها قضية أهم حركة تحرر وطني لا في المنطقة وحسب بل وفي العالم أيضا.

خامسا: إن كل ما تقدم من حقائق لن تقوى على الصمود في وجهها والتعامل معها، ولن تقود إلى مداواتها بما يخدم المصالح العليا للشعب والوطن عقلية التمترس وتبرئة النفس كليا وتحميل الغير لكامل المسؤولية عما يجري، فهذه العقلية فضلا عن تجريديتها واطلاقيتها وعدم ملامستها لحقائق الواقع، فإنها لن تجدي نفعا ولن تغير من بؤس ومأساوية الواقع القائم في شيء.

على ذلك، وبالنظر إلى ما تركه خطاب الأخ الرئيس من باب مفتوح لخيار مواصلة الحوار الوطني، فإن على كل مَن لا يزال مشدودا لمصالح الشعب والوطن بحبال غليظة من الوعي والانتماء الوطني الصادق والعميق أن يبتعد عن صب الزيت على النار، فهذا منهج خطر، ولا يدري أصحابه عما يتكلمون، وخاصة أؤلئك المرددين لعبارات: "تلك وصفة للحرب الأهلية" أو "تلك دعوة للاقتتال الداخلي" أو "تلك خيانة" أو "ذاك تخلٍ عن الثوابت الوطنية" أو "ذاك تنازل عن القدس" أو "تلك قرارات أمريكية إسرائيلية" أو ....ألخ من عبارات تقديس الذات و"أبلسة" الغير؛ نعم على كل وطني غيور فردا كان أم جماعة أن يسعى بالممارسة قبل القول إلى العمل على التئام شمل طاولة الحوار الوطني الشامل لتحويل ما تم التوافق الوطني عليه إلى آليات عملية توحد صفنا برنامجا ومؤسسات وأداء، فهذا هو خيار خلاص شعبنا من أزمته، ولا خيار سواه.