الاسير المحرر جمال منصور يروي اهم محطات تجربته النضالية والاعتقالية
نشر بتاريخ: 13/10/2012 ( آخر تحديث: 14/10/2012 الساعة: 08:14 )
القدس- معا - في الوقت الذي حمل فيه الرئيس محمود عباس الى الجمعية العامة للامم المتحدة المطلب الفلسطيني قبول دولة فلسطين عضوا ، فإن قبول المجتمع الدولي بذلك يعني تعزيز الشرعية الفلسطينية بما ينعكس على مختلف جوانب القضية بما فيها قضية الاسرى الذين تواصل اسرائيل رفض الاعتراف بهم كأسرى حرب ومقاتلي حرية ، وهو ما يعطي زخما جديدا للجهود الفلسطينية الراهنة الى الزام اسرائيل بتغيير طبيعة تعاملها مع الاسرى بما ينسجم مع المواثيق الدولية وبالتالي اطلاق سراحهم.
وضمن هذا السياق اكد الدكتور فهد ابو الحاج مدير عام مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في جامعة القدس ان الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة - بصفة مراقب - في الامم المتحدة ،سيعود بنتائج ايجابية على المستوى الوطني ، خاصة قضية الاسرى والمحتجزين في السجون الاسرائيلية وفي مقدمة ذلك الاعتراف والاقرار بصفة الاسرى الفلسطينيين كاسرى حرب ومقاتلين شرعيين.
وفي هذه الزاوية يسلط مركز أبو جهاد الضوء على التجربة النضالية للاسير المحرر جمال منصور:-
هو جمال محمود سليم منصور ، من مواليد 2-3-1954 ، اعتقل بتاريخ 22-5-1974 ،وافرج عنه بتاريخ 20-5-1985 ،وحاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الانجليزية وآدابها ،متزوج ويشغل منصب مدير عام في المجلس الاعلى للشباب والرياضة ،وقد التقاه طاقم المركز ،وقام بتوثيق تجربته كما رواها.
مع حلول نكسة العام 1967م، كان عمري ثلاثة عشر عاماً، عندما رأيت الجنود الإسرائيليون يقتحمون بلدتنا (بلعين) وهم يطاردون مجموعة من الفدائيين نفذوا عملية عسكرية في مطار اللد، وطلب الجيش الإسرائيلي من أهالي البلدة عبر مكبرات الصوت الخروج من بيوتهم والتجمع في ساحة البلد، ومنعوا الناس من الإقتراب من منازلهم بعد ذلك، ولا زلت أذكر جيداً كيف منع الجنود والدتي من العودة للبيت لإحضار شربة ماء لأختي الصغيرة (نعيمه) وقد طلبت أمي الحاجة (مدلله) ذلك من الجنود أكثر من ثلاث مرات لكنهم لم يكترثوا لذلك، مما دفع والدتي إلى تناول وعاء ماء بجوارها كانت قد نقعت فيه قبضةً من (عشبه الخبيزه) لغسلها تحضيراً لطبخها لنا في ظهيرة ذاك اليوم، فقامت بسكب ماء العشبة المخلوط بالشوائب الخضراء والتراب في كأس زجاجي لكي تسقيه لـ (نعيمه)، لكن الطفلة لم تستسغ طعم الخبيزه في الماء ولم يرق لها لون الماء الأخضر أيضاً، ولم تشربه، وظلت صابرة على عطشها حتى نهاية نهار ذاك اليوم الطويل.
لقد أسست هذه الحادثة في وعيي الأخذ في التشكل حينها صورة بشعة وهمجية لهذا الإحتلال، ونما في وعيي ووعي غالبية أبناء جيلي على ما أظن كرهاً كبيراً له، في هذه الأثناء أخرجني والدي من المدرسة وأنا في الصف السابع لمساعدته في التغلب على صعاب تلك الحقبة العصيبة من حياتنا وحياة الناس عامةً، فعملت إلى جانبه في فلاحة أرضنا، وعملت لاحقاً مع بداية العام 1969م، في مطبخ المدرسة الصناعية التابعة للجنة اليتيم العربي شمال مدينة القدس، وفي منامة عمال تلك المدرسة نمت على سرير شخص يدعى (عبد الرحيم العبوشي) وأخبرني الزملاء في منامة العمال بأن هذا الرجل أصبح فدائياً، وهو من قرية دير أبو ضعيف قضاء جنين، وقد ألتقيته فيما بعد، في منتصف تسعينيات القرن الماضي وأخبرته بتلك الواقعة، وكيف تحول (عبد الرحيم العبوشي) إلى ملهم لي عن بعد، رغم عدم معرفتي الشخصية به، وأستطيع أن أقول لك بكل صدق بأن إقترابي من ذاك السرير عزز في داخلي دوافع الإلتحاق بالفدائيين، والسير على طريقهم، وزرع في داخلي شغفاً غريباً بحب العمل الفدائي، حيث كنت أجوب الجبال في المساء باحثاً عن الفدائيين وأكتب أسمي على الصخور، جمال منصور.
في العام 1970م، نزلت إلى أريحا قاصداً عبور نهر الأردن نحو قواعد الفدائيين هناك، وأول شيء عملته بعد وصولي إلى أريحا، أنني إقتربت من محل لبيع أو تصليح الدراجات الهوائية، وطلبت من صاحبه أن يؤجرني إحداها فرفض لصغر سني، فأبرزت له هوية المدرسة الصناعية، فمنحني واحدة بالأجرة، وكان لدي ثقة بأنني أعرف منطقة أريحا بشكل جيد، لأنني مكثت في هذه المدينة فترة من الزمن أثناء دراستي في (مدرسة المشروع الإنشائي العربي) في 1965م، عندما كنت طالباً في تلك المدرسة، فشققت طرقي شرقاً قاصداً الحدود، لأكتشف لاحقاً بأن الطريق الذي سلكته يؤدي إلى معسكر للجيش الإسرائيلي، فتوقفت عند مفترق طرق، تؤدى واحده من مسالكه التي قررت سلوكها نحو ذاك المعسكر، وأخرى إلى مدرسة المشروع الإنشائي العربي، فسلكت التي تؤدي إلى المدرسة، وفي الطريق مر من أمام مخيلتي شريط عريض وطويل من الذكريات الخاصة بتلك المدرسة وما حولها، وما أن وصلت المدرسة ووقعت عينا مديرها علي حتى عرفني، فرحب بي أشد ترحيب وقال لي.
أهلا يا جمال.
ماذا تعمل هنا؟
قلت له، أتيت لزيارتكم.
قال لي ماذا، تشتغل في هذه الأيام؟
قلت له، في مدرسة صناعية بالقرب من قلنديا.
وفي نهاية هذه المحادثة عرض علي أن أعمل لديهم مقابل أجر قدره 25 ديناراً أردنياً، وهو أعلى من الأجر الذي أتقاضاه في عملي الحالي في المدرسة الصناعية بعشرة دنانير، حيث كنت أتقاضى 15 ديناراً، فوافقت مبدئياً على عرض المدير، لهذا السبب، ولسبب أخر أكثر أهمية بالنسبة لي، وهو في الحقيقية الذي دفعني للمجيء إلى أريحا، وهو الإقتراب من الحدود الأردنية ومن ثم إجتيازها للوصول إلى قواعد الفدائيين.
عودة على بدء، أنتهت محاولاتي في عبور الحدود الأردنية الفلسطينية بالفشل، وعرفت بأن معلوماتي عن تلك الأراضي ليست كما يجب، ولربما كنت بحاجة إلى معلومات إحترافية أكثر للنجاح في مهمة إجتياز الحدود، وعدت أدراجي إلى المدرسة الصناعية في منطقة قلنديا، ولم أنتقل للعمل في مدرسة المشروع الإنشائي أيضاً.
أنتهى العام 1971م ، وأنا أبحث عن الفدائيين في الجبال والوديان، في العام 1972م، نفذت عملية ميونخ في ألمانيا الغربية، وهي التي أحتجز خلالها مقاتلو فتح كامل أعضاء الفريق الرياضي الإسرائيلي المشارك في دورة ا لألعاب الأولمبية في ذاك العام كما هو معروف، وكانوا يطالبون بالإفراج عن 236 أسيراً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية، بالإضافة إلى المناضل الياباني المعروف(كوزو أوكاموتو).
في هذه الأثناء كنت قد إنتظمت بالعمل في مطعم إسرائيلي في مدينة(يافا- منطقة بات يام) وطلب مني رب العمل الإسرائيلي في إثر العملية عدم الخروج من المطعم إلى الشارع، خشية من الإعتداء علي، رغم ذلك تعرضت لعدة محاولات قتل على يد مجموعة من الإسرائيليين ضمن موجة العنف وردة فعل الإسرائيلية ضد العرب بشكل عام، وقد حاول المعتدون علي إغراقي في البحر في أحدى المرات، فقاومتهم مقاومة شرسة وتمكنت من النجاة من أيديهم بإعجوبه.
بعد ذلك بوقت قصير نشب خلاف بيني وبين صاحب العمل، في أثره عدت إلى البلدة، وفيها وجدت أهلي وعموم أهل القرية في قلق شديد على، وخاصة أنه قد مضى على غيابي الأخير عن البلدة شهر كامل، في مساء هذا اليوم وصل شقيقي( محمد منصور – أبو علاء منصور) من العراق بعد غياب أستمر لخمس سنوات متواصلة، وكان قد غادر القرية في العام 1967م، وتقدم لإمتحان شهادة الثانوية العامة في الأردن، ودرس الرياضيات في العراق، فشرحت لشقيقي ما حصل معي من محاولة القتل، فسألني على الفور.
كيف رأيت ردة فعل الإسرائيليين على عملية ميونخ؟
وصداها على الشباب في الشارع الفلسطيني أيضاً؟
في الحقيقة أنني لم أفهم ما المقصود بكلمة (صدى) فسألته ماذا يقصد بها فأجاب، أي ردة فعلهم وتأثرهم بها سلباً وإيجاباً، وقال لي اعتداء الإسرائيليين عليك مثلاً هو أحد أشكال الصدى الناتج عن تلك العملية، لهذا السبب قال لي عليك أن تنتمي لنقابة معينة في رام الله ، وأن تشتري الجريدة يومياً، لتساعدك في رفع مستواك الثقافي، بعد مرور ثلاث أيام على هذا الأمر طلب مني أن نخرج سوياً في نزهة إلى الجبل في الليل، وهناك عرض على فكرة الإلتحاق بحركة فتح، وسألني هل تود أن تصبح فدائياً، فأجبته على الفور بالإيجاب، لأنه مضى خمس سنوات من عمري لغاية الآن وأنا أبحث عن هؤلاء الناس، فقال فكر جيداً بالأمر ومعك أسبوعان للرد النهائي، وعليك أن تعلم بأن إختيارك لهذا الطريق سيحولك إما إلى شهيد أو أسير، ومن الممكن أن ينسف بيتك، وأجبته الإجابة النهائية بالموافقة، فطلب مني أن أضع يدي بيده وأردد خلفه قسم الإنتماء وهو:-
أقسم بالله العلي العظيم
أقسم بشرفي ومعتقداتي
أقسم أن أكون مخلصاً لفلسطين
وأن أعمل على تحريرها
باذلاً كل ما أستطيع
وأقسم بأن لا أبوح بسرية حركة فتح
وما أعرف من أمورها
ومخلصا لمبادئ فتح وأهدافها
فقال لي أنت من الآن أصبحت فدائياً في حركة فتح، قلت له أريد أن أصبح مقاتلاً في قوات الصاعقة، فقال لي إن قوات الصاعقة هي تنظيم فلسطيني غير فتح، علماً أن قصدي كان أن أصبح فدائي بالزي المرقط المعروف، وأنفذ عمليات قتالية ضد المحتل، وتابع حديثه قائلاً لكن في فتح يوجد شيء أسمه قوات العاصفة، يمكنك أن تصبح جندياً فيها مستقبلاً، وقدم لي أبو علاء فكرة موجزة عن قوات العاصفة، وطلب مني العودة إلى العمل في (بات يام)، والحرص على تعلم اللغة العبرية وإتقان لعبة الكارتيه أيضاً، بعد ذلك أصبحت أعود إلى البيت بمعدل مرة واحدة كل أسبوع.
أما أخي أبو علاء فقد كلف بعد عودته إلى الديار بتجنيد أعضاء جدد وثقات لصالح العمل العسكري الفتحاوي في الضفة الغربية، وفي هذا الوقت كان قد حصل على وظيفة في مدرسة بنات رام الله الثانوية، في العام 1972م أعتقل أبو علاء للمرة الأولى، لمدة 18 يوماً (تحقيق) على إثر إستشهاد القادة الثلاثة في بيروت يوم 10/نيسان/1973م، وهم:-
كمال ناصر، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وكمال عدوان، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وأبو يوسف النجار، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، في شهر تشرين أول من نفس العام إندلعت حرب أكتوبر وكانت مجموعتنا العسكرية على أتم الإستعداد لتنفيذ ما يطلب منها.
وقبل البدء بأي نشاط عسكري تمكن شقيقي أبو علاء من تأليف مجموعتنا المكونة منه (محمد منصور- أبو علاء) و(جمال منصور)و(غازي فلنه)و(خضر قنداح) وهي المجموعة التي وصفها أخي أبو علاء في كتابه (عبور النهر) " بأنها لم تأخذ قرشاً واحداً من الثورة، ولم تتسلم سلاحاً، وعملت بمبادرة منها، معتمدة على قدرتها الذاتية، مكتفية بوحي إنتمائها التنظيمي والوطني، دون أن تنتظر تعليمات من الخارج، ومولت عملها من مشاركات وتبرعات أعضائها أنفسهم، من خلال إشتراك شهري قيمته نصف دينار أردني للإنفاق على عملها ".
وتابعت هذه الخلية الفقيرة نشاطها تحت قيادة أبو علاء الذي كان يميزه عن غيره العناد والإصرار على القيام بواجباته على أكمل وجه، ولكن بدون إعداد وتدريب كافيين، ولا خبرة بالعمل السري وبلا سلاح أو أموال.
لقد وفر إندلاع (حرب تشرين أول - أكتوبر 1973م)، بالنسبة لنا جواً مناسباً لمباشرة العمل الفدائي في منطقة رام الله، فقررنا المساهمة في تلك الحرب، لكن خلف خطوط العدو، تم ذلك بتخطيط ومبادرة من قائد الخلية (أبو علاء) فكانت البداية بحرق بنك ديسكونت وبعده بأيام بنك لئومي الإسرائيليين في رام الله وكان مقر البنك الأول بالقرب من دوار الساعة وسط المدينة، والثاني في شارع ركب، بعد هاتين العمليتين قرر الإسرائيليون وضع حراسات مسلحة على البنوك، وقد خططت مجموعتنا للسيطرة على تلك الأسلحة، وبالفعل هاجمنا حارسي بنك لئومي في شارع ركب، وكان هذا الحدث في يوم 8/11/1973م، وكانت رام الله كما باقي المدن في الوطن تعيش أجواء الحرب، كمنع الإضاءة في الليل وخلافه، وكانت الشوارع خالية تماما من المارة.
بنيت خطتنا في الهجوم على أن يقوم كل أثنين منا بمهاجمة حارس واحد، وكانا حارسان مسلحان ببنادق رشاشة، وخلال لحظات تمكنا من قتل الجنود بالسكاكين وأخذنا أسلحتهم وأجهزة الإتصال اللاسلكية التي كانت بحوزتهم، وأختفينا من المكان في لمح البصر، ضمن خطة هرب محكمة أعدها قائد الخلية مسبقاً، قوامها بأن يهرب كل واحد منا في تجاه مختلف، ولا يعلمه العضو الأخر في الخلية، وبعد مسيرة ليلية طويلة وصل الذين كانت وجهتهم (بلعين) وهما أبو علاء وغازي فلنه وكان بحوزتهم السلاح، وقاما بدفنه داخل مغارة عميقه من مغارات جبال بلعين.
بعد مرور ستة شهور على هذه العملية، تمكنت المخابرات الإسرائيلية من إعتقالنا، ففي يوم 22/4/1974م، نفذت أجهزة الإحتلال المخابراتية حملة إعتقالات عشوائية شاملة في الضفة الغربية شملت قيادات وكوادر ونشطاء من مختلف فصائل منظمة التحرير، وكان من بين المعتقلين في تلك الحملة عضو خليتنا (غازي فلنه)، وبهذا الإعتقال تمكنت المخابرات الإسرائيلية من الإمساك بطرف خيط خليتنا،في هذا الوقت كنت أنا في عملي في (بات يام) فداهمت المخابرات الإسرائيلية مكان نومي المجاور لمكان عملي، وتم إعتقالي.
قبل ذلك كنت قد زرت قريتي للمرة الأخيرة قبل الإعتقال، وكانت برفقتي أبنة معلم العمل وهي طفلة في الرابعة من عمرها أسمها (سيغل) لكنها طفلة إستثنائية وشديدة الذكاء، وكانت متعلقة بي إلى حد بعيد، وأصرت قبل عودتي هذه المرة إلى القرية على أن ترافقني لأنها تريد رؤية قريتنا، وبالفعل حلت هذه الطفلة ضيفة مكرمة على أهلي وجيراني، وتمعنت جيداً بعادات أهل البلد التي لم ترى مثلها من قبل، كإنتشال المياه من البئر بواسطة الحبل والدلو، وشاهدت النسوة تعجن العجين وتخبزه في الطابون، وركضت مع الفتية والفتيات فوق ربوات بلعين وهي تقطف معهم الزهور، رغم ذلك إنتابي شعور في هذه الأيام بأن أمرا سيئاً ينتظرني في (بات يام).
بعد يومين من عودتي إلى عملي تم إلقاء القبض على من قبل رجال المخابرات الإسرائيليين وتعرضت إلى تعذيب شديد في (بات يام ويافا) على شاطئ البحر دون أن يطلبوا مني إعتراف محدد، وتم إيداعي في سجن أبو كبير في يافا، ومنه رحلت إلى سجن رام الله، خلال إستقبالي في سجن رام الله قال لي ضابط المخابرات أبو هاني، وهو أحد أشرس المحققين، الذين تولو التحقيق معي.
بتعرف تقتل؟ بدون أن يستكمل سؤاله، أو أن يطلب مني إجابة عليه، بعد وصولي إلى رام الله، وفي الساحة المقابلة للغرفة التي تواجدت بها، سمعت أصوات مجموعة من الجنود، وكنت في هذا الوقت معصوب العينين.
بعد ذلك تم نقلي إلى غرفة المحقق أبو هاني، حيث قال لي وأنا معصوب العينين أيضاً.
القصة منتهية يا جمال!
وأنهى حديثه معي وأعادني إلى حيث كنت أي مقابل الجنود.
فسألني أحد الجنود من أنت؟ وماذا تعمل هنا؟
قلت له يبدو إن المخابرات يشكون بأنني قد سرقت شيء ما.
قال غيره من الجنود، غريب هنا مقر الحكم العسكري، ولا يوجد هنا مساجين جنائيون
قلت لهما لا أعلم
في هذه اللحظة أقترب المحقق أبو هاني مني، ووجه حديثه للجنود قائلاً لهم، أتعلمون من هذا؟ أنه الذي قتل زملائكم حراس بنك لئومي، وسوف نكشف كل قصته بعد أيام قليله، أمر المحقق أبو هاني بنزع العصبة عن عيني، وأدخلت إلى غرفة تحقيق مجاورة كان فيها ثماني محققين.
وبدأ التحقيق معي عن مواضيع بعيدة كل البعد عن موضوع الحراس، فسألني الضابط الأول.
ماذا تعمل؟
جمال. في محل كافي شوب في بات يام.
محقق أخر. كيف أنت والشرب؟
جمال. لا أشرب
محقق أخر. كيف أنت والسباحة؟
جمال. جيد
محقق أخر. كيف أنت والبنات؟
جمال . لا علاقة لي بهن
محقق أخر. كيف أنت والكاراتيه؟
جمال. جيد
المستخلص من هذا الأسلوب بأنهم كان يستدرجونني لأستسهل الإجابة على الأسئلة والإجابة على كل سؤال تقريباً.
بعد نهاية هذه الأسئلة قال لي أبو هاني، الآن سنبدأ بالجد، فأحضر محقق آخر أسمه جوني ورقة بيضاء وطلب مني أن أكتب عليها الأتي:
" أنا الموقع أدناه أقر بأنني لم أعتدي على جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، ولا على رجال شرطة إسرائيل ولا على حراس بنك لئومي في رام الله " وفي هذه اللحظه خطف المحقق القلم من يدي وقال لي هل تجرؤ على التوقيع بإنك لم تعتدي على حراس بنك لئومي؟ فأخذت القلم من يده ووقعت على الورقة وفيها هذه العبارة (أنني لم أعتدي على حراس بنك لئومي).
وأنفجر جميع المحققون من الضحك، وهجموا علي جميعهم تقريباً وبدئوا بضربي على مختلف أنحاء جسمي بأيديهم وأرجلهم، (هنا أدركت بأنهم يريدون الإنتقام لا الإعتراف) وبسبب إصراري على الإنكار قاموا بإحضار شريكي في الخلية (غازي فلنه) وكان قد أعترف على بسبب وحشية التعذيب وقسوته، وعلى الرغم من إعترافي بالتهمة الموجهة لي فأن التحقيق معي أستمر بعد ذلك لفترة طويلة، لأنهم يريدون العنصر الرابع في الخلية، فإعترفت على (خضر قنداح)، أما أخي أبو علاء فقد قرر مغادرة البلاد بإتجاه الأردن بعد أن تيقن من أن أمرنا قد كشف للإسرائيليين، حسبما عرفت ذلك بعد إنتهاء التحقيق ودخولي إلى سجن رام الله، ولم يعد إلى أرض الوطن إلا بعد عودة السلطة الوطنية في عام 1994م.
بعد إنتهاء التحقيق معي تم إيداعي زنازين سجن رام الله، في هذه الزنازين ألتقيت برجل يدعى (عبد الكريم عطالله) أبو سائد من قرية كفر مالك، بعد أن عرف أسمي عرف بأنني شقيق الأستاذ (محمد منصور- أبو علاء) وقد زادت هذه المعرفة من قبله إهتمامه بي، لأسباب خاصة به، وقد كان الأسير (عطا لله) مسئولاً عن توزيع الأكل على الزنازين، وعرفت لاحقاً بأن صداقة إعتقالية قوية تربطه مع شقيقي (أبو علاء)، بعد خروجي من الزنازين ودخولي إلى غرف معتقل رام الله، أستقبلني هذا الرجل إستقبال الأبطال، وقال لي أريد أن أصارحك بأمر ما، كان لدي شك بأن هذا العمل( قتل حراس بنك لؤمي) هو من صناعة الأستاذ محمد، لكن أريد أن أطمئنك (الأستاذ) أصبح خارج البلد.
في البداية لم أفهم عليه ماذا يقول، لكنه كان أول من أخبرني بفرار (أبو علاء ) خارج الوطن، فرحت وحزنت في آن، فرحت لأنهم لن يتمكنوا من المساس بأبو علاء، وحزنت لأنني لربما لم أعد أراه بعد هذا اليوم، وتأكدت من الأخ (عطالله) كان بالفعل على صداقة عميقة مع (أبو علاء) ومطلاً على خفايا نفسه وقناعاته وأفكاره النضالية، وطلبت من الأخ (عطا لله) أن يرشدني إلى الشخص الذي كان يشبب على الشبابه طوال الستة أيام التي أمضيتها في الزنازين، لكي أشكره.
وفسر لي أيضاً الأخ (عطا لله) سر صوت الشبابه التي كنت أسمع صوتها بإستمرار وأنا في الزنازين، وقال لي أن الأمر ليس صدفة، لأن التنظيم كان قد كلف الأخ (عيد النعسان- أبو غازي) وهو عازف محترف على هذه الآلة الموسيقية الشعبية، ليسليني في معزلي في زنازين السجن، فذهبت إلى غرفته أثناء الفورة وشكرته على صنيعه، كما وشكرت الأخ حسين البحر من قرية المزرعه الغربية لمشاركته (أبو غازي) عزفه على الشبابه وغناء الأغاني الشعبية.