"جزيرة فاضل"... قرية فلسطينية على أرض مصرية
نشر بتاريخ: 18/05/2013 ( آخر تحديث: 18/05/2013 الساعة: 09:43 )
رام الله - معا - على يمين الطريق الزراعي المتجه إلى مدينة فاقوس بمحافظة الشرقية المصرية، ينتصب سور طيني طويل يحيط بمنطقة تسمى "جزيرة فاضل"، يسكنها حوالي 3 آلاف مواطن فلسطيني، هُجروا من مناطق مختلفة في فلسطين إبان حرب 1948، ورحلوا رغماً عنهم تاركين خلفهم ديارهم.
أخذهم طريق البحث عن لقمة عيش في غياهب الزمن، وفي قرى ونجوع مصر قبل أن يستقروا واحداً تلو الآخر في قرية مصرية صغيرة اسمها "جزيرة فاضل" أو "جزيرة العرب"، لا يعرفون من هو فاضل، لكن استقرت أسر من المهجرين في هذا المكان وتبعهم فلسطينيون آخرون حتى تحول تجمعهم إلى "قرية فلسطينية فى المهجر".
أربعة أجيال مرت على الجزيرة، وما زالت تعاني من مشاكل الفقر والأمية وانتشار الأوبئة لتصبح إحدى قرى الدلتا، التي تنافس نجوع الصعيد على لقب أكثر القرى فقراً، الجيلان الأول والثاني من المهاجرين حافظا على العزلة بالزواج من فلسطينيين فقط، لكن الجيلين الثالث والرابع بدءا بالاختلاط عبر الزواج من مصريين ومصريات.
بين الممرات الطولية التي تشكل هيكل القرية كان محمد سالم "22 سنة"، أحد شباب القرية الأميين، يسرع الخطوات إلى بيت العمدة، ممسكاً فى يده نسخة من جواز سفر والدته وإثبات هوية بعض السيدات ليعطيها إلى عيد سالم، المتعلم الوحيد في الجزيرة، الذي يتعامل مع السفارة الفلسطينية بالقاهرة، ليطلب منه التدخل بعد انقطاع المعاش عن نسوة الجزيرة، 250 جنيهاً كانت تشكل سنداً لكل بيت بجانب الجنيهات القليلة، التي يتقاضاها كل فرد شهرياً في الجزيرة من عمله في جمع المحاصيل أو جمع وإعادة تدوير القمامة.. هما الوظيفتان المتاحتان لأغلب أبناء الجزيرة من الرجال والنساء والأطفال.
تتكون القرية من عدة ممرات من الطوب الطيني، تفوح من الشوارع رائحة العطن والقمامة التي يجمعها أهل القرية لتدويرها وإعادة بيعها، لكنها تتميز عن باقي قرى الدلتا بخلوها من أية ماشية أو طيور أو مدارس أو وحدة صحية.
في الطريق إلى بيت والدة محمد سالم، داخل أحد ممرات القرية، بيت مبني من الطوب اللين، يتكون من غرفتين مظلمتين إحداهما أثاثها حصيرة وبطانية ومخدتان على الأرض للنوم وبعض زجاجات المياه المنثورة على الأرض، والأخرى بها سرير متهالك وبعض الصناديق الورقية وأجولة من الزجاجات البلاستيكية.
أمام البيت افترشت مريم سعيد حماد، إحدى القادمات إلى الجزيرة مع الجيل الأول المهجّر منذ الاحتلال فى 1948، حصيرة.. امرأة في منتصف العقد السابع ترتدي جلباباً وحجاباً بسيطاً، لا تتذكر مريم عمرها بالتحديد، ولا تمتلك أوراقاً تثبت هويتها، لكن أول ما وعَتْه في حياتها كان مشاهد تهجيرها مع والديها إبان النكبة.
قدموا إلى مصر، طافوا عدداً من المحافظات بحثاً عن لقمة العيش إلى أن استقروا في الشرقية، بإعياء شديد وبحة صوت فى حلقها تقول مريم: مخليناش بلد غير لما رحناها، لفينا بلاد كتير، كنت صغيرة وقتها، وكنا بندوروا على المعاش.
استقر بأهلها المقام في جزيرة فاضل، وتحولت بعد ذلك إلى مسقط رأس أولادها وأحفادها بعد أن تزوجت وأنجبتهم: بيقولوا كنا من الجبل، لكني مش فاكرة جبل إيه، معرفش قرايبنا أبداً، عجزنا يا وليدي.
الفقر وبحثها عن حد الكفاف واهتمامها بأولادها طغت على اهتمامها بالشأن الفلسطيني، كل ما تعيه من الاحتلال هو الحرب فقط، لكنها لا تعلم شيئاً عن التهويد أو رفع العلم الإسرائيلي على أسوار القدس.
وسط حديثها أمسكت عصاها بيدها اليسرى تنهر الأطفال الذين تجمعوا حولها، صائحة فيهم: امشوا.. انزاحوا، المشاكل التي تعاني منها مريم مالهاش عدّ، مضيفة: هقولك إيه يا ولدي، المشاكل كتير، العيا والمعيشة، بقالي 15 سنة عيانة، وقاعدة هنا على الأرض، الحمد الله دلوقتي قدرت أقف على عصاية، لكن ما فيش دكاترة بيجولنا، ولا نعرف الأدوية.
أولادها الثلاثة لم تتحسن ظروفهم نسبياً مقياساً بالجيل الأول القادم بعد التهجير، نفس الحرف باقية والفقر لا يترك أحداً، تضيف مريم: العيشة هي اللي صعيبة وربنا أعلم، نوبة بنشتغلوا فى جناين ونوبة بنشتغلوا في الخردة.
بعدها بخطوات فى الطريق تسكن نافلة حسين سالم، إحدى المتبقيات من المهجّرين الأوائل بعد النكبة، داخل الدار الأسمنتية الخاوية من الأثاث تجلس على قطعة من الخيش ممسكة قماشة لطرد الذباب الذي يملأ المكان، وعلى يمينها زجاجة مياه بلاستيكية، ربما يكون احتياجها الوحيد هو الماء في المنزل شبه الخالي من الطعام.
تستقبل من يدخل عليها الدار بوجه تملؤه التجاعيد، ضعف البصر جعلها تدقق النظر في الضيوف، كأغلب نسوة جيلها في القرية، لا تتذكر عمرها بالتحديد، تقول ربما 70 أو 80، توفي والدها وقت الحرب، وهُجّرت مع أمها وهي صغيرة وجاءت إلى مصر، طافت عدداً من محافظات الدلتا لكنها استقرت في النهاية هنا في القرية.
بصوت يغلب عليه الإعياء تحكي بلهجة مصرية خالصة: أني اتولدت فى فلسطين، وقتها كنت صغيرة، رحلنا إلى السنبلاوين في البداية، وبعدها جينا نسكن هنا في جزيرة فاضل، وقتها لم يحاول أحد مساعدتنا، جايز حالة الفلاحين وقتها ماكانتش تفرق عننا لأنهم كانوا تحت الاحتلال الإنجليزي.
وتضيف: لم نجد أحداً يهتم بنا، أحضرنا حطباً وبدأنا نبني بيوتنا لما جينا على الجزيرة واتجوزت وخلفت ولد.
نافلة سالم: والدى هرب إلى السنبلاوين قبل الاستقرار في الشرقية، وتمام سليمان: ما نعرفش قرايب في فلسطين لكن بنحلم نرجع بلدنا.
يرعى نافلة ابنها الوحيد حسان أبو محمد، تتذكره باكية بعد انقطاع معاشها: ابني بيشتغل وبيوكلني دلوقتي بعد ما مراته روحت، منذ أسابيع تركته زوجته هرباً من الفقر وقسوة العيش، وعادت إلى بيت أبيها في إحدى القرى المجاورة.
لا يختلف حال مريم ونافلة عن سكان القرية، حتى الأجيال الجديدة منهم، تفتقر بيوت القرية إلى الخدمات، حيث تتكون من غرفة أو غرفتين، بعضها ما زال طينياً والبعض من الطوب الأحمر المتراص فوق بعضه ببساطة، والبعض من الطين والطوب الأحمر، لكنها خالية من الخدمات والصرف الصحي كما يقول سلامة سيد حسين "34 سنة": كل ساكن قام ببناء خزان تحت الأرض بجانبي كل 10 أو 20 يوما يأتي الجرار لكي يصرف المجاري بعشرين جنيه للنقلة، حيث ان هناك بيوتقامت بالاشتراك في الخزان لتوفر 10 جنيهات.
بيت صغير من طابق أرضي يرتفع عن الأرض بأربعة سلالم، تجلس أمامه فرحانة سليمان محمد الناموسي وسط أحفادها، واضعة على رجلها طبقاً معدنياً صغيراً تلتقط فتاته لتطعم طفلة منهم.
فرحانة ابنة لفلسطينيين تزوجا في فلسطين ورحلا بعد الاحتلال بأشهر قليلة ورزقا بالطفلة في جزيرة فاضل، فتزوجت وأنجبت 8 أولاد.
السيدة العجوز كانت تعتاش على 250 جنيهاً قيمة معاش التضامن، الذي أقره الرئيس السابق حسني مبارك، قبل أن يتم إلغاؤه عقب ثورة يناير بنحو 13 شهراً، فأضاف أزمات اقتصادية أكبر على العائلة.
بابتسامة راضية قالت: كنا بنقبض معاش والعملية ماشية، وبعد ما حسني مشي قعدنا نقبض سنة وبعدين قطعوه عننا، تضيف مازحة: بيقولوا محمد مرسي هو اللي قطع علينا القبض، وقطع المعاش على كل الفلسطينيين.
معاناتها زادت بعد وفاة الزوج، اضطر ابنها محمد للعمل فى جمع القمامة وترك المدرسة لتوفير قوت يومهم، لكن حملهم زاد بعد وفاة زوج إحدى بناتها ابتسام في حادث تصادم على الطريق حين كان يجر عربية كارو، تجمع القمامة من على الطريق الزراعي، ومرضت ابنتها الصغيرة بالغضروف فتركها زوجها وراح يقرا فاتحة على بنت في قرية سنجها المجاورة.
تشكو حالها وحال القرية: معايا 8 عيال ما عارفة أوكلهم منين. كل الأرامل والمطلقات هنا انقطع عليهم القبض، وعملنا بلاغات ومافيش حد سائل فينا. بنتي اللى جوزها مات في حادثة عربية وسابلها ابن بتجمع لمون فى الجبل بـ15 جنيه في اليوم عشان توكله، والتانية حداها غضروف وعندها فتاء، عاوزة كل يوم جلسة كهرباء، وقالوا عاوزة عملية بـ20 ألف، أجيبهم منين؟ عملتلها أشعة في أبوكبير بـ250 جنيه استلفت عشان أوفرهالها.
لا تزال فرحانة تحتفظ ببطاقة التموين التى كانت تحصل بها على بضع سلع غذائية كانت تعينها على توفير قدر من مستلزمات البيت، قبل أن يتم إيقاف التموين عنهم مع المعاش.
في آخر الحارة تسكن مريفة سالم بركة زيدان، توفي ابنها سالم في حادث تصادم على نفس الطريق الذى توفي فيه زوج ابنه فرحانة، اثنتان من بناتها تعملان في جمع المحاصيل فى الجبل.
مريفة لا تسكن هي وأولادها وحدهم في البيت، تشاركها تمام سليمان مرازيق، كلهم يجمعهم - دون باقي أهالي القرية الذين التقيناهم - تمسكهم بحلم العودة إلى فلسطين، رغم عدم مغادرتهم الشرقية منذ أن ولدوا فيها، وهو ما جعل مريفة لا تقبل إلا بزوج فلسطيني عند زواجها، تقول: خد تمساح ولا تاخد فلاح، لكن الأجيال الجديدة لا تفرق بين مصري وفلسطيني في مسألة الزواج بحسب مريفة.
تجلس تمام أمام المنزل واضعة أمامها موقداً ريفياً انتهى استخدامه في معظم القرى، يسمى كتانون، تسخن عليه أرغفة عيش قديمة يلونها العفن بلونه الأخضر المعروف، هي لا تمتلك سوى هذه الأرغفة لتأكلها. تحكي: أبويا وأمي فلسطينيين لكن ما أعرفش أي قرايب لينا هناك، ياريت نرجع وطنّا.. يا ريت.
التعليم والصحة.. أطفال مرضى وأميون
لا يختلف حال التعليم عن حال الجزيرة المتدني، أقرب مدرسة إلى الجزيرة على مسافة 3 كيلو متر، ولا تزيد نسبة التعليم في الجزيرة على 10% من إجمالي سكان القرية، حسب تأكيد عدد من أهالي القرية.
لا يجد الأطفال حلاً لفقرهم وفقر آبائهم سوى الانقطاع عن المدرسة بعد عام أو عامين دراسيين، يعملون بعدها في جمع القمامة والخردة.
عقب آذان الفجر يخرج الطفل بحثاً عن كل زجاجة بلاستيكية في المنطقة التي يشتغل عليها في القرى المجاورة، وبعد نهاية العمل يجلسون في ممرات القرية للعب الكرة أو مشاهدة من يلعبون الكرة.
كريم 12 عاما، لم تمكنه ظروف أبويه الاقتصادية من دخول المدرسة، فلجأ إلى العمل جامعاً للزجاجات البلاستيكية، أما أحمد خالد سليمان 14 عاما، فكان أكثر حظاً إذ استمر في التعليم حتى الصف الأول الإعدادي، قبل أن يخرج لمساعدة أبيه في العمل كجامع للقمامة.
وعلى الرغم من ذلك، يقول ياسر عارف، أحد شباب القرية الأميين، ذو الثلاثين عاماً إن الجيل الرابع من القرية محظوظون أكثر من سابقيهم، حيث في السابق: كان التعليم وقتها مقتصراً على المدراس الخاصة ذات المصاريف بالدولار، وهو ما تسبب في عدم دخولهم المدارس أصلاً، لكن الآن أصبح الأمر أسهل، فأطفال القرية يمكنهم التعليم في المدارس الحكومية، لكن نواجه شبح الروتين وصعوبة الحصول على الأوراق، بالإضافة إلى المصاريف.
يريد سلامة تعليم أطفاله الأربعة تهاني وسيد وشادية وأحمد، ويقول: المشكلة في توفير ورق التقديم بالإضافة إلى مصاريف المدارس.
يقول بهاء علي، أحد شباب القرية: هناك مرض ظهر مؤخرا بين الأطفال يحدث تورّماً شديداً في الخدين مسبباً سخونة فى الجسم واحمرار الوجه، ثم ينتقل الورم بعدها إلى الخصيتين محدثا ألما شديدا، سمعنا أن اسمه الغدة النكافية، ويضيف: الوباء لو طلع بره الجزيرة هيهتموا بيه، لكن لا أحد يهتم طالما أنه هنا.
نقلا عن صحيفة "المصري اليوم"