الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

"الكندرجي" ابو موريس.. حكاية 58 عاما بين المطرقة والسندان .. زواري من الاغنياء والفقراء يتعففون عن المفاصلة

نشر بتاريخ: 08/06/2007 ( آخر تحديث: 08/06/2007 الساعة: 11:04 )
بيت لحم- معا- عبلة درويش- في ثنايا وجهه السبعيني ترتسم معاناة سبعة عقود للكندرجي ابو موريس الذي امضى منها نحو 58 عاما في مهنته بتصليح الاحذية في مدينة بيت جالا، جنوب الضفة الغربية، الى ان توقف عن العمل قبل 4 اشهر لانه لم يعد يقوى على العمل، تاركا فراغا كبيرا بالمهنة في المدينة التي تعود سكانها على رؤيته فيها كل صباح.

ابو موريس، الياس القطيمي 77 عاما، تعلم المهنة وهو في سن الـ 15 عاما، على ايدي معلمي الصنعة، تنقل خلالها بين عدة مدن للعمل، الى ان استقر به المقام في مدينته حيث تقطن عائلته والتي كان عليه ان يعمل حينذاك ليساعدها، الى ان كبر وتزوج وانجب 6 ابناء، ولدان و4 بنات.

"شغل الطق للق"

قال ابو موريس لنا خلال زيارتنا له في منزله في المدينة، انه لم يورث احدا من ابنائه الصنعة، التي قال انه لم يعد لها في وقتنا الحاضر اي حضور بعد ان دخل العالم عصر التكنولوجيا الحديثة، وهي مهنة "الطق للق"، والتي اندثرت تقريبا.

فقد علم ابو موريس ابناءه وزوجهم من دخله في العمل ككندرجي، في محله وسط المدينة الذي لم تتجاوز مساحته 2م*2م، والذي امضى فيه سني عمره الـ 58 متنقلا بين البيت عند وقت الغداء والمحل، حيث كان يحرص على تناول وجبة الغداء مع زوجته وابنائه.

مهنتي ..مصدر رزقي وحلم حياتي

قال ابو موريس، لقد كنت وما زلت سعيدا بمهنتي التي تميزت بها ولم يبق غيري في المدينة يمارسها موضحا انه لم يعد يقوى على الذهاب الى المحل والعمل، فذلك كان جليا على جسده، مضيفا انه ومنذ حرب الخليج عام 1991 بدأ الرزق يتناقص ، حيث زادت الصناعات المحلية رخيصة الثمن، وقل قدوم الزبائن لتصليح احذيتهم وحقائبهم، الى ان اصبح عمله لا يكيفه قوت يومه، وهدته صروف الزمن فاضطر الى البقاء في المنزل منذ 4 اشهر، ولكنه لم يتعود على الجلوس في المنزل، حيث كان يعمل اكثر من 8 ساعات يوميا قبل نحو 58 عاما، الى ان تناقصت ساعات العمل بتناقص الزبائن، حيث عمل السنوات الاخيرة الماضية بين 3-5 ساعات فقط.

زوجتي ..رفيقة عمري غيبها الموت !

سالت الدموع بحرقة بين ثنايا العمر على وجه ارهقه الزمن وزاره العمر بقوة، عندما سألناه عن زوجته "ام موريس"، التي تذكرها المولى قبل نحو عام، قائلا:" وقفت معي في السراء والضراء ولم تزعلني يوما، ولم تشك من طبيعة عملي ولا من دخلي"، ولكن لا اعتراض على حكم الله، واصر ابو موريس على ان ندخل الى غرف منزله لنشاهد صور زوجته في كل زاوية من زوايا المنزل.

لا سخاء للاغنياء!

الغني كان يفاصل اكثر من الفقير، قال ابو موريس ضاحكا، فالفقير يخجل ان يفاصل، لكن الغني كان يفاصل ولا يدفع في معظم الاوقات نقدا، فكنت اسجل له على دفتر الديون، الى ان يدفع في المرة القادمة، فقد كان يصلح الاحذية الستاتية والرجالية واحذية الاطفال والحقائب المدرسية والستاتية.

مهنتي التي احب .

وتابع ابو موريس حديثه قائلا "احن للباس العمل، ومحلي ،وجيراني الصنايعية،حيث يقع محل ابو موريس وسط مدينة بيت جالا، جاوره طوال عشرات السنين حلاق ماهر تذكره المولى قبل عدة اشهر، ومكتبة صغيرة كان صاحبها من اعز اصدقائه، لكن لم يعد هو الاخر يقوى على العمل، مشيرا انه كان دوما يعتز بمهتنه التي كبر ابنائه وتعلموا من دخلها.

هناك وفي عدة منازل في مدينة بيت جالا، وحتى القرى والبلدات المجاورة، مئات الزبائن كانوا يتوافدون على محل ابو موريس، ليحالفنا الحظ عند محاولتنا وصول المحل الذي اغلق منذ 4 اشهر، لنلتقي بالسيدة (م.م) من المدينة وهي من العائلات الثرية تقود سيارة مرسيدس، فيما والمجوهرات تطوق عنقها ومعصميها، قالت "كم كنت اسعد بزيارته وتصليح ما احتاج عند ابو موريس، فقد كانت هي الاخرى قادمة للمحل كما نحن، ليخبرنا مارق طريق انه بالبيت، واضافت "لقد كنت طوال السنوات الماضية اصلح احذيتي واحذية زوجي واولادي وحقائبنا عنده".

وانتابت السيدة حيرة شديدة بعد غياب الكندرجي ابو موريس وقالت " شو اسوي هالحين ووين اروح مش عارف"، فقد كان ابو موريس اخر معلم للمهنة في المدينة".

الوجه البسام

اذا قدر لك ان تمر من الشارع الذي يقع فيه المحل الذي جرى تجديده في اعمال الترميم التي شهدتها المدينة عام 2000، ستجد محلا صغيرا له 3 درجات، تطل عليك هناك، بسمة ترتسم على وجهه وكلام جميل يهديه دوما للزبون..كراسي قديمة للانتظار ولراحة الزبائن، واليوم ستمر من ذلك الشارع ولن تجد ابو موريس يعمل، فقد اعتزل المهنة.

بين المطرقة والسنديان!!

مطرقته وسنديانه والصمغ والجلد وقطع الخشب وماكينة حياكة قديمة، رافقته طوال الـ 58 عاما، طقطقة من اول الشارع تسمعها ورائحة صمغ تميز بها ابو موريس، ومسامير من عدة احجام كان يشتريها حسب طلبات الزبائن، وسكين كان يضعها في جيب ثوب العمل، فلم يأت يوم زبون يشكي من عمل ابو موريس، ولا يذهب طفل للمدرسة بحقيبته التي صلحها ابو موريس ليعود حزينا بتعطلها مرة اخرى، وبرغم كل اتقانه للمهنة وتفكيره الذي يدور بين سنديان العمل ومطرقة الحياة والعيش وتربية الابناء، فقد كان يقظا لكل مار بالشارع، فاذا مررت بالشارع ذاهبا الى السوق الذي يليه في العمارة، لن ينسى ان يقول: كيف حالكو"، ولكنه الان يعيش وحيدا بين جدران منزل اعتلته الذكريات الجميلة التي وصفها ابو موريس لنا :"انها جميلة جدا، ومنزل ضم ابنائي وبناتي وزوجتي وكنا اسعد العائلات بالمدينة".

الشيف ابو موريس !

ابو موريس يتقن كل انواع الطبخ، فقد اصر على ان يعزمنا على الغداء، وقلنا له انشاء الله المرة القادمة، بدا منزله حيث يسكن لوحده نظيفا ومرتبا فقلت له :"وين بدنا نصلح احذيتنا اليوم يا ابو موريس"، فقال خلص بطلت اقدر انزل على المحل"، هالحين الملابس والاحذية ثمنها اقل من السابق".

الان وبعد ان انتشرت الصناعات المحلية، بدأت عدة مهن يدوية تندثر، فقد ادى اعتزال ابو موريس الى اندثار مهنة الكندرجية في مدينة بيت جالا، فهل ستأتي الايام والسنين القادمة بخسارات لمجتمع المهنيين والحرف اليدوية، ام ستأتي ايام تعود بها هذه المهن، ولكن الى حين معرفة مصير الايام القادمة، اين سيذهب زبائن ابو موريس.