الأربعاء: 13/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عندما ينقلب العُربان رأساً على عقب - بقلم د. فيصل القاسم

نشر بتاريخ: 17/08/2005 ( آخر تحديث: 17/08/2005 الساعة: 10:39 )
معا- من حق أي إنسان أن يعيد النظر في توجهاته وأفكاره وآرائه ومنطلقاته، فهذا أمر صحي.

وقد قال أحد الفلاسفة الفرنسيين:" إن الجدران وحدها لا تغير مواقفها". والبعض قال:" الحمير وحدها لا تغير آراءها". لكن شتان بين إعادة النظر في بعض المواقف بهدف التصحيح والمراجعة وتسديد الخطا وبين الانقلاب الجذري على كل الآراء والقيم والعقائد والتوجهات السابقة مجاراة للظروف والمصالح. فهذا ليس أمراً سليماً بل يكاد يكون نوعاً من المرض الفكري والتذبذب الجنوني والانتهازية الفاضحة. ولو نظرنا إلى التحولات التي طرأت على مواقف بعض الكتاب والمفكرين والنشطاء السياسيين العرب لوجدنا أنها أقرب إلى البهلوانية السيركية منها إلى التطور العقلاني.

في بداية العقد الأخير من القرن الماضي فاجأنا كاتب صحفي كبير كان محسوباً على أوساط المفكرين والمثقفين المرموقين بالقفز من المعسكر اليساري المنافح ضد "الصهيونية والإمبريالية" والمناضل من أجل تحرير الشعوب من النير الاستعماري إلى "قرنة" المطبعين فأصبح على حين غرة من أنصار السلام والتطبيع مع إسرائيل، لا بل توج شغفه المفاجئ بالسلام بإجراء جولات مكوكية إلى إسرائيل مثيراً بذلك دهشة واستغراب الجميع، وكأنه اكتشف فوائد السلام على حين غرة. ولو لم تخطفه يد القدر لمسح بقية المطبعين عن الساحة، فقد كان أكثر منهم وزناً وفكرا وتأثيراًً.

ولم يكتف صاحبنا باللف مائة وثمانين درجة والانقلاب على كل قيمه وأفكاره اليسارية بل أصبح ضيفاً دائماً على المهرجانات الثقافية التي تقيمها بعض الأنظمة العربية التي كان يعتبرها ذلك الكاتب في السابق رمزاً للقروسطية الثقافية والسياسية. بخفة عجيبة نقل البندقية من الكتف الأيسر إلى الكتف الأيمن، وليته كان أيمن فقط بل في الحضيض اليميني.

وهناك كاتب آخر بدأ قومياً ثم انقلب إلى الماركسية، لكن انقلابه لم يقف عند حد، فما أن رأى الخميني يطيح بالنظام الشاهنشاهي في إيران من خلال ثورة شعبية عارمة حتى لعن الساعة التي قرأ فيها كتاب "رأس المال" لكارل ماركس. وربما شعر صاحبنا أن الإسلام الشيعي أكثر قدرة على إنجاز الثورات من الفكر الشيوعي الذي طالما حلم المنتسبون إليه بثورات بروليتارية تحرر العالم من الظلم والاضطهاد. لقد بدل صاحبنا الشيوعية بالشيعية. لم لا، فالفرق بين الاثنين حرف واحد فقط، فاحذف حرف الواو من شيوعي فيصبح شيعي؟ ربما لهذا السبب استسهل صاحبنا النقلة وراح يطبل ويزمر للخمينية حتى بح صوته والتوى قلمه. وقد ظن البعض أن الكاتب الذي انقلب رأساً على عقب كلاعبي السيرك سيستقر على خطه العقائدي الجديد. لكن فجأة ومن دون مقدمات بدأ يلعن الساعة التي هلل فيها لمجيء الخميني، فدار دورة كاملة وراح يفكر بعقيدة فكرية جديدة بعد أن سئم من التوجه الثورجي الإيراني.

وجدتها، صاح بأعلى صوته، وجدتها. إنها الليبرالية الجديدة. لاحظوا ذلك الانقلاب الخرافي من أقصى اليسار إلى الخمينية إلى اليمينية الرأسمالية المتوحشة . ومنذ ذلك الحين والكاتب السيركي يؤلف الكتاب تلو الآخر ضد كل الثوار والثائرين. لقد أصبح كل من يرمي حجراً صغيراً على الإسرائيليين إرهابياً وجب سحقه برأي ذلك الليبرالي الجديد. وكل من يحرر أرضاً محتلة مختل عقلياً وجبت مقارعته وإدانته وتسفيهه خاصة إذا كان متحالفاً مع آبائه الروحيين الإيرانيين الذين انقلب عليهم. وكل من ينتقد المجتمعات الغربية، حسب تصوره الجديد، غدا ملعوناً مطعوناً إلى يوم الدين، وكل من لا يسبّح بحمد أمريكا وأوروبا يجب أن يوضع في مصحة عقلية كي يبرأ من أمراضه الأصولية الخبيثة.

لم يعد لصاحبنا هم سوى النيل من الإسلاميين وشيطنتهم وتجريم كل من دعا إلى تحرير الأراضي المحتلة في لبنان وفلسطين والعراق. والويل كل الويل لمن يفتح فمه بكلمة ضد العولمة أو الغزاة والمستعمرين الجدد. والويل لكل من تباهى بأي قيم عروبية أو إسلامية، فهي برأي "التائب" الجديد لا وجود لها وإن كانت موجودة فلا بد من تشويهها ونبذها لأنها لا تساير العولمة والعصر الليبرالي الجديد وأن القيم الإسرائيلية تفوق العربية بألوف المرات من حيث الجودة والحداثة والتحضر وأن العرب ليس لديهم أي شيء يقدمونه للبشرية سوى الأجساد المفخخة وبالتالي لا بد من أن نقول لهم وداعاً. لا عجب أن أصبحت مقالات "زميلنا" تـُلتهم في الدوائر الإسرائيلية والغربية كالكعك الساخن ويُثنى عليها خاصة وأنها تزايد على المحافظين الجدد في معاداتها للعروبة والإسلام.

وإذا كان المنقلب أعلاه قد انقلب على الماركسية فهناك آخر طلـّق التروتسكية والفدائية وتحول بدوره إلى منظـّر لأقصى درجات الليبرالية، فهو لا ينطق كلمتين إلا وتكون واحدة منهما للنيل من الإسلام والمسلمين وتشويه عقيدتهم، فالدين الإسلامي برأيه الليبرالي الجديد لا يصلح لا لهذا العصر ولا لغيره وأن أتباعه عبارة عن ثلة من الموتورين والإرهابيين والإصوليين الجديرين بالسحق والمحق. لقد راح ذلك التروتسكي العتيد يبشر وللعجب العجاب بما بعد الحداثة الديمقراطية، فهو يزايد حتى على أهل الديمقراطية أنفسهم. وقد غدت كلمة ديمقراطاوية أشبه بالبسملة بالنسبة له، فهو لا ينطق جملة إلا ويزينها بمفردة الديمقراطية علماً أن لا مانع لديه من استئصال كل الإسلاميين عن بكرة أبيهم عملاً بمقولة الثورة الفرنسية: لا حرية لأعداء الحرية".

ولو اقتصر انقلابه على التروتسكية فقط لقلنا ماشي الحال: شيوعي وتاب. لكنه انقلب أيضاً على توجهاته النضالية القديمة، فقد كان صاحبنا في فترة من الفترات مع الفدائيين الفلسطيين المناضلين من أجل تحرير فلسطين. لكنه الآن يكفر بالفدائية وبكل من يقول أنا مقاوم كما لو أن أحلامه التحريرية قد تحققت كلها ولم يعد هناك داع للنضال. فحزب الله الذي حرر جنوب لبنان برأيه جماعة إرهابية، وحركتا حماس والجهاد الفلسطينيتان حركتان فاشيتان. وكل الحركات الإسلامية الأخرى منابع للإرهاب وجب تجفيفها كما تجفف المستنقعات كي لا يعود إليها البعوض برأيه.

ولا يختلف الأمر بالنسبة لشيوعي آخر كان يحمل سيف التصدي للهيمنة الأمريكية على العالم مغمساً بعصير العنب المعتق أو أحد مشتقاته. لكن أثبتت السنين أن قلبه، كقلب معظم اليساريين العرب، كالفجل، أحمر من الخارج أبيض من الداخل كما علق الروائي السوري حنا مينا ذات مرة ساخراً من الشيوعيين "الأحمراريين". فقد ولت أيام اليسارية النضالية بالنسبة لصاحبنا وبدأت مسيرة نضالية جديدة من أجل تدعيم الاستعمار الجديد في المنطقة العربية والترويج لقيمه وتجميل صورته. فلا تخلو له مقالة من إدانة المقاومة العراقية وتجريم المدافعين عن وطنهم ضد الغزاة الجدد. كما أنه لا يتمالك نفسه من شدة الحماس وهو يغدق المديح والإطراء على النظام العراقي الليبرالي "الديمقراطاوي" الحضاري التعددي البنفسجي الجديد الذي حل محل طغيان صدام المخلوع. سقى الله أيام السب على الإمبريالية التي على ما يبدو أصبحت حبيبة أصحابنا اليساريين المنقلبين بديمقراطيتها الرائعة وحنوها على الشعوب!

وكي لا نذهب بعيداً فقد كان أحد العربان في الغرب إلى وقت قريب جداً ضيفاً دائماً على التليفزيونات الغربية مدافعاً عن حركات المقاومة في فلسطين، وكانت مقالاته نارية في المجلات الفلسطينية الحماسية، لكن بقدرة قادر خفت همة صاحبنا النضالية بسرعة البرق وخارت قواه الجهادية الكلامية مع أنه ما زال شاباً بعدما احتضنه أحد الربوع الأوروبية الجميلة المعروفة بوداعتها وهدوئها الشاعري ومنحته وظيفة "تنويرية"، فطلــّق "الثورجية" وتزوج "السلامية" وراح يحول قلمه في الاتجاه المعاكس تماماً فاختفى اسمه من مطبوعات المقاومة. كيف لا وقد راح يسجد للقيم والمفاهيم الغربية صباح مساء ويجرّم كل من ينتقدها ثم يزايد على الإسرائيليين وعتاة المحافظين في إدانة أبناء جلدته المناضلين من أجل تحرير بلدهم وكل من همَّ بإلقاء حُجير صغير على "سادة الحضارة والتقدم". ومن سخرية القدر أنني شاهدت ذلك الكاتب ذات مرة مشتبكاً بعنف على إحدى شاشات التليفزيون مع صاحبنا آنف الذكر "الفدائي القديم" الذي أمسى متلبرلاً عنيداً. لكن سبحان مغير الأحول، فقد أصبحا رفيقين الآن على درب النضال "الليبرالي الجديد".

ولا داعي لسرد كل النماذج الانقلابية الرهيبة في الأوساط الثقافية العربية، فقد كان بعضهم مثلاً من أشد المطبلين والمزمرين لصدام حسين ثم غدوا فجأة بعد أن بارت بضاعت معلمهم من عتاة الليبراليين. ومن المضحك أن بعض هؤلاء كان من أقصى اليسار فإذا بهم يتحالفون مع المارينز ويصبحون من منظريهم وأزلامهم. ولا ندري أي منقلب سينقلبون فيما لو دارت الأيام مرة أخرى.

الأمثلة أعلاه ليست سوى غيض من فيض من مئات الأسماء اليسارية والقومجية والثورجية العربية التي باعت مثلها وعقيدتها القديمة بقشرة بصل. ولو نظرنا إلى بعض المواقع الالكترونية التي ما زالت ترفع شعار الشيوعية والاشتراكية والعلمية والعلمانية لوجدت الذين يكتبون فيها على يمين المحافظين الجدد الأمريكيين. من جهة يحاولون إيهامنا بأنهم مازالو "حُمر البيارق" ومن جهة أخرى تراهم ينهلون مما يسمى بالنبع الليبرالي الجديد الذي يتماهى مع المحافظين الجدد بالرغم من تضاد النهجين شكلياً. ولا أدري كيف تلتقي مناهضة الإمبريالية والدفاع عن حقوق المظلومين والمسحوقين والمحتلين في العالم مع الليبرالية المتوحشة التي يدافعون عنها بأسنانهم ويختبئون وراءها للهجوم على العروبة والإسلام.

ليت الذين يتباهون ويتسابقون على تكفير حضارتهم وثقافتهم العربية والإسلامية ويتهافتون على القيم "الليبرالية الغربية الجديدة" ويخرّون ساجدين على أعتابها، ليتهم قرأوا قصة ذلك الجندي الأجنبي الذي انشق عن جيش بلاده وانضم إلى جيش نابليون وتفانى في خدمته. وذات مرة التقى نابليون بجيشه فإذا بالجندي الأجنبي "المنقلب" يهرع مسرعاً للسلام على القائد الفرنسي الشهير وتحيته، فمد يده بلهفة لمصافحة نابليون، لكن الأخير رفض مصافحة الجندي وقال له: "بإمكاني أن أعطيك كيساً من النقود تقديراً لخدماتك لنا، لكنني لا استطيع أن أصافحك، فيدي لا يمكن أبداً أن تصافح شخصاً من أمثالك".