الغداء الأخير لعبد المنعم ووديع يُنظف الحي لاستقبال الشهيد!
نشر بتاريخ: 24/12/2013 ( آخر تحديث: 24/12/2013 الساعة: 17:15 )
جنين - معا - رسمت والدتا شهيدين سقطا خلال انتفاضة الحجارة، حكايات حزنهما، وأعادتا إلى الأذهان اللحظات الأخيرة معهما، قبل أن يختطفهما رصاص الاحتلال في أزقة مخيم الفارعة.
وقالت آمنة يوسف أبو هنية( 86 عاماً) والدموع تطوق حديثها، خلال الحلقة السابعة من برنامج "كواكب لا تغيب" لوزارة الإعلام والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية بطوباس: يوم 24 تشرين أول 1989، كنت أجلس في بيتنا، وعاد عبد المنعم من الرعي، فاغتسل وغيّر ملابسه، وسألني عن الطعام، فقلت له: عنا فاصوليا حمراء، فطلب مني أن أطبخ له كاسة رز، فتناول طعامه، وخرج لأزقة المخيم، ورفض الذهاب مع شقيقه علي لنابلس، لكنه لم يرجع للمنزل، وعاد إليه محمولاً في النعش.
|256877|
المُعلم..
ووفق الأم المكلومة، فقد سقط عبد المنعم يوسف شاهين، وهو في السابعة عشرة، بعد وقت قصير من مغادرته للمنزل، وحينها سمعت أصوات الرصاص، وشعرت بأن شيء ما قطّع قلبها، وبعد وقت قصر جاء صديقه إياد يخبرها بأن ولدها أصيب على الشارع الرئيس للمخيم، فهرعت حافية القدمين، وبحثت عن وسيلة للحاق بسيارة الإسعاف، التي نقلته إلى نابلس.
تضيف: استشهد عبد المنعم على المطرح، وأصيب بوجهه، وكان في الصف الثاني الإعدادي( الثامن اليوم)، وحلم أن يكون معلماً في المستقبل، ولو أنه عايش حتى اليوم، لكان أولاده طوله.
مما تستجمعه من أوصاف لشهيدها: إسمراني، وقصير، وشعره أسمر ناعم مثل الحرير، ووجهه مربوع، وصحته مليانة قليلاً. ولعل أغرب ما كان يميزه عن إخواته، أنها حين تريد أن تعاقبه، كان يُسرع إلى إحضاء الحذاء لها، وويقول لها: اضربني أنا بستاهل، فتسامحه الأم.
تقول: كان عبد يحب الجبنة، ويتقاتل مع أخوانه على القطع الكبيرة، ولدرجة حبه لها، كان يضع يده أول وصوله من المدرسة، في مرطبان الجبنة، حتى دون أن يغسلها. وكان يحب المسخن كثيراً، ويطلب مني أن أطبخ المقلوبة كل يوم جمعة، وخصوصاً في الشتاء.
وتضيف: في ذكرى مرور عام على استشهاد أبني، خرج شبان المخيم في مسيرة، وحملوا نعشاً كتبوا عليه اسمه، واقتحم جنود الاحتلال الفارعة، واعتقلوا أحد الشبان، فاقتربت منهم، وقلت لهم أتركوه هذا ابني، وقد عرف الجنود من نساء المخيم أنني والدة الشهيد، صاحب المسيرة، فقالوا لي: سنتركه إذا كان ابنك فعلاّ، وطلبوا بطاقة هويتي، فصرخت عليهم، وقلت لهم: بيكفي شهيد، وكمان معتقل، فأطلقوا سراحه.
يستذكر شقيقه يوسف اللحظات الصعبة، خلال نقله جثمانه من نابلس إلى الفارعة، فقد خرج من المستشفى بسيارة لشاب اسمه تحسين، وفي منتصف الطريق تعطلت المركبة، فنقلت إلى سيارتي، وبعد دقائق أوقفنا حاجز طيار لجنود الاحتلال، ولم يفتشوا سيارتي، وحينما مرت سيارة تحسين بعد إصلاحها، قال الجنود له: أين الشاب الذي قتلناه؟ لقد خرجت به من المستشفى؟...
تنهي الأم: منذ أربع سنوات تعبت صحتي، ولم أعد أستطيع الوصول إلى المقبرة لزيارة ابني، واليوم عندما اسمع بسقوط شهيد في أي مخيم وبلد، أتذكر لحظة وداعي الأخير لنعش ابني، فقد كانت صعبة، ولا أستطيع أن أنساها.
أخ وأب وصديق
فيما نثرت السبعينية صبحية نايف محمود فصول سقوط ولدها وديع أحمد محمود) الياصيدي) في 15 كانون ثاني 1990، والذي سقط بدم بارد، بعد أن أوقفه جنود وحدة" جولاني" في جيش الاحتلال، وأمروه أن يلف وجهه نحو الحائط، وأطلقوا النار على رأسه من مسافة قصيرة.
تقول: استيقظت صباحاً وشاهدت وديع ينظف الحي، ويشطفه بالماء، فسألته عن السبب، ورد عليّ:
"اليوم سيستشهد شاب، ومش حلوة الناس الغُربيّة يشوفوا الحارة مش نظيفية"، فقلت له: ومن هو الشهيد يا أبني. أجابني: أنا! فطلبت منه أن يسكت.
ووفق الأم التي تعيش مع أوجاع هشاشة العظام، وسكر الدم، والضغط، فقد أحضر وديع قبل يوم واحد من رحيله أشرطة قرآن، وطلب منا أن نشغلها يوم استشهاده، وفي اليوم نفسه، توجه إلى الدكان، وأحضر لأخوته المكسرات، وضحكوا معا كثيراً.
تضيف: كان وديع( 22 عاماً) طويلاً، شعره أشقر ومجعّد، عيونه واسعة، مرحاً، وقد أحس بالمسؤولية في سن صغيرة، فترك المدرسة التي أحبها، وتعلم النجارة، وصار يصرف علينا، وبعد استشهاده صرنا نعيش بالمرار، وعرفنا القلة والذلة وشوفنا الويل، فقد كان الوحيد الذي ينقط بحلقونا، ويوفر لأخوته ولنا كل ما نحتاجه، ويقطع عن نفسه ويعطينا. وقبل أيام من استشهاده، كنا نفتش له عن عروس، وأقنعناه بأن يبني منزلاً.
تتابع: دخل جنود الاحتلال ومنعوا التجول ظهراً، وكان وديع يدخن، وصار يفتش عن سيجاره، ولم يجد، فخرج إلى الدكان، ومع ساعات العصر، سمعنا صوت إطلاق نار، ومع المغرب، كنت صائمة تطوع، وأستعد لتناول الإفطار، فجاء صديقه وقال لنا: ابنكم أصيب، فسألته عن مكان جرحه، فقال لي: في الرأس، فصرت أصرخ، وسقط راس قلبي، وعرفت أن وديع استشهد.
منطقة محرّمة
ومما سمعته الأم من سكان الحي الشمالي للمخيم، حيث سقط ابنها، فبعد أن قتله جنود"جولاني"، توجهوا للعيادة، وقالوا لطاقمها: قتلنا شاباً أذهبوا وخذوه! وبالرغم من مرور أكثر من عشرين سنة على سقوط وديع، إلا أن الأم تُحرّم المرور بالمنطقة التي سقط فيها ابنها، وتتجنبها، وتبحث عن طريق بديل حين تزور اختها في تلك المنطقة.
توالي: لو تركوا لنا وديع لكان اليوم ابن 45 سنة، وأبو أولاد، ولتغير حالنا للأفضل، فبرحيله خسرنا عمود البيت، وتعبنا، فقد كان الأب والأخ والصاحب لأخوته، والحنون علينا جميعاً.
لم تزر الأم قبر ولدها منذ مدة، لكن مع ذلك فهو لا يغادر ذاكرتها، ورفضت أن تسمي أحفادها باسمه عشرين سنة؛ حتى لا يتقطع قلبها كلما تسمع أحدا ينادي عليه، وبعد أطلق ابنها اسم الشهيد على صغيره، تشعر بالألم، لكنها تقول: وديع الأول لا أحد يشبهه أو يأخذ مكانه.
توثيق وتكريم
بدوره قال منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف إن "كواكب لا تغيب" مساحة لإعادة بناء قصص شهداء الحرية، وتوثيق قصههم الإنسانية، ونقل أثر الغياب الذي خلّفه رحيلهم المبكر، من وحي روايات الأمهات، التي تقطر حزنا ولوعة.
فيما قالت منسقة اتحاد المرأة بطوباس ليلي سعيد إن البرنامج سيكرم في آذار القادم، وبالتزامن مع يوم المرأة العالمي، عشرات أمهات الشهداء في احتفالية تليق بهن، مع قراءة مقاطع من سيرة الأبناء، ومعرض صور فوتغرافي لهم ولبعض مقتنياتهم.