الأحد: 22/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

يا سكان الأرض :أنا قادم - بقلم:عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 22/08/2005 ( آخر تحديث: 22/08/2005 الساعة: 14:30 )
أنا الأسير الفلسطيني الرضيع نور ابن الأسيرة منال غانم، أرزح الآن خلف قضبان سجن تلموند للنساء الذي لا أعرف مكاناً غيره، حيث ولدت وترعرعت بين جدرانه وعلى صدى أبوابه الحديدية وأقفاله المزعجة.

عمري الآن يزحف ضائعاً نحو إتمام السنتين وهذا هو الموعد الذي سيطلق ناقوس الفراق عن أمي الغالية... فالحياة تطلب مني ضريبة مروعة ورهيبة هي فراق أمي والأسيرات.

يا سكان الأرض: أنا قادم إليكم بتاريخ 10/10/2005 تاركاً أمي ورائي تكمل حكمها البالغ خمسون شهراً وفي هذه اللحظة سَيُقطع الحبل السري بين جسدينا ويكون الانفصال...فماذا أعددتم لي في دياركم الواسعة؟ لأن قدميَّ الصغيرتين لم تطآ أرضاً من قبل، لم تلامسا شجرة، أو تجريا في بستان وتلاحقا قبرّة...

يقال أن في أرضكم بحراً وشمساً وسماءً زرقاء غير مسيّجة...لا أحد يوقظكم أربع مراتٍ على العدد أو يغلق عليكم باباً ويحرمكم من رؤية النجوم وأشكال الغيوم...

ويقال أن في أرضكم متسعاً للألوان وخاصة أَنني لم أعرف سوى اللونيين الأبيض والأسود..

ويقال ان عندكم متسعاً للفرح والاغنيات دون قمعٍ وضربٍ بالغاز وصراخ نساءٍ تحت هراوات السجان...

ويقال أن الموت عندكم مختلف عنه بالسجن، تموتون واقفين على شباك الحياة وليس في قبوٍ مظلم دون وصية ووداع وآيات قرآن...

يا سكان الأرض: أنا نور غانم ولدتُ من امرأة الدم المجبولِ بالليل والمخاض العسير...امرأة قيدوا يديها ورجليها بسرير المستشفى ساعة ولادتي.

وكان الجلادون منبهرين من الولد الغريب وهو يقتحم الصمت وعادات السجن، مخلوق من وجع مذابٍ وبرق بلا حليب...

هو أنا تسللت من نطفتي واشتهيت الهواء منذ البداية...ثم اشتهيتُ ريش الحمام لأطير واغني...ثم اشتهيت صدر أمي...

كان وجهها اصفر، منهكةٌ تبحث عني، تنتظر صرختي الأولى، وأنا كنت أنتظر لأسمع صوتها في بياض الصدى...

لم يسألني السجان لماذا أتيت، من أبوك ومن أخوك، ما اسمك، ما رقم هويتك، ما لون عينيك...أين كوشانك، أحضر ضابط السجن ملفاً أحمر...وضع فيه صورتي ولائحة اتهام تدين تسللي إلى الحياة بأسنان بيضاء وأصابعٍ جميلة وشعر أشقر وابتسامة تشبه قوس قزح...

وضع الضابط رقماً على صدري، وقال أنت طفل النسيان والزنازين، الخارج عن النصّ العسكري والأمني، المولود في العتمة دون قرارٍ من تل أبيب، قُبض عليك في منطقة عسكرية محظورة، تمارس الفرح بأضلاعك الخمس...

لا يسمح لك بملعبٍ وحديقة ودمية وفوطة وشمس، لأنك ابن سجن وجدارٍ وصراخ أنثوي...

قلت: أنا البريء من دمكم، لا أعرفكم لم أضرب حجراً أو انتمي لأي حزب، لم أقتل أحداً أو أعتدِ على حقولكم...وطني هو أمي، هي أرضي وهديل نعاسي...وطني هو أمي، ضفة حليبي ودولة حريتي... "ومن يترك أمه ينسى الطريق إلى الله".

يا سكان الأرض: أنا قادم... جسدي يشبه أجسادكم...ولغتي لا تشبه لغتكم، أنا من حديد وطحلب وحصارٍ وماء...

لم يتكون صوتي بين صخوركم وعلى ترابكم ولم تنمُ قدماي بالجري في سهولكم..

أنا الذي نام في الغياب دون مساء، لا أعرف الرجال إلا سجانين ينتعلون البساطير والعصي ومدافع الغاز ويشتمون ويعربدون...أنا بلا أصدقاء..

وسادتي بللها الدمع وملح الجوع في الاضرابات عن الطعام...وصوتي احتشد فيه الفزع والخوفُ وشهقات الشهداء في ليالي الاقتحامات وانكسار الجمالِ عن وجوه النساء.

أنا الذكر الوحيد الذي رأى كيف يجرون الأسيرة من جدائلها، يدعسون على خصوبة أحلامها، ويعبثون في أسرارها وأمنياتها...أنا الوحيد الذي رأى الكلمات تسيل على الأرض في لون الدماء.

يا سكان الأرض: أنا قادم في موعدٍ لم احدده، لا احمل معي سوى دبوس أمي وخيط من منديلها الأبيض..

ومعي رسائل من ضوء إلى ما يُسمى الإنسانية في عالمكم، إلى مؤسساتكم ومنظماتكم وبرلماناتكم، إلى أولادكم ونسائكم، إلى الصلوات الخمس في أيمانكم كي تنتبهوا إلى الجهة الأخرى من الخريطة...هناك بين عشرات السجون والأسوار وبعد قطع المسافات وفتح باب وباب...وبعد المرور عن مئات السجانين والقرارات والوصول إلى المحاق المعتم من الدنيا...هناك أمي.

هي أرض حليبي...وكل الأرضِ منفى دون أمي... وكل فك ارتباطٍ يفصلني عن أمي باطل...

"ومن يترك أمه ينسى طريقه إلى الله"