الإثنين: 14/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

أنت وأنا وثالثنا سجّانك - بقلم صابرين عبد الرحمن

نشر بتاريخ: 20/03/2007 ( آخر تحديث: 20/03/2007 الساعة: 21:41 )
رسالة إلى أسير متّهم بأنه فلسطيني، قبل أو بعد أن تصله رسالتي، ربما ستقع في يد سجّانه، لكن ذلك السجّان أبداً لن يفهمها.

إن كان للادّعاء أن يتحول إلى حقيقة، فسأدّعي أن غيابك لثلاث سنين لم يكن إلا قرباناً لآلهة الهطول، قرباناً يحفظ رياض عينينا من التصحر، بعد أن أجبرك سجّانك على أن لا تفي بوعدك لي بأن نروي رياض عينينا بهطول صاخب، سنستقبله معاً في الشتاء الذي كان قادماً قبل ثلاث سنوات.

يا رجل الغواية والشغب، و"مساءات كالقهوة التي ترشُفها ترسلها إليّ"، يا لون الحنطة وعينيّ اللوز، ويا شامة لم تحتمل غوايتك فضلَّت طريقها وسكنت عنقَك، وشعرة بيضاء كانت وحيدة تتيهُ بدلالها، أسألكُ إن كان السجن قد تسبّب بإنجابِ أخواتٍ لها؟

أنت هناك، وأنا هنا، وأدرك أن المسافة التي تفصلني عنك وتفصلك عني ليست مسافة فراق، إنما مسافة نضج، مسافة اشتياق، ومسافة نمو، وحرية حتماً لا يدركها سجّانك، فقد باعها واشترى بثمنها إلهاً يعبده أسماه السجن، وادّعى أنك السجين وأنه الحر!

كنت أريد أن أسألك في آخر هاتف لك إن ما تزال -كما كنت دوماً- تشتاق لدهشة رسائلي، فقد أعادني قربك، وودّك، وحنانك في تلك المكالمة لتلك الليالي التي كنت تمسك فيها جهازك النقال، وتدغدغ أزرار الجهاز لترسل لي: "أشتاقُ لدهشةِ رسائلك"، عبارة من ثلاث كلمات فقط كانت توقظُ نومَنا، فتأبى الساعةُ الواحدة والثانية والثالثة فجراً إلا أن تحرس سهرَنا، حتّى نطفئ قناديل الليل بعبارة: ليلة طيبة، انتظاراً لدهشة أخرى، في مساءٍ آخر.

كم كانت تلك الليالي طيبة، وكم كنت ماهراً بالعزف على أزرار الجهاز، لترسلَ لي لحنَ سناتوري، فلا أملك عندها إلا أن أستأذنَ زوربا وأرقص رقصته البدائية، وهل يحتاج زوربا لاستئذان؟

أتذكّرُ الآن عندما أبرقتَ لي ذات ليل: "نحن لا نرى الأشياء، لكنها كانت في مدى الرؤيا فرأيناها"، أجبتك: يا ويلنا إذن لأشياء جميلة ليست في مدى الرؤيا! وعندما زارني غيابُك، أدركتُ فجيعةَ أن لا يكون جمال وجهك في مدى رؤياي، أأقول يا ويلي إذن؟

تحمل لي بحّةُ صوتك عبر الهاتف كلّ هذا الكمّ من الودّ والقرب، وبذهول من يدرك الفجيعة بنقيضها، أدركتُ أنه الغياب، الغياب حقاً، فهل لي بعد ذلك أن أستيقظَ على رسالتك كما حدث في ذلك الصباح الضبابيّ عندما همستَ لي: "ثمة جماليّة للضباب"، أزلتُ ستائر نافذتي، لقد رأيت قطرات الندى يركضن شقاوة وشغباً عبر المدى، يرفضن السقوط، فالحرية هي مداهنّ الذي ينشرن فيه مرحهنّ وعشقهن وشقاوتهن.

رأيت عبر المدى قطرات يسمعن الموسيقى، ويقرأن الكتب، ويلعبن نط الحبل، ويواعدن أصدقاءهم في مقاهٍ مفتوحة لا زوايا فيها ولا كاميرات ولا عيون فضولية. في تلك اللحظة، شعرت بحبك يعانقني وشعرت بنفسي أعتنقه، فأرسلتُ لك: لأنّه دائماً يحمل نكهة الحب. من منزلك، ومن منزلي، ورغم المسافة، تبصر عينانا عبر المدى قطرةً صادقناها ذات يوم من أيام الدراسة، اعترفنا لها بحبنا، ولأنّها حرة، أدركت أن حرية كل منا هي التي تغذّي عشقه للآخر ولحرية الآخر، لوّحتْ لنا القطرةُ بيديها، نبتسم لها، نلقي إليها تحيةَ الصباح، وتدعوني "لأحتسي القهوةَ معك إجلالاً لتلك النكهة".

في هذا الشتاء الذي يسكنه غيابُك، أخشى أن أزيل ستائر نافذتي، فأيّ نكهةٍ يحمل ضبابُ هذا الشتاء؟ أتوسّد ذراعي، أحاول أن أمتهن اللصوصية لأسرق لحظة غفوٍ كتلك التي تسكن جفون من لا يعرفون للجنون وللعشق سبيل، لحظة غفو واحدة، أبصرتُ فيها القطرات تتدلى مشنوقة بذات الحبال التي كانت تقفز بها، تتدلى مشنوقة من غيمة باكية بصمت، المقاهي المفتوحة أضحت مغلقة، وصفحات الكتب تعبث بها الرياح، والموسيقى تستجدي صوتها المبحوح.

كان هاجس فراقك يؤرق نومي منذ همستَ لي في ليلةٍ متوترةٍ سبقت غيابَك ببضع أيّام فقط، همستَ لي: "أتذكرين: ثمة جمالية للضباب؟"، أجبتك بجرأة لم أعهدها بنفسي: بل أذكر نكهتها التي احتسينا القهوة إجلالاً لها في ذلك الصباح. أدرك أن جرأتي لم تزعجك، فمثلُك فقط من يتفهّم حرية المرأة، تهمس لي مجدداً: "الليلة ثمة ضبابية للمساء"، تساءلت في نفسي إن كان هذا المساء الضبابي يقلقك؟ وأضفتَ وكأنك تسرُّ لي: "كانت وطنيتي أقوى من عاطفتي في السنوات الأخيرة، لكن سامحيني لأنني لم أجعلك تعرفين من قبل"، تتزاحم الأسئلةُ في رأسي، يسكنني الصّداع، فهل كنت تهيئني لغيابك؟ وهل لي أن اختار أن أسامحك أم لا؟ وكيف لا أسامحك وعشق الوطن هو من علّمك كيف تعشقني بكلّ هذا الرقي، والمهارة والتهذيب، وكيف لرجولة لا تعشق الوطن أن تتقن عشق امرأة؟ وكيف لامرأة مثلي أن لا تشتاقك رجلاً لم يقزّم عشق الوطن بحجم عشقه لامرأة، لكنه عملق عشقه لامرأة بحجم عشقه للوطن.

صديقي، ما زلت وفية لستةِ أوتارٍ في عودنا الذي اشتريناه معاً، منذ ثلاث سنوات وأنا أكرر عدّها لأطمئن أنها ما زالت ستة، وما زلت على قناعتي بأن الوتر السابع عبث ما دام السر يكمن في أصابعك.

صديقي، منذ ثلاث سنوات، لم يدهشني أحد بردٍّ يشبه ردَّك عندما أطفأتُ قنديل ليلي مرة وأرسلتُ لك: ليلة طيبة، فأدهشْتَني بردِّك: "ولكِ أيضاً طيبةُ الليل"، سأطفئُ قنديل ليلي باكراً هذه الليلة، وأدّعي أنّ سجّانك سينتحر قريباً، لعلّ ادّعائي يتحول إلى حقيقة، وحتى يحدث ذلك، لك صديقي طيبةُ الليل.

[email protected]