بيوتنا وحاراتنا الفلسطينية في الخليل بين اهمال اصحابها وتقصير الحكومة
نشر بتاريخ: 06/08/2005 ( آخر تحديث: 06/08/2005 الساعة: 16:05 )
الخليل- معا- تعتبر البلدات القديمة في فلسطين نواة المدن الحديثة، وهذه البلدات التي بنيت بطرق بدائية وبجهد كبير ليس من السهل التخلي عنها بالصورة التي نراها اليوم، وإن كانت لجيل أو أجيال سبقونا، ونستذكر المثل الشعبي الذي يقول:" اللي ما الو ماضي ما الو حاضر"، ونترك الحديث للمعنيين ليتحدثوا عن هذا الموضوع قديماً وحديثاً، وما يتوجب عمله لحماية هذه الكنوز المتناثرة والتي يلتهمها الزمان يوماً بعد يوم.
هكذا كانت قديماً:
عن ماضي هذه المباني في بلدة يطا يقول رئيس بلدية يطا السيد خليل أبو عرام:" يطا كانت تمثل أكبر مساحة قرية قديماً في محافظة الخليل، وكانت مقسومة الى قسمين، وكل قسم مقسوم الى ثلاث حارات، فعلى سبيل المثال: حارة المخامرة التحاتى، ومخامرة حوشية، ومخامرة علايا، وشعابين، وحريزات تحاتى، وحريزات علايا (خليلين)، وكانت المباني مبنية بالنمط المملوكي (القرية المملوكية أو البناء الانبوبي) وهي عبارة عن عدد من الأقواس الحجرية التي تمت تغطيتها بألواح خشبية قوية جداً، والقش ثم الطين المخلوط بالتبن، وسميت بالعقد العربي".
ويضيف:" كان بإمكان الناظر الى هذه المباني أن يميز الفترات التي بنيت فيها فحتى بداية القرن العشرين بنى أهل يطا بيوتهم من الحجارة التي نقلوها من الخرب المحيطة مثل سوسيا، والكرمل، وأم العمد، والديرات، وغيرها، ويعتبر الحجر القديم اكثر تنظيماً من الحجر الحديث الذي تم قطعه من الصخر، وكان البيت (العقد) متعدد الأغراض، وكان عدد الركب (الأعمدة اتلي يرتكز عليها البيت) يدل على مساحته فمنها ما يتكون من 4 او 6 او 8 ركب، ويستغرب الانسان عندما يرى الحجارة كبيرة الحجم مرفوعة في أماكن مرتفعة من الأبنية القديمة، وتفسير ذلك هو أنه كان هناك متخصصون يرفعونها على ظهورهم ويصعدون على سلم خشبي، وهؤلاء كانوا معروفين في البلد، وكانت عملية البناء قديماً تتم بالمساعدة أو كما كانت تسمى بـ (العونة).
أما البلدة القديمة في الخليل والتي تتميز بطابع خاص من ناحية الطراز الجمال لمبانيها وتنظيمها البنائي وأيضاً من ناحية أن أهلها مازالوا يسكنونها ما عدا بعض المباني التي سيطر عليها الاحتلال الاسرائيلي ومستوطنيه، ونترك الحديث عن تاريخها للسيد المهندس حلمي مرقة مسؤول الدراسات والتخطيط في لجنة اعمار البلدة القديمة في الخليل:" من تاريخ الخليل يتبين أن هذه البلدة بنيت في عهد صلاح الدين الأيوبي عندما دخل فلسطين عام 1178م، والشواهد على ذلك القلعة أمام الحرم الابراهيمي الشريف، وبعض الزوايا".
ويضيف:" هناك بعض المباني التي تعود الى العصر المملوكي ومنها: مئذنة جامع الشيخ علي بكا، ومصلى الجاولية الملاصقة للحرم، وهناك بعض الآثار التي تعود الى العهد الأموي مثل تسقيف الاسحاقية في الحرم... ومعظم المباني في بلدة الخليل القديمة والتي تشكل النسيج العمراني تعود الى الفترة المملوكية في الطوابق الأرضية، أما الطوابق العليا فتعود الى العهد العثماني... وهناك بعض المباني التي بنيت في عهد الانتداب البريطاني والتي تتميز بطابع حديث نوعاً ما".
وهكذا هي الآن:
يقول السيد خليل ابو عرام:" حتى عام 1970م كان في يطا حوالي 4000 مبنى قديم (عقد)".
ويضيف:" لقد تم ازالة أكثر الحارات واستبدل النمط القديم الجميل بالعمارات الاسمنتية، وعلى سبيل المثال أزيل 90% من حارة الشعابين مثل حوش ابو حلقة، وعليّة شريتح التي كانت مخفراً تركياً ويقام مكانها حالياً مسجد السلام ومدرسة الخنساء، وأزيلت عليّة الغافي والتي كانت مخفراً بريطانياً ليقام مكانها سوق... إن حوش عائلة أبو عبيد الذي لا زال صامداً رغم الاهمال وتهدم بعض جدرانه، وسرقة الكثير من حجارته من قبل لصوص الاثار لو رمم لظل شاهداً على شكل القرية الفلسطينية... وهذه المباني أو العقود تتعرض للضياع يوماً بعد يوم بسبب الاهمال، وكذلك الوساخ التي تحيط بها وتملؤها مما يجعلها وباء على السكان هذا بالاضافة الى التهدم التلقائي بفعل عوامل الزمان والطبيعة، والهدم المقصود من قبل أصحابها".
أما السيد يوسف المشارقة عضو المجلس البلدي في بلدية دورا فيقول:" أقل من 20% من نسبة المباني القديمة في دورا مازال موجوداً... هناك هدم تلقائي وهناك هدم مقصود من قبل أصحاب تلك المباني، ونحن لا نستطيع منعهم، كما أنه في المقابل يوجد عائلات ومنها طبقات راقية تسكن في هذه المباني ومنهم من بنى فوقها بعد أن استشار مهندسين أكدوا لهم أن تلك المبانى قوية ويمكن البناء فوقها، كما أن البلدية بالتعاون مع المواطنين أزالوا المباني الآيلة للسقوط والمهدومة جزئياً".
أما المهندس حلمي مرقة فيتحدث عن الوضع الحالي للبلدة القديمة في الخليل وما واجهته وتواجهه:" قبل الترميم والآن تعرضت البلدة القديمة للهدم التلقائي بفعل افراغ مناطق مثل المنطقة المحيطة بالحرم الابراهيمي الشريف وذلك لإظهار الحرم وقد تم ذلك زمن الانتداب البريطاني، وهناك هدم تلقائي بفعل عوامل طبيعية ومناخية، وزلزال عام 1927م الذي تسبب في دمار العديد من المباني والمدارس التي كانت تزخر بها مدينة الخليل حيث كانت هذه المدينة تشكل مع القدس منارة للعلم والعلوم الدينية والشرعية".
ويضيف:" أدى وجود بؤر استيطانية داخل البلدة القديمة الى وضع جسم غريب يخل بطابع النسيج العمراني الذي حافظت عليه البلدة لنقاء طابعها الاسلامي، وتعتبر مركزاً اسلامياً يأتي في المرتبة الرابعة بعد مكة والمدينة والقدس".
ويقول:" احتلال عام 1967م أدى الى افراغ العديد من المباني بسبب الهجرة الى خارج فلسطين، كما أن متطلبات العصر أصبحت لا تفي بالاحتياجات اللازمة، وخاصة لاستخدام المطابخ والحمامات التي أدت الى ظهورها كمستقلة داخل المباني، والاجراءات الاسرائيلية أثرت وتؤثر على هجرة باقي السكان، وهذه الاجراءات تشمل اغلاق المداخل، ومنع التجوال الذي كان يستمر أحياناً لمدة شهر، وأيضاً الاجراءات القمعية من تفتيش وحملات اعتقال، اضافة الى انتشار الأمراض الاجتماعية مثل الفقر، وقلة الوعي، وظهور المخدرات... وتعود المباني الى نظام الأحواش ويقطنها الساكنون بنظام الأسرة الممتدة حيث يسكن الجد مع الأب والأبناء وزوجاتهم (حوش)، وعندما كانوا يحتاجون الى غرفة فإنهم كانوا يبنونها فوق هذه المباني لامتداد الأجيال، أي بمعنى آخر أن طبيعة هذه المباني كانت ذات طابع "مباني أنوية النسيج العمراني".
الجهات المعنية:
يقول السيد خليل ابو عرام:" حاولت البلدية مع دائرة الآثار للبدء بالترميم لكن الدائرة لم تنه حتى ما التزمت به، وهي تتعهد من جديد لكن لا شيء يحدث على الأرض، والبلدية وحدها لا تستطيع ترميم المباني القديمة الا بتعاون من دائرة الآثار، وحتى هدم المواطنين لمباني قديمة تعود لملكيتهم لا يمكن للبلدية منعهم من ذلك... هناك مؤسسات مثل مركز رواق تعهدت ببناء بعض المباني المميزة وحتى الآن لم يحدث شيء".
وعن مستقبل هذه المباني فيما لو رممت قال:" هذه المباني لو رممت لجعلنا فيها مدارس لنحل مشكلة قلة الغرف الصفية في يطا".
أما السيد يوسف المشارقة فيتحدث عن دور بلدية دورا :" كان هناك قرار بلدي بإعطاء رخصة بناء- دون مقابل- للبناء مكان المباني الآيلة للسقوط وتساعد البلدية في ازالة الركام، ورأيي الشخصي أن وزراة السياحة والآثار كان عليها أن تهتم بالمحافظة على هذا التراث والمساهمة في كل القرى الفلسطينية بعمليات الترميم".
ويرى المهندس ماهر العواودة رئيس قسم الهندسة في بلدية دورا أن :" دائرة الآثار لم تطرح مساعدة، بل طلبت من البلدية المحافظة على المباني القديمة وعدم هدمها، وبقانون السلطة فإن البلدية لا تستطيع منع المواطنين من هدم مبانيهم القديمة، لكن هناك مباني قديمة جداً كمقام النبي نوح فإن البلدية تحافظ عليها".
وعن استغلال المباني القديمة في دورا فيما لو رممت قال السيد يوسف المشارقة:" ممكن أن نعمل فيها متاحف شعبية، أو دواوين، أو نوادي، أو مكاتب لمؤسسات خاصة".
أما البلدة القديمة في الخليل فإن وضعها يختلف وذلك لأن هناك عائلات تسكنها مما فرض وضعاً خاصاً يوضحه المهندس حلمي مرقة:" قامت مؤسسات كالبلدية، والأوقاف، ورابطة الجامعيين بمحاولات لإعادة إحياء البلدة القديمة، واقتصر العمل حينها على ترميم بعض القناطر وعمل دراسات لكيفية بناء البلدة، وهذه الدراسات ساهمت في اعدادها رابطة الجامعيين منذ بداية التسعينيات ولغاية 1995م، وفي هذه الفترة حتى هذا التاريخ كان هناك محاولات لترميم المساجد والزوايا قامت بها الأوقاف".
ويضيف:" في عام 1996م كان هناك قرار رئاسي بتشكيل لجنة الاعمار من مؤسسات للعمل تحت هذا المسمّى بإدارة الدكتور علي القواسمي وهي مؤسسة شبه حكومية، وقد شكلت مكتباً هندسياً قام بالاعتماد على الدراسات السابقة التي قامت بها رابطة الجامعيين، كما أن اللجنة وضعت آلية للحد من التوسع الاستيطاني، والحفاظ على الطابع التقليدي للبلدة القديمة، وإعادة تأهيل المباني القديمة لاستخدامها كمبانٍ سكنية، وتوفير الخدمات من بنية تحتية، وحدائق، وحدائق عامة، وحدائق أطفال".
وعن الدعم لعمليات ترميم البلدة القديمة قال المهندس حلمي مرقة:" في البداية الحكومة الفلسطينية، ثم البنك الاسلامي، والحكومة الاسبانية، والحكومة السويدية، والحكومة الالمانية، وهناك بعض المشاريع الصغيرة مثل التواجد الدولي TIPH، والحكومة النرويجية، وهناك اللجنة الأهلية التي تعتبر تضامنية فقط ".
ماذا عن دائرة آثار محافظة الخليل:
في مقابلة مع مدير دائرة آثار الخليل السيد محمد غياظة قال عن دور الدائرة:" يوجد توجه في دائرة الآثار والتراث للمحافظة على نواة البلدات القديمة، وقد شمل هذا التوجه بعض المدن التاريخية، وبعض المباني المميزة، وكانت الخطة مع بداية السلطة هي مشروع ترميم حارة المخامرة في يطا، وقد قمنا بترميم مسجد قديم في دورا، ومقان النبي متى في بيت أمّر، وحمّام سيدنا ابراهيم في الخليل... وبالنسبة للمقامات فهي محمية بقانون الدائرة إلا أن يطا للأسف قامت بنسف المقام وبنوا مكانه مدرسة رقعة".
وعن البلدة القديمة في الخليل قال أن لها خصوصية معينة.
أما عن سياسة الدائرة وطبيعة عملها قال:" سياستنا في الدائرة هي أننا نعتمد على طلب الأهالي وأصحاب المباني من الدائرة لترميم هذه المباني، ولا نقوم بترميم مبانٍ لأفراد".
وعن اجراءات الدائرة ضد من يدمرون ويهدمون المباني القديمة قال:" نحن نعمل وفق قانون 1966م الأردني، والذي يعاقب بالسجن لمدة تتراوح من 3 شهور الى سنتين أو غرامة أقصاها 500 دينار إلا اذا كان هناك توصية من الدائرة لفرض عقوبة معينة فإن الوضع حينها يختلف، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه لا يوجد أشخاص يهدمون بيوتهم القديمة، فهي ملكهم، ولكننا نمنع حدوث ذلك قدر الامكان، خاصة عندما يكون هناك مبانٍ مميزة".
وعن مشاريع حالية قال:" قبل شهر تقريباً حضر مدير دائرة تطوير المواقع الأثرية السيد أحمد الرجوب، ومهندس المشاريع محمد ذياب بتنسيق من دائرة الآثار في المحافظة، ومدير عام دائرة الجنوب السيد محمود جبارين، وأوضحوا أنه يوجد مبانٍ بحاجة الى ترميم، وهذه المباني والمواقع التي تم ترشيحها ليتم ترميمها في انتظار الميزانية من الوزارة لنقوم بعملنا".
وبعد هذا التوضيح لوضع المباني القديمة في محافظة الخليل حالياً وما تقوم به الأطراف كافة فإن كل طرف يظهر حرصه على هذا التراث الأصيل، ولكن منهم من يدعي قلة صلاحياته كالبلديات، ومنهم من يدعي قلة الميزانيات وبعض الصلاحيات كدائرة الآثار التابعة لوزارة السياحة والآثار، ويظهر- حقيقة- مما تم التوصل اليه خلال المقابلات أن الجميع مسلم للأمر الواقع كون معظم المباني تتبع ملكيتها لأفراد ولا يوجد قانون صارم من وزارة السياحة والآثار يمنع ويعاقب كل من يقدم على هدم أو تخريب المباني القديمة، ولكن طلب الجماعات من الدائرة بترميم مباني معينة فإنه يجعلها في قائمة المباني المنتظر ترميمها ولكن بعد توفر الميزانية الكافية لذلك.