الجمعة: 15/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

المشروع الوطني الفلسطيني ملامح الرؤية ومعالم الطريق

نشر بتاريخ: 08/03/2014 ( آخر تحديث: 09/03/2014 الساعة: 12:58 )
المشروع الوطني الفلسطيني ملامح الرؤية ومعالم الطريق
توطئة:
لم يبق سوى أيام تفصلنا عن اللقاء التاريخي الذي سيجمع الرئيس أبو مازن والرئيس الأمريكي باراك أوباما في واشنطن بتاريخ 17 مارس 2004م، والذي سنسمع بعده طبيعة العرض المقدم للفلسطينيين بعد كل الجولات المكوكية المتعثرة لجون كيري على مدار عام كامل، والتي كان فيها الموقف الفلسطيني - على مستوى الشارع وفصائل العمل الوطني والإسلامي - رافضاً لتلك المفاوضات، وكل ما صدر حولها من تسريبات.
بعد أيام قليلة، سينكشف ستر كل ما خفي، حيث سيتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وسوف نجد أنفسنا كفلسطينيين مضطرين للتعبير عن مواقفنا إما بالرفض أو القبول.. إن الرئيس أبو مازن وعدنا بعدم التوقيع على أية مقترحات ترفضها الفصائل، وأنه سيلجأ لإجراء استفتاء عام (Referendum) لطلب موقف واضح وصريح من شعبه الفلسطيني - في الوطن والشتات - حول بنود "العرض الأمريكي".
من هنا يتضح بأن الأخ الرئيس قد وضع كل الخيارات بأيدينا، وهذا يفرض علينا في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها أمتنا، والضغوطات التي تثقل كاهل شعبنا، وحملات التهديد والوعيد التي يتعرض لها الرئيس أن نقف خلفه لدعمه بقوة، ونمنحه الثقة بأننا معه ولن نخذله، ما دامت ثوابت قضيتنا ماثلة بين يدية.
اليوم، علينا كفلسطينيين أن ندعو له بالتوفيق، وأن نقول له: "امضِ - يا سيادة الرئيس - على بركة الله"، فأنت رئيسنا جميعاً في الوطن والشتات، واعلم – يا سيادة الرئيس – بأن مواقفك في الدفاع عن القضية وحماية الحقوق والمقدسات هي التي ستبقى لك في الذاكرة الفلسطينية مآثر وأمجاد.
في الحقيقة، إن واقعنا الفلسطيني المأزوم في الداخل والخارج، وتغول إسرائيل الأمني والعسكري وتسارع حركة التهويد والاستيطان، وحالة التشرذم والانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتصدع العلاقة مع بعض دول الجوار، وتباعد الدور العربي والإسلامي الفاعل تجاه قضيتنا، والذي يشكل انحرافاً استراتيجياً في الرؤية السياسية التي حكمت طبيعة الصراع مع المحتل الغاصب، وتغييب لبوصلة الرشد "نحو القدس" التي مثلت معالم الطريق لشعوب أمتنا العربية والإسلامية لأكثر من ستة عقود.. لذلك، فإن هذا الواقع يوجب علينا اليوم القيام بمراجعات منهجية وسياسية لمشروعنا الوطني، للخروج بتوافقات وطنية تنسجم وحجم التحديات التي تواجه شعبنا بصورة غير مسبوقة .
المشروع الوطني: رؤية في المنطلقات
في سياق المراجعات والبحث عن مخرج لأزمة المشروع الوطني، قامت نخبة من المفكرين والنشطاء السياسيين والإعلاميين والحقوقيين الفلسطينيين؛ الممثلين للكل الوطني والإسلامي، بعقد عدة جلسات من الحوارات المطولة والنقاشات المعمقة في معهد بيت الحكمة، بهدف التوصل لرؤية يتوافق عليها الجميع حول هذا المشروع .
لذا؛ فقد ارتأينا ونحن نتحرك في اتجاه تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، ومن خلال تطلعاتنا لقيام حكومة شراكة سياسية برؤية وطنية يتوافق عليها الجميع، أن نقدم بعض الإشارات لهذه المساهمة الفكرية التي توافقت عليها تلك المجموعة (د. غازي حمد، د. أحمد يوسف، د. تيسير محيسن، د. عدنان أبو عامر، د. عاطف أبو سيف، د. ناصر أبو العطا، والصحفي طلال عوكل، والأستاذ عصام يونس، د. خالد صافي وآخرون) لدعم ما يجري من مراجعات سياسية، وورشات عمل ترعاها العديد من مؤسسات المجتمع المدني (NGOs) بهدف الترشيد وتقديم ما هو مطلوب من إصلاحات وتصويبات للنقاشات الدائرة – الآن - داخل ساحتنا الفلسطينية.
لا شك أن صياغة المشروع الوطني الفلسطيني يمثل إحدى الركائز المهمة والمفصلية في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وفي القدرة على تحقيق الحقوق والتطلعات الفلسطينية بأفضل الوسائل وفي أسرع وقت ممكن، حيث بات من المهم الوعي بأن تعدد واختلاف البرامج الفصائلية الفلسطينية قد خلق حالة من الإرباك والتوتر، وأسهم في تغييب روح التوحد والانسجام والتكامل في العمل الوطني, كما أنه شكل تحدياً كبيراً أمام صياغة المشروع الوطني، وذلك لكون وجود العديد من حالات التناقض والتعارض، والتي تسببت في خلق فجوة كبيرة بين مواقف مختلف القوى، من حيث تحديد اتجاهات البوصلة الوطنية.. من هنا؛ كان من المهم الاجتهاد في وضع قواعد وأسس مشتركة تجتمع عليها سائر القوى الفلسطينية، وتشكل لها قاسماً مشتركاً يفتح الطريق أمام مسيرة وطنية صحيحة وشاملة.
لذلك، يتوجب علينا الانتباه إلى أن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تقوم على برنامج فصائلي واحد, وأنه لا يمكن حمل الشعب الفلسطيني كله في اتجاه واحد؛ فهناك من يؤيد المقاومة كخيار, وهناك من يؤيد العمل السياسي كخيار أيضاً, وهناك من يؤيد الجمع بينهما, وبالتالي لا ينبغي قصر الرؤية على اتجاه واحد, لأنه من الضروري تجنيد كل وسيلة – مهما صغرت – لصالح المشروع الوطني.
إن انعدام وحدة الفهم والموقف والرؤية الموحدة أضعف جبهتنا الفلسطينية, وجعلها عرضة للانقسام والتشظي والتدخلات الخارجية, كما أنه فتح شهية الاحتلال لفرض المزيد من الوقائع الاحتلالية الاستيطانية على الأرض.
كذلك، فإن غياب الرؤية السياسية الناظمة للعمل الوطني تسببت – أيضاً - في حدوث صراعات وتصدعات داخلية أنهكت المجتمع الفلسطيني برمته, واستنزفت قوته وقدرته على الصمود وتحقيق الإنجازات, كما أدت إلى بروز ظواهر سلبية ذات أبعاد اجتماعية وأمنية.
إن تنظيم مسيرة التحرر الفلسطيني ضمن رؤية يلتقي عليها المجموع الوطني والإسلامي هي الضمانة لتحقيق الكسب، وتأمين سير القافلة في الاتجاه الصحيح وتسجيل نتائج ملموسة.
تشخيص الواقع الفلسطيني وطبيعة الأزمة
علينا الإقرار بداية، أن نضال الفلسطينيين بعد نكبه 1948 قد استهدف إفشال مؤامرات التوطين والتشريد، وعمل على فرض حقيقة وجود الشعب الفلسطيني وبلورة هويته الوطنية وتجسيدها علي كامل أرض فلسطين التاريخية، كما أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967م قد أدى إلي تعديل جوهري في طبيعة المشروع الوطني الفلسطيني وأهدافه.
كما أن علينا الاقرار ثانية بأن الصراع مع هذا الكيان الغاصب يتسم بقدر كبير من التعقيد والخصوصية، ويتجلى ذلك في طبيعة هذا الاحتلال، والذي يتخذ طابعاً استعمارياً استيطانياً، ويتحرك علي قاعدة الشعار الذي طرحته الحركة الصهيونية: "أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض". لذا، يترتب علي الفلسطينيين عدم إهمال قيمة الزمن, فهو ليس بلا ثمن، ومن الواضح أن إسرائيل تعتمد سياسية فرض وقائع علي الأرض، بما يؤدي الى تبديد الحقوق المشروعة للفلسطينيين .
إن إسرائيل تبذل كل جهدها لاستثمار كل دقيقه من أجل تقويض التطلعات والأهداف الفلسطينية، ولا يخفي على أحدٍ تركيزها علي القدس، وعلي الضفة الغربية التي تحقق ادعاءاتها التوراتية ومزاعمها التاريخية.. إلا أن تقدم المشروع الصهيوني وعدم نجاح المشروع الوطني الفلسطيني في تحقيق أهدافه، لا يخولنا القفز عن الواقع والبحث عن خيارات أخري غير قابلة للتطبيق, إذ يترتب النظر في العوامل والتطورات الدولية والإقليمية التي تجعل المشروع الفلسطيني قابلاً للتحقيق.
إن هناك ضرورة لأدراك مدي أهمية التمسك بالشرعية الدولية كسلاح أساسيٍّ بيد الفلسطينيين, وأن تجاهل هذا السلاح والتخلي عنة من شأنه أن يفتح الصراع واسعاً لصالح فعالية ميزان القوي الذي يختل لصالح إسرائيل.
إن افتقار الوضع الفلسطيني إلي جملة من العوامل والخصائص يضعف من قدرة الفلسطينيين على تحقيق أهدافهم, فمنظمة التحرير التي تشكل مرجعية الشعب الفلسطيني وقيادته وممثلة الشرعي الوحيد لم تنجح في تكوين جبهة وطنية متحدة قائمة علي الشراكة السياسية، وقادرة علي تجميع طاقات الشعب الفلسطيني وزجها بكامل ثقلها في ميدان الصراع والمواجهة مع هذا الكيان الغاصب.
وفي إطار الحديث عن الاستراتيجيات، فإن فصائل المقاومة تعاني من اختلال في الرؤية كما أنها "أحادية النظرة" للوسائل, ولم تتعامل مع الصراع بكل أبعاده وتخوضه بديناميكية مثمرة، من حيث أولوية أشكال النضال، استناداً إلي قراءة متغيرة للإحداث، وارتباطاً بمدي تحقق الأهداف.
لقد عانت الساحة الفلسطينية من النزاعات والخلافات الحزبية والتي استنزفت الكثير من الوقت والجهد, ومنحت الاحتلال فرصة ثمينة للاستمرار في تطبيق مشاريعه في الأراضي الفلسطينية.. فمنذ عدة سنوات تعاني الساحة الفلسطينية من انقسام خطير, يتسم بالشمولية ويدفع المصالح الفصائلية والسلطوية لتعلو فوق المصالح الوطنية, وهو يعيدنا - ولو بشكل ومضامين مختلفة - إلي طبيعة الصراع الحزبي للحركة الوطنية الفلسطينية قبل عام 1948م، والتي كانت محكومة بطبيعة الوجاهات والعصبية القبلية.
استراتيجية موحدة في مواجهة الاحتلال
إن الفلسطينيين اليوم هم أحوج ما يكونون إلى صياغة استراتيجية وطنية جامعة ترسم طريق التحرير الحقيقي، وتضع أقدامهم على المسار الصحيح بعد عقود من العمل المتناثر؛ المتعارض والمجزوء.. للأسف، فإن حقيقة الأمر وجوهر المسألة، أن الذي يدَّعي بأن الساحة الفلسطينية عبارة عن "خطوط متوازية لا تلتقي" فإنما يصطنع وهماً، ويختلق عذراً للتهرب من فرصة ذهبية لتوحيد الصف الفلسطيني، حيث إن تجارب الشعوب علمتنا "إن البيت المنقسم على نفسه لا يمكنه مواجهة التحديات"، وأننا إذا لم نلتق ونتوحد فلن نتحرر.. وإذا بقيت الخطوط متوازية – كما يعتقد بعض المؤدلجين فكرياً - فإن فلسطين والتحرير سيظلان خطين متوازيين أيضاً !!
إن على الجميع – الوطني والإسلامي – أن يعلم بأن مرحلة التحرر لا تحتمل الصراعات الداخلية والنزاعات الفصائلية، ولا الغرق في صغائر وهوامش الأمور، بل هي مرحلة كبيرة تتطلب عقولاً واعية، وجهوداً جبارة، واجتماعاً للشمل الوطني والإسلامي، حيث إن العقل الحزبي يظل - وحده - قاصراً أمام متطلبات بناء الأوطان.
إن المشروع الوطني يتطلب إخضاع كل الرؤى والأيديولوجيات له، بحيث تصبح إحدى مكوناته، وليس أن يتم إلحاق المشروع الوطني بمشاريع أخرى ويكون تابعاً لها.
إن إعادة بناء وتأسيس المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر وطني يعني التعامل مع شعب قوامه أكثر من عشرة ملايين فلسطيني في الوطن والشتات، وهذا يتطلب تفعيل دور نصف الشعب الفلسطيني الذي تمَّ تهميشه لفترة طويلة، الأمر الذي يتطلب من الجميع ضع هذا المشروع على سُلم أولوياته وواقع اهتماماته، لكي ننجح في وقف عمليات التوسع الاستيطاني بالضفة الغربية، ووضع حدٍّ لإجراءات التهويد المستمرة بالمدينة المقدسة.
إن مدخل هذا المشروع ليس بالضرورة الانتخابات التشريعية والرئاسية، وليس التوافق على حكومة وحدة وطنية، بل إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستوعب الكل الفلسطيني.. لذلك، فإن نجاحنا في بناء منظمة التحرير على أسس جديدة وبقيادة جديدة سيكون هو المفتاح لحل بقية القضايا بطريقة أسهل وأيسر كثيراً؛ فلن تنجح أية مصالحة أو شراكة سياسية أو مشروع وطني إن بقي أي فصيل فلسطيني خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية؛ لأن منظمة التحرير ليست حزباً أو فصيلا دينياً بل هي حاضنة "الكيانية السياسية" التي يعترف بها العالم.
وعلى هذا الأساس، فإن المطلوب هو مشروع وطني جديد، ليس مشروع سلطة وحكومة, بل مشروع حركة تحرر وطني يجمع ما بين السعي لإيجاد حل سياسي مقبول للقضية الفلسطينية من جانب، والحق بالمقاومة من جانب آخر.. مشروع يضع حداً للفصل التعسفي الذي ساد في الساحة الفلسطينية ما بين العمل السياسي والفعل المقاوم.
باختصار؛ إن المشروع الوطني التحرري المطلوب هو مشروعٌ يوفق ما بين الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية.. وحتى يكون هذا المشروع وطنياً بالفعل، فإن ذلك يوجب أن يكون هو مشروع "الكل الفلسطيني" في الداخل والخارج، وكذلك أن يكون هو مشروع "الكل الوطني" الذي يستوعب الجميع؛ الأحزاب والحركات، وكل المجموعات والأيديولوجيات؛ الدينية والعلمانية.
مرحلية السلطة ومرحلية التحرر
إن التداخل بين المرحلتين – السلطة والتحرر – قد تسبب في إحداث أزمة كبيرة داخل المجتمع الفلسطيني، وخلق حالة من الإرباك والتعارض بين المرحلتين. لقد استنزفت مرحلة السلطة والصراع حولها جزءاً كبيراً من طاقة التحرر، خصوصاً بعد عجزنا في تكييف حالة تعايش سياسي بين الكل الوطني والإسلامي، وإخفاق السلطة في تقديم نموذج ناجح لتحسين أوضاعنا المعيشية والأمنية، حيث انحرف مسار الصراع مع الاحتلال، وفقد الكثير من مقومات استمراره وقوته بسبب ما استعر من خلافات حول إدارة السلطة والتنازع عليها.
من هنا، تأتي الحاجة الملحة لعملية الفرز، وإيجاد حالة من الانسجام والتكامل بين السلطة ومشروع التحرر الوطني، بناءً على الأسس التالية: أولاً؛ أن أصل المرحلة هي التحرر الوطني، وأن السلطة تشكل جزءاً تابعاً لا أصيلا. ثانياً؛ أن السلطة يجب أن تخضع لمقومات مرحلة التحرر الوطني ولا تشكل عبئاً عليها.
وعليه فإن تعريف المشروع الوطني؛ أنه ما تلتقي عليه القوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية، لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وطموحاته الوطنية في التحرر والاستقلال والعودة وتقرير المصير، باستخدام كافة الوسائل المشروعة.. ومن الجدير ذكره، أن مواجهة الفلسطينيين للمشروع الصهيوني ظلت تُراوح من حيث السلوك السياسي والكفاحي بين استراتيجيتين، لم يحسنوا دوماً استخدامهما، وهما: إدارة الصراع وحل الصراع؛ فمن خلال تشخيص خطابهم عبّروا عن رغبتهم الأكيدة في حل الصراع حلاً يكفل لهم حقوقهم، لكنَّ سلوكهم نحو إدارته اتخذ مساراً تعددت اتجاهاته نحو عدمية مطلقة أو تجريبية مفرطة.!! بينما تصرفت إسرائيل - في غالب الأحوال - بناءً على استراتيجية واضحة للغاية؛ إدارة الصراع على طريقة إنهائه خطوة خطوة (Step by Step)، وبما يحقق أهدافها وتطلعاتها التوسعية.
لقد طبعت المراوحة المرتبكة بين الاستراتيجيتين - وأحياناً المزاوجة المتعسفة بينهما - سلوك الفلسطينيين، مما أفقدهم زمام المبادرة والقدرة على الإنجاز.. إن وضع الشعب الفلسطيني الراهن يستدعي بناء استراتيجية موحدة في مواجهة التحديات، ويجب أن تُستمد من مضمون مشروعه الوطني التحرري.
لقد كان للفلسطينيين منذ البداية مشروعهم الذي أجمعوا عليه، وألهمهم في مواجهة التحديات، وسمح لهم بالتباين والاجتهاد، وحفظ تعددهم السياسي والأيديولوجي، وأثرى كفاحهم من أجل الحرية والاستقلال.. ومع تغير الأحوال وتبدل موازين القوى، بدا أن إجماع الفلسطينيين حول ثوابتهم قد اهتز، وقدرتهم على الدفاع عنها تراجعت، وبات انقسامهم على أنفسهم مصدر ضعف وذلة وهوان لهم، وحصان طروادة الذي اخترق قلعة صمودهم، الأمر الذي جعل البحث عن ثوابت محل اتفاق ومصدر إلهام لاستمرار كفاحهم هو بمثابة ضرورة وطنية عاجلة، دون تشكيك في البدايات، وجلد مبالغ فيه للذات.
إن جوهر المشروع الوطني الفلسطيني ينطوي على فكرة التحرر وبناء الكيانية، وقد اشتمل هذا المشروع على ثوابت متفق عليها؛ ألهمتهم ووحدتهم واستنفرت قواهم للدفاع عنها.. وبناءً عليه، فإن العمل لتحقيق الأهداف يوجب ضرورة التنوع في استخدام الوسائل؛ سواء أكانت المقاومة المسلحة أو العمل السياسي أو النضال الشعبي، كما أن تعددها يفتح المجال واسعاً أمام تعدد الخيارات، وتحقيق الإنجازات، ومعالجة الصراع، بحسب طبيعة الظروف والمناخات القائمة.
جدلية المقاومة والمفاوضات
من البديهي القول إن المقاومة تحظى بإجماع وطني، باعتبار أنها حق مشروع ما دام الاحتلال الاسرائيلي قائماً في الأراضي الفلسطينية، وهي تشكل أداة مهمة من أدوات الصراع، وتحقيق الطموحات والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.. ولقد مورست المقاومة الفلسطينية بكافة اشكالها من قبل الفصائل والقوى التي تبنت هذا الخيار، وساهمت في تحقيق مكاسب ملموسة في إطار الصراع المشروع ضد الاحتلال. غير أن المشكلة الرئيسة التي واجهتنا جميعاً، هي كيفية نظم المقاومة بطريقة تكفل أن تكون أكثر قوة ونجاعة، ومتمشية مع الأهداف العامة والرؤية السياسية المتوافق عليها بين الجميع. إن عدم نظم العلاقة بين فصائل المقاومة أدى - في بعض الأحيان - إلى خلق حالة من الإرباك وعدم الانسجام في توجيه البوصلة في اتجاهها الصحيح.. لذا، فإننا نرى أن وضع المقاومة ضمن إطار ينظم عملها ويُرشد سياساتها، ويناغم بين مختلف أطرافها، هو من أهم الأولويات التي تُرسِّخ لعلاقة وطنية أكثر تماسكاً وتلاحماً. من هنا، فإننا نرى أن تشكيل جبهة مقاومة يمثل ترجمة عملية للأهداف التي نطمح الى تحقيقها. لقد اجتازت المقاومة الفلسطينية - بشقيها الشعبية والمسلحة - داخل الأراضي المحتلة مراحل عدة؛ تاريخية وسياسية وميدانية، بحيث ظهرت وكأنها تتجه نحو ثورة شعبية حقيقية، بدأت بالتظاهرات التي شملت كافة المناطق المحتلة طولاً وعرضاً، ودخلت الشوارع والأحياء والأزقة، مثلما اجتاحت المدن والقرى والمخيمات، وضمت كافة قطاعات السكان - صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، عمالاً ومتعلمين - وباتت ثورة شاملة ضد الاحتلال، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، فإن علينا أن نفهم ونتفهم كذلك بأن المفاوضات ليست عملاً يتعارض مع الفعل المقاوم أو هي حالة اشتباك معه، فهي في النهاية وسيلة من وسائل إدارة المنازعات الدولية؛ وقت السلم ووقت الحرب، والتي يمكن من خلالها تحقيق انجازات وطنية ودعم المشروع الوطني, بشرط أن تنضبط المفاوضات بالإطار الوطني والحقوق والثوابت الوطنية .
وأخيراً، فإن علينا أن نقر ونُسلم بأن القضية الوطنية عاشت طوال عقود ماضية حالة من مراحل الازدهار والانتعاش، أسفرت عن أجواء من الاستقطاب الإقليمي والدولي عزَّ نظيره في سواها من حركات التحرر العالمية، وذلك بفعل عوامل عديدة، لعل من أهمها هو انطلاق قواها السياسية من مفاهيم أدركت بوعي كبير الخيط الفاصل بين الهدف الاستراتيجي ووسائله التكتيكية.
ولما غاب هذا الإدراك – للأسف - في عقود متأخرة، بتنا نشهد حالة "التناحر والتجاذب" بين التكتيكي والاستراتيجي، وأحياناً كثيرة تقدم الأول على الثاني، وربما أخطر من ذلك أن يتم توظيف الثاني لخدمة الأول!
وهنا، لابدَّ من تقرير حقيقة مفادها: إن لكل فريق سياسي فلسطيني الحق في العمل لانتمائه التنظيمي، ولكن لا ينبغي أن يكون الانتماء بحد ذاته هو السبب وراء هذا النهج أو ذاك - تأييداً أو معارضة - بل يجب أن يكون إنجاز المشروع الوطني معياراً مشتركاً لدى جميع الانتماءات والفئات للتأييد أو المعارضة، "فالحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء" كما يقول الإمام عبد الحميد بن باديس (رحمه الله).