الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

من سجن عسقلان الى بحر غزة...تحية ساخنة بقلم: عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 16/08/2005 ( آخر تحديث: 16/08/2005 الساعة: 15:34 )
لا شيء ثابت...لا المؤبد ولا المستوطنةُ ولا "فتيان التلالِ" ولا الكهنةُ لأنه ليس كل انتصارٍ يحملُ الجدارة...وليس شرطاً إِنْ حملت الطائرات والقنابلُ نجمة داود سوف تشكل ضماناً ابدياً لأمن اسرائيل ولحدودها المتحركة.
ها هم خرجوا...مزقوا اجنحة الاسطورة العصرية، توقفت المزامير السبع والبكاء على الحائط في التاسع من آب العبرية لينهض الواقع وتتبخر الخرافة بعد ان وضع شارون الاسطورة في علامة الاستفهام.
بدأوا يفككون القيود عن الاسماء، الزنزانة صارت حرة...وكل أسير تزوج امرأةً تسمى غزة...الشاي والقهوة والسجائرُ والأغاني تملأ قارب الأسرى المبحرين بأحلامهم إلى غزة.
الان وبعد ثمانية وثلاثين عاماً من الاحتلال وتسعة وعشرين عاماً من الاستيطان، أُغلق الحاجز وانتهى حلم دولة اسرائيل الكاملة، ولم تغرق غزة في البحر كما تمنى رابين وقادة اسرائيل.
الان يتعرف المكان على صدى المكان...السجان بعيداً...والارض تتنفس بين كفينِ طليقين بعد ان عادت الحيطان الى الصخور وتحول السقفُ الى سفينة والقيدُ الى قلم وسنوات الملحِ الى حبات رملٍ وبدأ صوت الماء يدب في الاجساد.
هنا على ساحل البحر الابيض المتوسط حيث مات السيد هاشم بن عبد مناف جدّ الرسول وفيها ولد الشافعي وسجن معين بسيسو واستشهد احمد ياسين وتنبأ فيها ابو جهاد بالبرق والعاصفة، وقال فيها الامراء والرحالةُ والسلاطين والشعراء والخطباء: بأنها ارض مبسوطة لطيفة غير مسوّرة، اهلها طيبون، تفوح منها روائح البرتقال، ذات تربة خصبة من الغرين والصلصال والرمال، تتجمع الامطار في اوديتهاالاربع، وقال عنها الاسرائيليون: من السهل احتلال غزة ولكن من الصعب جداً السيطرة عليها...
هنا بدأ الهواء القادم من الزنبق في شاطئ غزة...ومن شجر السدر والخروب ومن شجر الجميّز ومن السمك الذي يلعب فوق الرمل لعبة الطفل الذي يختفي في فم الموجة...بدأ الهواء يهب في اقسام وغرف ومردوانات سجن عسقلان...

ولأول مرة يشعر السجان انه مخدوع طوال هذه السنين...ظل واقفاً في خريفه ونصوصه يحمل كرباجاً ويقرأ تلموداً لا يحس بالريح وهي تنقل الأغاني الى مناقير العصافير وأمواج البحر.

ولأول مرة يشعر قاضي المحكمة العسكرية انه مخدوع...فالاسير الذي ارسله الى آخر الحياة حاملاً حكم القيامة عاد مع اول طلعة شمس في يده برتقالة غزاوية تشبه ضحكة الفجر.
لماذا اذاً كانت الحربُ؟؟ سأل السجان القاضي وهو منهمك في إزاحة السياج وتفكيك أبراج المراقبة وغسل الصرخات عن الجدران استعداداً للرحيل.



لقد انفقنا الكثير الكثير من اجل ان يستوعبنا المنفى الجديد، اقفلنا باب الحكمة وباب الزنزانة، قلعنا الشجرة وغيرنا المعنى وعشنا على ارض الهواجس غارقين في دمهم واشباحهم.



كم مرة سنخرب "البيت" ونرحل ولا نجد الهيكل...جئنا الى هنا كي نخرج لأن دمهم اذا ما فتّح عيناه فينا سوف يعرفنا ولأن ذبذبات البرق في ارواحهم اذا ما انفجرت ستعيد اغترابنا...الى اين نذهب ايها الملك؟



لم نقتنع ان للزنزانة بابانِ وان السلام معهم ينجينا من تيه الصحراء واكاذيب الكهان...لقد اضعنا الحرب واضعنا السلام واصبحنا خارج السنة العبرية وخارج غزة.



ظل البحرُ يقترب من نوافذ سجن عسقلان، ثمة اغنية قديمة ودبكة خلف الاسوار

نعم لن نموت...نعم سوف نحيا

ولو اكل القيد من عظمنا

ولو مزقتنا سياط الطغاة

ولو اشعلوا النار في جسمنا

نعم لن نموت ولكننا

سنقتلع الموت من ارضنا



يسقط المطر في آب...والدخان الذي كان يتسرب من اصوات المعتقلين ومن عظامهم قد اخذ يتلاشى في الماء.



وبدأت السفينة تنزل البحر...صحفيون، اعلامٌ، بلالين، اطفال، صيادون، مناديل تصير اشرعة، وكل شهيدٍ يصير قبطاناً...ينزل الدم الى الماء.



ويبدأ الاسرى بالسفر الى غزة هاتفين:

عسقلان...عسقلان...عسقلان

سطر التاريخ قل يا عسقلان

في لهيب الدم حدث يا زمان

عن رجال من جباهٍ لا تهان

وقد يكون الحر في القيد اسير

وتكون الارض ناراً لا عبير

نحو ارضٍ...نحو حقٍ...لا يهان

عسقلان...عسقلان...عسقلان



تعانق الأرضُ الأرضَ...يورق الجوع لأول مرة...اشجارٌ تشاهد ظلالها...غدٌ يطرق البابَ يُسمي الاسماء الرباعية للاسرى دون ارقام...شوارع تخرج من الاضلاع...مدن وقرى تستفيق من الغياب: بيت لاهيا، رفح، خانيونس، دير البلح، اسدود، عسقلان، جديدة، مجدل، جرجه، الجيتين، تل الصافي، بيت جبرين، بيت دراس، بربرة، السلقة، عجور، قطرة، كريتا، ياسور، يبنا، ملاقس، السكرية، عمورية، العنصر...



ولم يتوقف العائدون والمسافرون...ارتفعت الاغاني حتى لامست خاصرة السماء ثم نزلت واعتذرت لكل المخيمات وللوقت الذي ضاع في الحرب...



لماذا يعني الأسرى هذا اليوم؟؟ يوم رحيل الاحتلال والاستيطان والليل عن قطاع غزة...انه يعنيهم شخصاً شخصاً...انه يوم شخصي لكل اسير، لأن قمراً قد اطلَّ عليهم يوم الانسحاب اخبرهم ان للاغنية بقية:

يا رئيس

انا في السجن اغني ليل نهار

احملُ امتعتي

جوعي...صور اولادي

انتظر القرار..

اغني للقدس

واغني للضفة الغربية

لأي موجة

حينما تومضُ في عيني غزة...