الأربعاء: 25/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

"ذاكرة لا تصدأ" -العاصفة الثلجية تُعيد فصول النكبة القاسية!

نشر بتاريخ: 18/12/2013 ( آخر تحديث: 18/12/2013 الساعة: 22:03 )
طوباس- معا- أعادت العاصفة الثلجية، التي ضربت فلسطين قبل أيام، الحياة لفصول سوداء خلفها الزائر الأبيض للمنكوبين في شتاء عام 1950. ورسم رجال ونساء، خلال الحلقة التاسعة من برنامج" ذاكرة لا تصدا"، الذي تنظمه وزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات، حكايات عاشوها تحت سماء مخيم الفارعة، وفي أراضي منطقة " جنزور" وبلدة يعبد وقرية عانين بمحافظة جنين.

وتنقل السبعيني محمد موسى عبد الجواد، بين صفحات رحلة الاقتلاع من الكفرين المجاورة لحيفا، والعيش تحت رحمة ثلوج الرابع من شباط عام 1950، والتي استمرت أربعة أيام متواصلة. يقول: كانت الثلوج تغطي غرفة منزلنا الوحيدة في بلدة عانين، وأكلنا البرد الشديد في الليل، وفي النهار كنا نخرج للعب بالثلج، ولرمي كراته على بعضنا البعض، وكانت الدنيا قلة، ولم نكن نمتلك أغطية كافية، ويومها شعرنا بالذل الذي نعيشه، بعد ترحيلنا من بيوتنا.
ووفق الراوي، فقد شهد مخيم الفارعة، هطولات ثلجية عام 1992، لكنها لم تكن بتلك القسوة، ويمها تدافع أبناء المخيم والشبان خصوصاً، لفتح الطرقات، ومساعدة المحتاجين.

ثلج أسود!

فيما يقول الثمانيني خليل أحمد أبو زهرة، بصوت أجش، ودموع أخفاها بكفه: لم نر الثلج في صبارين، وسمعت من والدي أن حيفا صارت بيضاء عام 1934، وفي سنة الثلجة الكبرى عام 1950، كنا نسكن في بيت قديم لعائلة الطاهر في يعبد، ولما فقنا من النوم، حاولت فتح الباب، ولم نعرف أن الثلوج قد سقطت ليلاً، ولم أعرف، فجاء والدي وساعدني، وشاهدنا الأرض بيضاء، وأخذنا نساعد الجيران لفتح باب بيتهم، وخلعنا الباب، وأخذنا ننظف الشارع القريب بمجرفة وطواري.

يتابع: في تلك الأيام، التي استمرت لأسبوع، عرفنا طعم المرارة، ولم نكن نمتلك وسائل تدفئة، ولا أغطية كافية، وعرفنا مرة أخرى معنى الغربة وفقدان البيت. ولم تمتلك عائلة أبو زهرة الكثير من الخيارات، فظلت حبيسة المنزل، واستعانت بكانون النار، قبل أن تنام بالقليل مما تيسر من أغطية.

يقول: رأينا الثلج عام 1992 في المخيم، ولا زال أمامنا في الجبال المحيطة بنا، وفي كل مرة أشاهده أتذكر الحسرة التي نعيشها، فقبل ترحيلنا من صبارين، كنا نصطاد السمك من أنهار بلدنا، ولا أنسى ينابيع المُشراع، والسير، وعين البلاطة، وعين الصلاة، التي كانت قريبة من المسجد، ويتوضأ بها من يدخل للصلاة.
ينهي: في أيام الشتاء بالتحديد، وبعد أن أصابني المرض، أطلب من أولادي دفني في صبارين، بأي طريقة، ولو هربوا عظامي لأرضنا ومزارعنا فيها.
قلّة وذلة
تقول السبعينية صبحية نايف محمود: عندما هجرّنا اليهود من الكفرين، القريبة من حيفا، وصلنا لمنطقة(جنزور) على شارع جنين- نابلس، في منطقة سهلية، ونصبوا لناء الخيام، وفي عام 1950 نزل علينا الثلج، وهدم الخيام، وغرقنا في الوحل، ووقعت الأوتاد على رؤوسنا، وبقينا يومين في العذاب، وجاءت شاحنات الوكالة، ووزعتنا على المخيمات، ونقلت عائلتنا إلى مخيم نور شمس، وبعضنا وصل مخيم الفارعة، ومخيم جنين.
تضيف: في سنة الثلجة قتلنا الجوع، وعرفنا القلة والذلة، ومتنا من شدة البرد، وغرقت ملابسنا وأغطيتنا، وصفينا مرة أخرى بلا أي شيء، وسمعنا عن ناس ماتت من الثلج وشدة البرد.
ووفق الحاجة صبحية، فإن ثلوج عام 1992، التي شهدتها في مخيم الفارعة، بعد أن انتقلت من نور شمس، كانت خفيفة، وأغلقت الطرق يومين فقط، وتعاون الناس مع بعضهم لفتح الأزقة، وإزالة الثلوج عن أسطح المنازل.
خيام غريقة!
وتسكن في ذاكرة محمود أمين أبو لبدة( 70 عاماً) الكثير من التفاصيل عن ثلجة شباط عام 1950، فوقتها كان مخيم الفارعة مجموعة من المساكن، بين 50- 60 خيمة، في منطقة تسمى"مرج الدوم"، كانت مزرعة بأشجار السدر والدوم وذات نبات شوكي، ودون أية مرافق، ولا وحتى دورات للمياه!
يقول، وهو يشير للثوج التي تستلقي على جبال نابلس: ارتفع الثلج بين 40-50 سنتميراً، وتمزقت الخيام وانهارت، وغرقت مقتنيات الناس البسيطة، من ملابس وبعض الأغطية والقليل من أواني الطعام، وجاءت الوكالة لنقلنا إلى مركز الجيش الأردني( سجن الفارعة لاحقاً ومركز صلاح خلف اليوم)، وعشنا عدة أيام في منطقة كانت تستخدم كإسطبلات للخيول، وذقنا الأمرين، ثم أعادوا لنا بناء الخيام، وأحضروا أوتاداً من أعواد الرمان لتثبيتها، ومما لا ننساه، كيف أن أعواد الرمان برعمت وأزهرت من شدة المطر، وطرحت ثماراً، ولا زالت بعض الأشجار منها حتى اليوم، كالتي يمتلكها سعيد عبد الهادي في حديقته!
وبحسب الراوي، فقد كانت الأجواء التالية للثلوج صعبة وقاسية، ووقتها تجرع المنكوبون طعم المرارة، وعرفوا معنى أن يفقدوا منازلهم، وينتقل بهم الحال إلى خيمة، لا تستطيع الصمود في وجه البرد، وأسقطتها الثلوج فوق رؤوس ساكنيها، وبعضهم أضطر في بداية العاصفة لوضع الحطب في أرضية الخيمة؛ للاحتماء من الماء، دون جدوى.
يطلق الرصاص على الثلج!
وترسم الثمانينية آمنة يوسف شاهين أبو هنية مقاطع من الرحيل عن قرية شحمة جنوب فلسطين، فتقول: كان زوجي يعمل مزارعاً، وعنده بئر ماء، وحين قررنا الرحيل بعد هجوم اليهود، عاد لإطفاء الماتور، وقال: هي يوم أو يوم ونعود. ثم واصلنا، وكانت الناس حافية، وطلعت في ملابسها، وكان صوت البارود خلفنا، وسمعنا عن نساء حملن المخدات بدل أولادهن من شدة الخوف. وأخفت أمي الكواشين والذهب والمصاري في العقود( مبانٍ عالية الارتفاع وسميكة الجدران). وركبت أنا وأختي صبحية على الحمار، وركب أخوتي وأبي على الخيل. وشاهدنا إمرأة مقتولة على جانب الطريق. ورأينا عجوزاً رفضت مغادرة منزلها، بعد أن حرقها اليهود داخل بيتها.
تضيف: يذكرني الشتاء بالطريقة التي فرت فيها عائلة وأهالي شحمة نحو خربة (مغلس)، ثم إلى بيت جبرين، فعجور، ثم وصلنا بني نعيم ( بمحافظة الخليل)، وسكنا فترة في المغر، وأثلجت الدنيا علينا وكسرت الزيتون من قوته، وكان جارنا شاكر عوض محاصراً في المغارة، وصار يطلق بالفرد النار ليفتح الطريق بالثلج.
ثلج وقيود
فيما يسترد رائد جعايصة، الأسير الذي صار موظفاً في المبنى نفسه الذي كان شاهدًا على تعذيبه وقهره خلال ثلوج عام 1992. فيقول: كان الثلج يهطل بغزارة علينا، ونحن في ساحة الشبح، ونتعرض إلى الضرب، والتعذيب، والإجبار على التعري بدعوى التفتيش والتعقيم، ولا أنسى إجبارنا على تناول الثلج البارد، رغم قيودنا، ونحن نسمع لهو المجندات والجنود بالثلج

يضيف: كان السجانون يجبروننا على التعري ثلاث ساعات متواصلة وسط البرد، وفي عز المربعانية، فيما تناوبت المجندات مع الجنود على ضربنا المفتوح والمتواصل، ونحن تحت الثلج طلب أحد الأسرى شربة ما، وجاء الجندي وطلب مني أن أسقى من في ساحة الشبح كلهم، وما أن أعطيت أولهم( كان اسمه عاصم منصور) الوعاء المعدني ليشرب، إلا واكتشف أن الكاز هو الذي دخل إلى جوفه، فأخذ يصرخ، ويشتم الجنود.

ينهي: طلب أحد السجانين واسمه الكابتين سمعان، من أسرى مخيم الفارعة التجمع، ونقلنا إلى ساحة المعتقل، وقال لنا: شاهدوا الثلج الذي يسقط على مخيمكم، وسمعنا أصوات المجارف، وهي تفتح الطرقات، وه=عشنا وضعنا نفسياً صعباً، وتمنينا لو نستطيع اللعب بالثلج في أزقة مخيمنا.

بدوره، ذكر منسق وزارة الإعلام في طوباس، عبد الباسط خلف، أن البرنامج، قدّم حتى الآن نحو 50 وثيقة على جرح النكبة، لخصت كلها أشكال المعاناة، وأعادت بناء القرى المدمرة، وتتبعت التفاصيل الإنسانية الصغيرة، وهي تستعير اليوم العاصفة الثلجية، للإشارة إلى البؤس الذي عاشه اللاجئ.
فيما قال نافز جوابرة من اللجنة الشعبية، إن "ذاكرة لا تصدأ" نقل رواية العديد من الشهود على النكبة، وبعضهم غيبه الموت، وهو ما يجب أن يدفع المؤسسات المهتمة باللاجئين لتوثيق حكايات الاقتلاع، في كل مكان بفلسطين والمنافي.