الحاجة عزيزة تبحث عن راشد منذ 29 سنة وماجد "استشهد" مرتين!
نشر بتاريخ: 14/01/2014 ( آخر تحديث: 14/01/2014 الساعة: 19:49 )
جنين - معا - نسجت والدة الشهيد راشد أبو مطاوع، الذي سقط عام 1985 حكاية بحثها المتواصلة عن ابنها، في محاولة لوداعه الذي حرمت منه حين سقوطه. فيما أعاد والد الشهيد ماجد صوافطة اللحظات القاسية التي أحدثها غياب ابنه.
واسترجعا خلال الحلقة الثامنة من برنامج "كواكب لا تغيب" لوزارة الإعلام والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية فصول الوجع الذي يشاركهما حياتهما. إذ تعيش الحاجة عزيزة محمود جابر، التي أكملت المئة عام، بذاكرة جيدة وقلب مطوق بالحزن، فيما اختطف الزمن نور إحدى عينيها، لكنها لا تنسى ابنها راشد، الذي قضى في تفجير نفذه الاحتلال عام 1985.
تقول: "رزقني الله براشد من زواجي الثاني بعد 20 سنة، وكان شب مثل الوردة، وشاطر بالمدرسة، وبيعلم الأولاد في بيتنا، ودرس في جامعة النجاح بنابلس، ولو ربنا خلاه، كان اليوم عمره 50 سنة، وأولاده طوله."
وحسب رواية الحاجة عزيزية، التي تسكن في البلدة القديمة بطوباس، فإن راشد قضى مع ابن عمته الشاب محمد المساعيد، حين فجر الاحتلال جسديهما قرب المساكن الشعبية بنابلس، ولم تعثر العائلة عليهما إلا بعد أيام من انقطاع أخبارهما.
|260361|
والمؤلم في قصة أم راشد، كما تقول الأم ومعها ابنتها الوحيدة، إنهم لم يودعوا ابنهم وشقيقهم وصاحبهم بعد استشهاده، فقد وضعوا جثمانه في صندوق خشبي، ومنعوا التجول عن طوباس، وسمحوا لعدد قليل بالمشاركة في جنازته، دون أن يتمكن أحد من إلقاء نظرة الوداع عليه، فقد كان جسده ممزقاً.
تروي الحاجة عزيزة: كان راشد، حبيب قلبي، يساعدني في كل أعمال المنزل، ويكنّس ويشطف ويجلي ويغسل، ويرفض أن يتزوج، وفي أخر مرة شاهدته فيها، كان يمشط شعره على المرآة، ولبس قميصه الجديد، وتعطّر، وقال لها إنه سيقابل أناساً مهمين اليوم، لكنه لم يرجع بعد، كما وعدها.
ولا تسقط أم راشد السبحة (المسبحة) من يدها، وهي تبتهل إلى الله أن يرحم ابنها تارة، وتتمنى أن تراه للحظة واحدة لوداعه تارة أخرى. لكنها سرعان
ما تتذكر، كيف ذهب ابنها لوداع عمه أبو حسن في نابلس، وركب فرسه وتجول في سهول البلدة، ثم أخبر أخته الوحيدة أنه سيكون ضيفها على العشاء.
تقول أخته آمال: جهزت له الدجاج المحشي والسلطات التي أحبها وطلبها، وانتظرته طويلاً، وحين تأخر، وجاءني ألم شديد في البطن، وبعد توجهي للطبيب تذكرت الشيء الذي كان يخفيه عني، فقد ألمح لي أنه سيقابل جماعة مهمين، وسيسمع الجميع عنه، لكنه كان يحرص على أن لا يبوح لي بسره.
|260362|
وما يؤلم الأم والأخت الوحيدة، أن راشد قضى دون أن يعرف أحد التفاصيل لاستشهاده هو وقريبه، فحين طال غيابهما، أعلنت العائلة عن فقدانهما، وبدأوا بالبحث عنهما، ولكن أحد معارفهم من نابلس، قال لعمه، إنه شاهد جثتين ممزقتين (قرب محطة الصيرفي اليوم)، وأنه تعرف على وجه أحدهما، وبحسب الوصف فإن راشد، تعرض لعملية تصفية، وتركت جثته مكانه.
تكمل آمال: كان راشد متفوقاً في مدرسته وجامعته، وتطوع لتدريس أبناء الحي ما يصعب عليهم، دون مقابل. وساعد والدته في كل أعمال المنزل، ورفض الزواج المبكر، وأصر على إكمال الماجستير والدكتوراه، ولم يقبل أن يترك وطنه.
مما تحلم به الأم في منامها دائماً، والتي تطوقها أوجاع الشيخوخة، أن وحيدها ينام بجانبها، وأنها تحضنه. لكنها لا تنسى ما حدث بوالده، الذي فقد ذاكرته بعد فقدان وحيده، وتوفي قبل ست سنوات.
تنهي الأم، وهي تحتضن صورة ابنها وتبكي بمواويل حزينة: لما بشوف راشد ابن بنتي بتذكر ابني، وبحضنه، وبينام عندي، وبيخدمني، وبتمنى لو بمشي علشان أزور قبر ابني حبيبي."
فيما لا تكاد تفارق السبعيني عبد الرؤوف ماجد صوافطة اللحظات القاسية، حين دق أحد الشبان بابه، ودون مقدمات قال لهم: ابنكم ماجد استشهد بنابلس، ما تسبب بردة فعل عنيفة للأبوين، أدت لاحقا لوفاة أمه بالسكتة القلبية، وأصبح المرض يلازم والده.
يقول: في بداية نيسان 2002، سمع ماجد، الذي كان ملازماً في السلطة، باقتحام الاحتلال لنابلس، واندلاع مواجهات، فقرر العودة وقطع إجازته. وبعد وقت قصير، جاءنا خبره، وأنه سقط مع مجموعة شبان، عندما تعرضوا للتصفية من قبل قناصة الاحتلال، في شوارع البلدة القديمة، بعد مواجهات مع جيش الاحتلال.
يتابع: توجهت بعد سماع الخبر الصاعقة، بطريقة زلزلت كياني، إلى ديوان العائلة، وقال لي ابن أخي إن ماجد مصاب، ويريد أن يتحدث إليّ، وما أن أمسك بالهاتف حتى فارق الحياة، ولم أسمع صوته، وكان ذلك اليوم من تموز يوماً مريراً علينا.
من الروايات التي وصلت العائلة، أن ماجد( الابن الثاني لعائلة من 5 بنات وولدين) رفض الهروب من مقره، وقرر الدفاع عنه، ودخل قبل وقت قصير من استشهاده لتأدية الصلاة.
يكمل الأب بدموعه: ما زاد من قهرنا حالة الحصار على نابلس، فلم نتمكن من إحضار جثمانه، وعشنا أكثر من شهرين في حالة صعبة جداً. وقررنا أن نتسلل إلى المدينة، للبحث عن ابني. وحين وصلنا، سألنا عن مكان دفنه، وأخبرونا أنهم نقلوه مرتين، وساعدنا أحد رفاقه بالبحث عن مكانه، ولم نتعرف عليه إلا من ملابسه، فقد كان جلده متغيراً، ولكننا لم نشم رائحة غير طبيعية، ولم نجد في القبر أية حشرات، وبدأنا نفتش عن صندوق خشبي لنقله، فتبرع لنا موظف ببلدية نابلس بصندوق، ووضعناه فيه، وبدأنا نبحث عن طريقه لإخراجه من المدينة، إلى أن وصلنا طريق زواتا، وصادفتنا في منتصف الطريق دورية للاحتلال، ولحسن حظنا أن جنودها لم يطلبوا منا التوقف.
يرسم الأب صوره لولده الذي أبصر النور في 31 تموز 1976: كان طويلا، وأبيض البشرة، ويميل شعره للشقار، وكان يحلم ببناء بيت على سطح المنزل، وأخذنا نبحث له عن عروس، وقال لي أنه أعجب بفتاة من نابلس، وكان ينوي إكمال الماجستير في الحقوق، لكنه استشهد مرتين!
يوالي: كل من عرف ماجد أحبه، فقد كان يوزع ملابسه، ولا يبخل بشيء، وبعد استشهاده أسمينا اثنين على اسمه، لكن لا أحد في الدنيا كلها يشبهه، أو يكون مثله.
ينهي: لا أنسى قبل سماع خبر رحيله، كيف كنت أجلس في حوش البيت، وأستند على الحائط، حين أخذت غفوة قصيرة، وشاهدت خلالها شخصاً يطلق النار على رأسي، وتخرج أحشائي من فمي، وتخليت إنهم قتلوا ماجد!
وكان السابع من نيسان 2002 ثقيلاً على نابلس، إذ سقط إضافة لماجد الشبان: عماد الحاج أحمد كرسوع، وعبد الله مطيع العكليك، ومحمود القني،وأحمد الطبوق، وكمال أبو شهاب، ونضال أبو عودة، وناصر أبو السعود، وإياد أبو الرب، وربحي اللولو.
بدوره، قال منسق وزارة الإعلام في طوباس، عبد الباسط خلف، إن استحضار قصص شهداء الحرية، وبالرغم من انه يفتح الجراح التي لم تبرأ بعد، إلا أنه يقدم شهادات إنسانية عن مرارة الحزن والغياب لكواكب اختطفهم الموت، قبل أن يعيشوا شبابهم وأحلامهم.