تراث أم الزينات والكفرين يختلط بحكايات المخيم والشهداء وانتفاضة الحجار
نشر بتاريخ: 13/10/2012 ( آخر تحديث: 13/10/2012 الساعة: 17:47 )
طوباس - معا - اختلطت ذكريات نساء ورجال حول قراهم المدمرة عام 1948 باللحظات القاسية لتأسيس مخيم الفارعة، وبحكايات شهداء الحرية وأسراها، مثلما استرد الرواة لحظات التعذيب في السجن السابق المجاور لمخيمهم، وأحداث انتفاضة الحجارة عام 1987.
ورسم لاجئون ومحررون وأقارب شهداء صورة لواقع الفارعة، خلال الحلقة الرابعة من برنامج"ذاكرة لا تصدأ" التي تنظمه وزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات، والتي تزامنت مع الاحتفالات بيوم التراث الفلسطيني.
واسترد نافز جوابرة، الذي فقد قريته بعلين (قضاء غزة)، اللحظات المرة لاستشهاد شقيقه ماهر في 30 تموز 2001، حين تعرض وخمسة شبان آخرين لاغتيال مدبر بتفجير ناسف، قرب المخيم.
ويقول: كنا نجلس على سطح المنزل، وسمعنا انفجاراً قوياً، وسارعنا إلى مكانه، ولم نكن نعلم هوية المستهدفين، وسبقتنا سيارات الإسعاف، ولم نجد إلا آثار الدماء والتفجير، لننتقل بعدها إلى مستشفى جنين، وأبدأ بالبحث عن شقيقي. كانت الجثث محروقة وبعضها مقطع الأطراف ودون رأس، ولم أميز أخي إلا من إبهام يد اليمنى الذي قطع بعد إصابته في انتفاضة عام 1987، في يوم مشهود سجل 14 إصابة دفعة واحدة.
ويتابع بألم: كان أخي مطارداً، وحاولوا مراراً تصفيته، وأغلقوا الطريق الموصول بين الفارعة ونابلس، وأضطر قبلها للاختفاء عن الأنظار، ولاحقه جيش الاحتلال بدعوى مسؤولية عن عملية فدائية ونشاطه ضد الاحتلال.
واستعرض باسل منصور قصة الشهيد أحمد عبد أيوب، المنحدر من الفلوجة: كان رياضياً ولاعب كرة سلة محترف، ومسؤولاً عن لجنة العمل التطوعي في المخيم، وعضواً في حزب الشعب، ودخل قلب الأهالي بأخلاقه ونشاطه الاجتماعي والوطني، وطرده الاحتلال من المدرسة لنشاطه، والتحق بدورة كهرباء، ثم اعتقل عدة مرات، وأصيب في يده، وتعرض للمطاردة، وحرم من العيش طويلاً في منزله على أطراف المخيم.
ويكمل صديقه وديع منصور: في غروب يوم 14 آب 1989، جرت تصفيته بدم بارد، فقد كنا في بيارات المخيم، ولاحظنا انتشار جيش الاحتلال، فقرر الذهاب لمزرعة والده لريها، واتجهنا نحن لوجهة أخرى، وطلب منا أن نُحضر له السجائر، لكن الجنود أطلقوا عليه الرصاص عن بعد نحو 200 متر، وأصيب في الحوض، وحاول الوصول إلى الشارع الرئيس(الفارعة-نابلس) ثم طاردوه واعتدوا عليه بعد الإصابة، ليجتمع الأهالي ويحررونه من بين أيديهم، ونقل إلى المستشفى، وبعد انتصاف الليلة أعلن عن استشهاده.
فيما بثت فاطمة صالح صبح، المولودة في أم الزينات ما عرفته عن قريتها القريبة من حيفا، عبر روايات أهلها، الذين اضطروا للرحيل، ووضعوها على ظهر الدابة من جهة وشقيقيها من جهة أخرى.
وتقول: كانت القرية كلها شجر وبساتين، وكانت أمي تحدثني عن عيون الماء فيها، وأشجارها، ومزروعاتها، فكانت تجمع الخبيرزة والعلت والسلك، وتقطف الصبر والزيتون والخروب، وتذهب إلى بئر الناطف والبياضة والهرامس وغيرها.
وتضيف: كانت أم الزينات لا تحتاج لأحد في خضرواتها وفاكهتها، وتخزن (مونة) البيت من عدس وبرغل وزيت وزيتون، وفيها عائلات: الفحماوي والشواشرة وصبح والشيخ يوسف. وكانت أراضيها واسعة، وفيها مدرسة ومسجد.
ووصف المربي المتقاعد أحمد صالح أبو سريس قريته الكفرين المتاخمة لحيفا: كان عمري 8 سنوات حين فقدنا بلدنا، التي تقع على تلة صغيرة، وتمتد على نحو 1800 دونم، وكان أهلها يشاركون بعضهم بالأفراح، فيتعاونون جميعاً في إحضار الطحين والأرز واللبن لعائلة العريس، ويطبخون معا على النار، ويحتفلون ثلاث ليال( تعليلة). ويضعون العروس على ظهر جمل(هودج). أما في الأتراح، فكانوا يتضامنون مع بعضهم، ويحدون 40 يوماً ويعطلون الأفراح.
يوالي: كان أهلنا يزرعون كل الخضروات، ويجمعون ما تنبته الأرض من زعتر وعكوب، ومن أسماء أراضينا: وينابيعنا: الظهر، وعين البلد، والمرشقة، وعين خميس، والحنانة.
واستذكر لحظات أقامة مخيم الفارعة: أقيم عام 1949، قرب عين الماء، وعلى أرض حمراء كانت توحل في الشتاء، بخيام صغيرة ذات عمود واحد، وأخرى أكبر بثلاثة أعمدة، وبعضها بني وأخر ابيض، أما الشفافة فكان الأهالي يطلونها بالإسفلت؛ ليحتموا من الشمس والعيون. فيما أقيمت المدرسة في خيمة كبيرة، درّسنا فيها الأساتذة: حسن العرجا، ومحمد حمد منصور، ومحمود جابر، وموسى الصميدي( وهو مصري الجنسية).
يضيف: عام 1956، بدأت الوكالة توزع ألواح (الأسبست) لبناء غرفة واحدة لكل عائلة، ذات ارتفاع متر ونصف المتر، وبسمك 10 سنتميترات للسقف، كانت للنوم وللطبخ ولكل أشكال الحياة، أما المرافق الصحية فكانت مشكلة كبيرة، إذا أقيمت في المخيم وحدات صحية عامة، فيما كانوا يذهبون لتوفير المياه من العين بأوعية معدنية.
ويتابع: مما لا ينساه أهالي المخيم، الرياح والعواصف والأمطار والثلوج ذات مرة، حين كانت تقتلع خيامهم، ما دفع السلطات الأردنية لترحيلهم إلى إسطبلات الخيول في المبنى المجاور، الذي صار لاحقاً سجنا. عدا عن العمل الشاق في الكسارات مقابل قرش واحد عن كل ساعة، وإصابة من عمل بالزراعة في الأغوار بالملاريا.
ورسم الأستاذ عوني ظاهر، المقيم في قرية ياصيد، صورة للمخيم كما شاهده عن بعد: كنت أنظر إلى الفارعة لأجد مكاناً ضخماً اسمه السجن، وبجواره بقعة بيضاء ومجموعة من البيوت المتجاورة كالخيام. وقتها جئت لبيع الصبر والتين في المخيم، كنت أسوق الصبر بسرعة بعد صلاة الفجر، أما التين فيتأخر بيعه حتى الضحى أحياناً، وكنا نبيع أول كيلو منه بثلاثة قروش وفي النهاية نخفض السعر لتصبح الثلاثة كيلو بقرش، لكنني كنت أجد حسرة في عيون النساء اللواتي يبتعن تيننا، لم أكن وقتها لأفهما لصغر سني، لكنني حين كبرت عرفت الحنين الذين يسكنهن، فهن كن يقطفن التين من أرضهن السليبة، واليوم يشترينه.
ويضيف: في طريق عودتنا كنا نهرب إلى عين المياه، للسباحة، ونشاهد النساء وهن يقفن في صف طويل لتعبئة الصفائح، وكان هناك رجلا ضخم البينة(عرفت أن اسمه لاحقا محمد إبراهيم صبح الملقب بالقصير) يُرتب الدور.
واستعاد الأسير المحرر عبد المنعم مهداوي ذكريات سجن الفارعة الملاصق للمخيم، وهو بناء بريطاني استلمته السلطات الأردنية وتحول لإسطبل للخيّالة، وأصبح عام 1983 مركز توقيف وتحقيق. وفي مطلع انتفاضة 1987، عرف باسم(المسلخ) استخدم الاحتلال فيه ألوان التعذيب والتنكيل.
ويسرد لحظات الاعتقال، التي تكررت معه 4 مرات: يقتحم الجنود البيت، بصراخ وعنف وطرق للأبواب، ينتزعون الشاب من أهله، ويعصبون عينيه، ويطلبون منه أن يرشدهم لمنزل رفاقه، وإذا رفض ينهالون عليه بالضرب والشتائم، ثم يدخل المعتقل بعد ركل وضرب طوال الطريق، وما أن يصل إلا ويعرونه من ملابسه كاملة، ويدخلونه إلى العيادة، ويسأله الممرض عن أوجاعه دون فحص، ثم يربطونه من يديه، ويجلس في ساحة الشبح، وسط جوع وإهانة، فيدخل التحقيق بالضرب والتعذيب، ويتعرض للتنكيل، ويقبع في (الإسطبلات) الضيقة، وبجواره كردل( وعاء بلاستيكي أسود) يستخدم كحمام.
وفصّل مهداوي لحظات التعذيب ووسائل التحقيق والبوسطة(النقل من معتقل إلى آخر)، وغرف العار(العصافير)، والأساليب النفسية المختلفة التي كان يستخدمها الاحتلال للانتصار على إرادة الأسرى.
وتطرق باسل صبح إلى تراث انتفاضة الحجارة في الفارعة، حين كان يشارك كبار السن كحال الأخوين محمد ومحمود حمد منصور، ومحمد ذيب صبح، ورشاد سوالمة، وإسماعيل وخليل أبو زهرة، الذين كانوا يحملون مطارق ثقيلة، يكسرون بها الحجارة الكبيرة، ويوزعونها على الشبان والفتية. وبعدها، يوفرون لهم الطعام والسجائر والبصل لصد الغاز المسيل للدموع، ويراقبون أزقة المخيم .
واستذكر وديع منصور حكاية اعتقاله عام 1983 هو ورفيقه هارون أبو حسن، واتهامهما بإحراق مصنع مستعمرة(تومر). يقول: نقلونا إلى شرطة أريحا، وهناك كان المحقق(إسماعيل وهو فلسطيني من يطا بمحافظة الخليل) ينكل بنا، فيلقي بنا على الأرض، ويبول علينا، وينهال علينا بالشتائم.
وينتقل للحظات عصيبة أخرى، حين اعتقل إبان سياسة تكسير العظام في عام 1989، ونقل أكثر من مرة في حافلة لجيش الاحتلال، كانت تتوقف مراراً على الطريق، وتوهم المعتقلين بأنهم متجهين إلى سجن، وبعد وقت طويل تلقي بهم معصوبي الأعين في منطقة حرجية وسط أرض موحلة شتاء، وفي ساعات الليل، لتبدأ معاناة التخلص من القيود والوحل والتعرف على المكان، والتعافي من آثار الضرب والتنكيل طوال الرحلة الصعبة.
واسترجع المحرر جبر أبو حسن لحظات الاعتقال والتعذيب التي مر بها في سجن الفارعة، حين كان يرشه المحققون بالغاز المدمع، ثم يطلبون منه غسل الوجه، ليتضاعف وجعه، فيرفض، ليخضع لضرب وتنكيل وشتائم.
ويتابع: لا زلنا نعيش ذكريات القهر والتحقيق، وتناوب حراس المعتقل على ضربنا ونحن نقف في مدخل ساحة الشبح. ولا ننسى وسائل المحققين: أبو خنجر، ونور، وأبو جبل، وأبو علي، ومرزق، وأبو غزالة، وفريدي. وتحضرنا وسائل التهديد والقهر النفسي والموسيقى الصاخبة وأساليب الشرطة في نزع اعترافات بطريقة سهلة، من خلال التوقيع على ورقة بالعبرية لا نعلم ما فيها.
ولم ينس الرواة شهداء المخيم كلهم رغم مرور عشرات السنوات، فيسرودنهم ويستحضرون حكاية كل واحد منهم كحال (الشهيد الحي) ناصر العرجا، الذي تعرض لاعتقال وضرب مبرح على رأسه، وعاش فاقدا للذاكرة قبل أن يرتقي إلى العلا، ولا ينسون قصة الفتى عبد المنعم شاهين الذي سقط نهاية تشرين أول 1988، ووزعت عائلة الحلوى في بيت العزاء، كما لا يسقطون سجل الخالدين: محمد العبوشي، وإبراهيم أبو صيام، وأحمد أيوب، وحسين زهران، ووائل شوبكي، ووديع الياصيدي، وسعيد البرية، وراشد جبارين، وماهر جوابرة، وحكمت أبو الليل، وعبد الرحمن شتيوي(عبود)، ومروان الغول، وثائر مهداوي، وفائق أبو صيام، وصبحية لبادة، وفادي صبح، ومصطفى زلط، وإبراهيم سرحان، ومحمد مبارك، ومحمد الغول.
وقال منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف، إن "ذاكرة لا تصدأ" ستواصل في الفترة القادمة توثيق شهادات النكبة والمخيم، وستحاول بكل الوسائل المتاحة جمع شهادات التاريخ الشفوي للجيل الشاهد على النكبة.
وأضاف: منذ انطلاقة البرنامج، قبل 4 أشهر، خسر مخيم الفارعة 5 من الشهود على النكبة الكبرى، رجالاً ونساءًـ غيبهم الموت، قبل التوثيق المرئي لحكاياتهم مع قراهم المدمرة.
بدوره، أكد نافز جوابرة من اللجنة الشعبية، أن الفترة القادمة ستشهد عملاً مشتركاً بين اللجنة ووزارة الإعلام لكتابة السيرة الإنسانية لشهداء المخيم، وإطلاق متحف لمقتنياتهم الشخصية، يبقيهم في الذاكرة، وينقل نضالهم وأحلامهم إلى الأجيال القادمة.