في فقه الدين والسياسة: الإسلاميون وتدبير المستقبل
نشر بتاريخ: 30/03/2014 ( آخر تحديث: 30/03/2014 الساعة: 10:59 )
في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها قضيتنا الفلسطينية، وأجواء التكالب لكسر شوكة حركة حماس والحكومة في قطاع غزة، مع ما يتعرض له الرئيس أبو مازن من تهديدات إسرائيلية وغربية مرَّة أخرى، إضافة للحالة السياسية المتهالكة عربياً وإسلامياً، يبدو مشروعنا الوطني كله مهدداً، الأمر الذي يوجب علينا جميعاً كقوى وطنية وإسلامية أن نتقارب وأن يشدَّ بعضنا من إزر بعض، حتى لا يتفرد بنا أحد بسيف الضغوط والحصار فتضيع القضية، وتذهب دموعنا حسرات على الوطن، والذي – للأسف - لم نستطع أن نحافظ عليه مثل الرجال، كما قالت "عائشة الحرة" بعد أن وقَّع ابنها أبو عبدالله الصغير – بذلة وانكسار - وثيقة التنازل عن مدينة غرناطة؛ آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
إن هناك لحظات مفصلية في تاريخ الشعوب والدول، تجد فيها نفسها أنها مضطرة لترتيب "خروج آمن" لها من ورطة سياسية أو أزمة اقتصادية، وفي التاريخ المعاصر يمكن الإشارة إلى بريطانيا العظمى، والتي أخذت تظهر عليها عوامل الضعف والترهل قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي دفعها لتبني سياسة "الأفول الآمن"، للحفاظ على مستقبل وجودها ومكانتها بين الأمم، وكرامة تاريخها الإمبراطوري، وذلك بتوريث قيادتها للعالم للولايات المتحدة الأمريكية عبر تفاهمات واتفاقات صاغتها معهم؛ باعتبار أن أمريكا هي القوة الفتية الصاعدة عسكرياً واقتصادياً، وتتوفر لها الإمكانيات البشرية والتقنية والحضارية لقيادة العالم.. وفعلاً؛ تمت لها عملية التوريث والانسحاب من خريطة الدول العظمى (Superpower) بنجاح، وها هي بريطانيا – اليوم - ما تزال تعيش آمنة مستقرة في ظل القيادة الأمريكية للعالم.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هناك لحظة معينة في تاريخ الحركات والشعوب والدول يمكن تحديدها لتلافي السقوط أو الانفجار؟
بالتأكيد؛ ولكن قراءة تلك اللحظة واستيعابها هي مهمة أهل الحكمة والاستشراف، وفي تاريخنا الإسلامي من الشواهد التي يمكننا الاستعانة بها والاحتكام إليها والرد على من يجادلون – بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير - أن البطولة في الانتحار أو اللجوء لما يسمى بخيار شمشون؛ أي "عليَّ وعلى أعدائي يا رب.!!".
* الإسلاميون وفكرة الانسحاب الآمن
في تاريخنا المعاصر، هناك عدة وقائع وتطورات حدثت مع بعض الحركات الإسلامية، والتي ساد فيها منطق العقل والحكمة في "لحظات حرجة"، وأسهم حسن التصرف والتدبير بحمايتها من الاستئصال، ونجاتها من التآمر لتهميشها ونزع شرعيتها، ويمكننا في عجالة أن نسرد - عن دراية واطلاع – تلك التصرفات، والتي صاحبتها الحكمة وحسن التدبير لأربعٍ من تلك الحركات الإسلامية، وهي:
أولاً؛ التجمع اليمني للإصلاح، تأسس الحزب رسمياً فور إعلان الوحدة اليمنية عام 1990م، وبقي الشيخ عبد الله الأحمر؛ رئيس الحزب، حليفاً للرئيس على عبد الله صالح، وبالذات فيما تعلق بتهميش وتقليص دور الحزب الاشتراكي اليمني؛ الخصم السياسي وصاحب النفوذ الأقوى في الجنوب.
في عام 1993م، وقع الانفصال بين الشمال والجنوب، ودخل اليمن في حرب أهلية استمرت لحوالي شهرين، وانتهت بانتصار الشمال، وقد أبلى الإخوة في التجمع اليمني للإصلاح بلاء حسناً، وأسهموا في عملية الاستنفار للدفاع عن مشروع الوحدة، ومنحوا غطاء "الشرعية الإسلامية" لقتال دعاة الانفصال اليساريين، بالرغم أن السعودية ومعها معظم الدول الخليجية - باستثناء قطر - وقفت إلى جانب علي سالم البيض والحزب الاشتراكي اليمني ضد الرئيس على عبدالله صالح، ولولا مساندة حزب التجمع (الإسلامي) وتعبئته للقوى الإسلامية حتى في مناطق الجنوب لسقط النظام في الشمال، وأصبحت البلاد لقمة سائغة تحت سطوة اليسار والشيوعيين.
بعد كسب الشمال الحرب، وفي أول انتخابات جرت بعد أن وضعت الحرب أوزارها، شارك حزب التجمع في حكومة ائتلاف ثنائية مع المؤتمر الشعبي العام من يوليو 1994 وحتى إبريل 1997م.
كانت الفرصة – آنذاك - متاحة للإسلاميين لاكتساح الساحة السياسية، ولكن تقديرات قيادة الحزب ارتأت عدم التسرع، وتوخي الحكمة والحذر، حيث قررت الدخول في تحالف قوي مع الرئيس على عبدالله صالح لحماية استقرار وحدة البلاد، وقطع الطريق أمام ما تتعرض له من تآمر من الداخل وبعض دول الجوار. لذا؛ كان التوجه لدى الإخوان في التجمع اليمني للإصلاح أن يترشح عددٌ لا بأس به من أعضائهم على قوائم حزب المؤتمر الشعبي العام، ليضمن له الفوز بالأغلبية التي تحفظ له مكانة الصدارة باعتباره الحزب الحاكم، والاكتفاء بأن يأخذ حزب التجمع (الإسلامي) المكانة الثانية من حيث الترتيب، مع بناء شراكة سياسية وصيغة تحالف قوية مع حزب المؤتمر الشعبي، وأن يتمتع الحزب بمكانة وحظوة لدى الرئيس عبدالله صالح، وأن يتوسد رئيس الحزب الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئاسة البرلمان.
بعد عام 1997م، بدأ التباعد في السياسات والمواقف بين الرئيس عبدالله صالح والإخوان في حزب التجمع، وتعززت العلاقة - بعد ذلك - بين حزب التجمع الوطني وأحزاب اللقاء المشترك المعارض، حتى وصلت لمرحلة التنسيق وتقديم قوائم مشتركة بعدد من الدوائر الانتخابية والهيئات والنقابات، وتقدمت معاً بوثيقة الإصلاح السياسي الوطني يوم 26 نوفمبر 2005م، وتجلى ذلك من خلال مشروع الإصلاح السياسي والوطني الشامل، الذي تضمن رؤية موحدة إزاء القضايا الوطنية والتوقيع على اللائحة الأساسية لعمل اللقاء المشترك، وتوج هذا التنسيق بدعم حزب التجمع واللقاء المشترك للمهندس فيصل بن شملان مرشحاً بالانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2006م .
ومع تدهور العلاقة بين المعارضة والحزب الحاكم، شارك حزب التجمع في تشكيل مجلس التشاور الوطني في يونيو 2008م، والذي عقدت هيئاته المختلفة ملتقى وطنياً يومي 21-22 مايو2009م انبثق عنه تأسيس اللجنة التحضيرية للحوار الوطني.
وفي 3 فبراير2011م وبعد خلافات مع الرئيس اليمني لعدم تجاوبه مع الحوار الحقيقي الذي يُخرج اليمن من أزمته، قاموا مع بقية أبناء الشعب بثورة الشباب، والتي تهدف إلى رحيل الرئيس عبد الله صالح ونظامه الفاسد، وإنشاء دولة مدنية تحتضن الجميع.
لقد اقتضت الحكمة في مرحلة تاريخية معينة أن يتخلى الإسلاميون عن ارتباطهم وتحالفهم مع الرئيس عبد الله صالح، وأن يعودوا إلى قواعدهم والدخول في شراكات أقرب لنبض الشارع وحركية النخبة الشعبية فيه، الأمر الذي حفظ الحزب فاعلاً في الميدان، وأبقى على قوته السياسية والشعبية في ظل تحالفات جديدة، ضمنت له البقاء رقماً صعباً داخل معادلة السياسة والحكم في اليمن.
ثانياً؛ حركة مجتمع السلم (حمس) الجزائرية؛ عاشت الجزائر محنتها الوطنية الدامية من عام 1992 إلى 2002م، حيث أصاب البلاد والعباد الدمار والخراب وخسرت الدولة الجزائرية في صراعها مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) أكثر من 25 مليار دولار، وسقط من أبنائها أكثر من مائة ألف قتيل، في صراع غاب فيه صوت العقل والحكمة، وتوسعت فيه الفتاوى وأصوات الحناجر لتصحو البلاد كل يوم على مجزرة بأيدي النظام أو عناصر المعارضة الإسلامية.. أدرك الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله)؛ مؤسس الحركة الإسلامية في جزائر مع بعد الاستقلال، بأن البلاد تتدحرج نحو الكارثة، وأن السلطة والمعارضة الإسلامية قد فقدا البوصلة، وأن الجزائر إذا ما استمر الصراع بهذه الدرجة من الجنون وغياب البصيرة فسيتم استئصال التيار الإسلامي وتذهب البلاد في اتجاه التقسيم.
لذلك، خرج عن صمته، واتخذ موقفاً وجد فيه الكثير من الإسلاميين أنه يمثل حالة من التواطؤ مع الجيش وانحياز للدولة، وطالته ألسنة الكثيرين حتى داخل حركته.
كانت مشاهد الدم والمجازر، وماكينة استهداف الإسلاميين بذريعة التمرد والمعارضة، تعطي جنرالات الجيش العذر في استباحة كل ما هو إسلامي بدعوى الحفاظ على الدولة الجزائرية.
دخل الشيخ نحناح على خط المشاركة في الانتخابات عام 1994م، وفاز في المرتبة الثانية، فيما تُجمع الغالبية من الناس أن الانتخابات تم تزييفها ليفوز مرشح الجيش، وقد سلَّم الشيخ وحركته بالنتائج، ودخلوا الحكومة بهدف قطع الطريق أمام استمرار مسلسل القتل والجريمة، والحفاظ على بعض ما تحقق للإسلاميين من مكاسب.
كان الشيخ نحناح رمزاً للوسطية والاعتدال، وكانت هذه الالتفاتة الذكية منه بالمشاركة في الانتخابات، والدخول على خط الحكومة، هي التي حمت الحركة الإسلامية من التصفية والتهميش.. كان الشيخ نحناح في الحقيقة هو رجل المرحلة وكان - فعلاً - سابقاً لزمانه، إذ لم ينصفه قومه إلا بعد أن انتهت تلك المحنة الوطنية الدامية، وقد شهد له الكثيرين من الدعاة والسياسيين بأن تغريده وحيداً مع حركة مجتمع السلم خارج سرب المعارضة الإسلامية التي مثلتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) كان وراء الحفاظ على المشروع الإسلامي، بالرغم من الضربات القاتلة التي وجهها له جنرالات العسكر والتيار العلماني الاستئصالي هناك.
ثالثاً؛ الإسلاميون في تركيا، في عام 1969م تمكن أربكان من تأسيس حركته الإسلامية باسم "مللي قروش"؛ أي الرؤية الوطنية، ودخل بها الانتخابات البرلمانية حيث تمكن من إيجاد موطئ قدم له داخل مؤسسة الدولة، والتي كان بلاطها محرَّماً على أي إسلامي دخوله.. استمر نجم الدين أربكان؛ مؤسس الحركة الإسلامية في تركيا المعاصرة، اللعب بذكاء لكسر احتكار العلمانية الأتاتوركية للحكم، وظل يشارك في الانتخابات ويتقدم الصفوف حتى أصبح شريكاً في الحكم، من خلال الائتلاف الذي أقامه بين حزبه الرفاه وحزب الطريق المستقيم بزعامة تانسو تشيلر، وقد تقاسم معها رئاسة الوزراء، وكان أول إسلامي يصل إلى هذا المنصب قبل أن يجبره الجيش على الاستقالة عام 1997م.
ومع تكرار تدخل الجيش في الحياة السياسية وإفساده لفرص الإسلاميين في حكم البلاد، جرت مراجعات داخل الحركة عام 2000م، حيث ارتأت بعض القيادات ضرورة تغيير قوانين اللعبة مع الجيش والمؤسسة العلمانية الحاكمة للبلاد.. استلزم الخلاف حول طبيعة المواجهة مع المؤسسة العسكرية خروج فصيل "أردوغان – عبدالله غول" من الحركة الأم عام 2001م، وتأسيس حزب جديد باسم "العدالة والتنمية"، وبرؤية ترتكز على مفاهيم ديمقراطية وحقوقية والمشاركة في الانتخابات البرلمانية عام 2002م والفوز الكاسح لحوالي ثلث مقاعد البرلمان الذي منحهم الحق في تشكيل الحكومة برئاسة الطيب رجب أردوغان.
استمرت نجاحات الحركة في كل الانتخابات التي جرت بعد ذلك، ولا زال حزب العدالة والتنمية يتصدر الحياة السياسية في تركيا بامتياز، ونجح في إخراج تركيا من أزماتها المالية وتحجيم دور العسكر في الحياة السياسية، وتمكن من وضع تركيا على الخريطة كأحد أهم القوى الاقتصادية في العالم، والدولة التي تمر عبر أراضيها وموانئها أهم خطوط نقل الطاقة من بلدان الشرق الأوسط إلى الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
لا شك أن أهم ابداعات أردوغان أنه فتح الحزب لكل من يريد خدمة تركيا، فدخل معه شركاء من كل ألوان الطيف السياسي والفكري والعرقي والمجتمعي، على قاعدة بناء تركيا العصرية التي تسود فيها قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، الدولة التي تتمتع بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة.
رابعاً؛ حركة التوحيد والإصلاح المغربية، في عام 2000م التقيت الأخ عبد الإله بن كيران في واشنطن، حيث كنت دعوته للمشاركة في مؤتمر كنا عقدناه في جامعة جورج تاون بعنوان "الإسلام وأمريكا والألفية الجديدة"، وقد تحدثنا بالشأن الإسلامي العام، وعرَّجنا في نقاشنا على الأوضاع الإسلامية في المغرب وداخل الحركة الإسلامية هناك، حيث كانت الساحة الإسلامية تحتدم بالنقاش حول طبيعة العلاقة مع القصر، باعتبار أن "إمارة المؤمنين" كصفة ممنوحة للملك تشكل مدخلا للتشكيك في طهارة التيار الإسلامي، وقد أدخلته في حالة من الجدل استدعت سياقاتها تنامي الخلافات، وربما تبادل الاتهامات بين بعض القيادات الاسلامية، حيث لم تتمكن الحركة الإسلامية منذ السبعينيات حيث كانت بداية انطلاقتها من حسم لمسألة الإمارة إلا بعد الوحدة الاندماجية بين كل من "حركة الاصلاح والتجديد" و"رابطة المستقبل الاسلامي" عام 1996م، واختيار د. أحمد الريسوني رئيساً لها.. وقد تمَّ النظر لقضية "إمارة المؤمنين" باعتبارها من المرتكزات التي يقوم عليها بناء الدولة المغربية، وهي رمز لهذه الحقيقة وضمان لحفظها واستمرارها.
لقد طالت الأخ عبد الإله بن كيران بعض اتهامات الموالاة للقصر، وظل يعاني داخل الحركة حوالي عقد من الزمان.. ولما حسمت الحركة خياراتها من مسألة "إمارة المؤمنين"، واعتبرتها أحد ركائز الحكم في المغرب، انفتحت الأبواب مشرعة وحدث التقارب سريعاً مع القصر، الأمر الذي مهد الطريق للإسلاميين لتشكيل حزب سياسي لأول مرة في تاريخ حركتهم التي أسسها الأستاذ عبد الكريم مطيع عام 1970م.. وعندما باشر الإخوة في حركة التوحيد والإصلاح بإنشاء حزبهم السياسي لم يجدوا أفضل من "بن كيران" يصلح لتولي رئاسة الحزب، والذي أسسوه باسم "العدالة والتنمية"، وهو الذي طالما اتهموه بالتغريد خارج السرب.!!
وفعلاً؛ تمكن "بن كيران"؛ المعروف بالوسطية والاعتدال من قيادة الحزب، والمشاركة في الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2011م، وقد ونجح عبر تحالفاته مع حزب الاستقلال، وحزب الحركة الشعبية من الوصول إلى سدَّة الحكم.
لقد تمكن "بن كيران"؛ كرئيس للحكومة، في العمل – بحكمة وذكاء - على تجنيب المغرب والحركة الإسلامية ما شاهدناه من ويلات وحروب أهلية دامية في العديد من دول الربيع العربي، وقبل ذلك في العراق وأفغانستان.
اليوم، تعيش الحركة الإسلامية في المغرب حالة من التصالح مع نفسها ومع القصر، من خلال وجود حزب العدالة والتنمية؛ باعتباره الذراع السياسي لحركة التوحيد والإصلاح، وتمارس الحركة حريتها في الدعوة والتربية والتكوين، والعمل الدؤوب للعودة بالمجتمع المغربي إلى فضاءات الدين الحنيف والقيم الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة، لتضيف إلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي نموذجاً آخر في الحكم الرشيد، والذي يمكن الإشارة إليه والإشادة به والتطلع لمحاكاته، وخاصة من الحركات الإسلامية التي لها رؤية في إدارة شئون السياسة والحكم.
وأخيراً ما شاهدناه في تونس، حيث قررت حركة النهضة الإسلامية - بهدوء ودونما مكابرة - ترك الحكومة، وذلك بترتيب "خروج آمن" لكل وزرائها، بعدما ظهرت مؤشرات التآمر والتحريض عليها، والمحاولات المتكررة لإفشال جهودها في الإصلاح والتغيير والتجديد، حيث ما زالت أركان الدولة العميقة (Deep State) المتنفذة في جميع المؤسسات الحكومية والأجهزة الأمنية والنقابات العمالية قادرة على إشغالها عن تحقيق الكسب والرفاهية الذي ينتظره الشارع التونسي من حكومة ما بعد الثورة والربيع العربي.. لقد اختار الشيخ راشد الغنوشي؛ رئيس الحركة، ترك الحكومة بتفاهمات وطنية والاستمرار في منظومة الحكم، من خلال بقاء نوابه الذين يمثلون الأغلبية في البرلمان، وممارسة حركته الإسلامية لحقها كاملاً في الرقابة والتشريع.
لا شك أن الشيخ راشد بحكمته وحنكته المعهودة قد آثر اللجوء إلى سياسة التهدئة وامتصاص الصدمات والرهان على المستقبل، باعتبار أن حركته ما تزال حديثة عهد بالحكم، ولا بأس من الانتظار حتى الانتخابات القادمة، وعلى ضوء نتائجها يتم دراسة حجم المشاركة السياسية في أية حكومات قادمة.
قراءات وشواهد في تاريخنا الإسلامي.
عندما نستقرئ الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة نجد أن التخطيط للمستقبل كان واضحاً في شخصية النبي الكريم (ص)، ومن ذلك حادثة الهجرة لبناء الدولة الإسلامية في المدينة المنّورة، حيث أعلنت قريش عن جائزة لمن يُمسك بمحمد قدرها مائة ناقة، فذهب سُراقة بن مالك ليظفر بالجائزة، ومع أنه غاصت قدما فرسه في الرمال قرب الغار الذي كان فيه النبي محمد (ص) ورفيقه أبوبكر الصديق (رض) فقد قال له الرسول الكريم (ص): "يا سُراقة؛ ستلبس سواري كسرى"؛ أي أعطاه وعداً بأكثر مما عرضت عليه قريش.
إن المسلم يستشعر بأنه مسؤول عن ارشاد الناس إلى الحق والهدى، وهو المسؤول عن نجدة المظلومين كلهم، والعمل على رفع الظلم والحيف عنهم في العالم أجمع.
وإن المنهج الإسلامي المبني على التدرج ونظام المراحل من التعريف إلى التكوين إلى التنفيذ ليدل دلالة عظيمة على منهجية الإسلام المتفردة في التدبير للمستقبل، والعمل الجاد من أجل تحقيق المستقبل الأفضل للفرد والأسرة والمجتمع.
تنطلق ظاهرة "تدبير المستقبل" واستشراف مستقبل العالم باعتبار أن الإسلام ليس منهجاً روحياً وعبادياً فقط، إنما هو منهج شامل متكامل يعالج الواقع كله على اختلاف الطبيعة الاجتماعية وتنوعها.
كما أننا عندما نستعرض السيرة النبوية نجد أن استعدادات المستقبل كانت واضحة وجليّة في أكثر من مرحلة، فقد كان إرسال الصحابي الجليل مُصعب بن عمير (رض) إلى يثرب قبل الهجرة النبوية يمثّل أعلى درجات حسابات المستقبل، فقد قام مُصعب بتعريف الجميع بالقرآن وقرأه عليهم، وبمحمد النبي، الأمر الذي مهد لهجرة ناجحة كانت المهد وحجر الزاوية في بناء أولى لبنات الدولة الإسلامية هناك.. لقد كان عمل مصعب (رض) يمثل التهيئة الشعبية والإعلامية لإنجاح عملية الهجرة، وقد حصل ذلك بنجاح باهر عبر قناعات تولدّت للجمهور بواسطة تهيئة دقيقة ومتينة، مما جعل ظاهرة الهجرة إلى المدينة المنورة تختلف طريقة ونتيجة عن الهجرة إلى الحبشة أو الذهاب إلى الطائف.
وفي صلح الحديبية تظهر أبدع ظواهر "تدبير المستقبل"، فقد قبل الرسول (ص) محو كلمة (محمد رسول الله) لهدف أبعد مدى يتعلق بتأمين المستقبل الإسلامي، وقد دخل من الناس في دين الله تعالى بعد مرحلة الانفتاح والسلم تلك ما يعادل من دخلوا في الإسلام قبل صلح الحديبية، والذي سمّاه القرآن الكريم "فتحاً مبيناً".
وأيضاً، في وضع ثُلث ثمار المدينة ما يدل على ضرورة استقراء المستقبل الذي يُحقق الأمن والسلام للأمة المسلمة، فعندما وجد الرسول (ص) حركة احتجاج على اجتهاده، قال لهم موضحاً: "ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العربَ قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمرٍ ما".
إن هذا الأسلوب من التخذيل بكسب مواقف الآخرين أو تحييدهم هو ما نحتاج لفهمه والعمل به، حيث إن المطلوب - اليوم - هو ألا يركب أحدنا دماغه ويورد بحنجرته الأمة موارد الهلاك.
لقد اعتمد الرسول (ص) سياسية التخذيل وتحييد الخصوم، بهدف حماية الدعوة والأقلية المسلمة، ويشار إلى أن مجمل الوثائق السياسية التي عقدها الرسول (ص) والبالغة (287) وثيقة كان دافعها وموجبها هو تأمين مستقبل أعز وأقوى وأحكم للأمة المسلمة.
الحكومة في غزة: المأزق والطريق الآمن للخروج
قديماً قالوا: "ونصف الناس أعداءٌ لمن *** وليَّ الأحكام، هذا إن عدل".. فالحكومات دائماً أمام خيارين؛ إما تقديم الخدمة والأمن وتوفير العيش الكريم للمواطنين، وبالتالي كسب قلوبهم ونيل رضاهم والحصول على المباركة والدعم في الاستمرار، وإما تقديم الاستقالة؛ في حالة العجز والقصور عن تلبية طلباتهم والوصول إلى سقف تطلعاتهم، لأن الاستمرار في الحكم مع غياب الإنجاز معناه التمرد عليها والعمل على اسقاطها بالقوة.
إن الشارع الفلسطيني قد يتفهم ما تعرضت له حركة حماس من مضايقات وضغوط حالت دون تحقيق تطلعاته في حياة حرة كريمة، وهو يعي كذلك أن ما أنجزته المقاومة في تصديها - بقوة وجسارة - لأكثر من عدوان إسرائيلي، وتحقيق حالة من الاستبسال والصمود في الدفاع عن حمى الوطن، وكسر هيبة وأسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، إنما هي صفحات عزٍّ وفخر للشعب والقضية.
ولكن الذي لا يتفهمه هذا الشعب العظيم هو استمرار حركة حماس في تحمل عبء هذه الموجات العاتية من التآمر عليها منذ فازت بالانتخابات التشريعية في يناير 2006م، واطلاق يد إسرائيل لخنقها بالحصار والعدوان، إضافة لما تتعرض له منذ حصل الانقسام في يونيه 2007م من كافة أشكال التضييق والتهميش عربياً ودولياً، في حين أن بإمكانها تدبير خروج آمنٍ لها يحفظ مكانتها، ويعيدها إلى ما كانت عليه من منزلة متقدمة بين الناس، داخل فلسطين وخارجها.
لقد طرحت حركة حماس مبادرتها الجريئة قبل أسبوعين على لسان الأخ إسماعيل هنية رئيس الوزراء، وأبدت استعدادها للتخلي عن الحكومة، وتشكيل حكومة كفاءات بالتنسيق والتشاور مع الرئيس أبو مازن، والمضي قدماً بالذهاب للانتخابات التشريعية بعد ستة شهور، وشرعت باتخاذ الخطوات التي تساعد على التهدئة، والعودة بالعلاقة مع إخواننا في حركة فتح من حالة الاحتقان إلى التصافي ودمل الجراح.. وهذه كلها إرهاصات وبشائر بقرب تحقيق المصالح وإنهاء الانقسام.
ختاماً: العاقل من اتعظ بغيره
لا شك أن هناك الكثير مما يمكنا أن نقوله للدفاع عن تجربتنا في الحكم، حيث كان التآمر الغربي والتواطؤ الاقليمي والمناكفات السياسية والفلتان الأمني والعدوان الإسرائيلي المتكررة والحصار الظالم الذي لاحقنا منذ عملية "الوهم المتبدد" في صيف 2006م.. وأخيراً؛ قيام سلطات الحكم في مصر بإغلاق الأنفاق على طول الحدود مع قطاع غزة، والتي كانت تمثل شريان الحياة المعيشي والتجاري لأهل القطاع، إضافة لحملة التحريض والتشهير والتشويه المسعورة في الإعلام المصري لشيطنة حركة حماس، والتعامل مع الحكومة التي تدير قطاع غزة – للأسف - وكأنها حكومة معادية.!!
وتأسيساً على ما سبق، وتأسياً بكل ما ذكرناه من وقائع، فإننا نرى بأن عملية تدبير المستقبل تستوجب التصرف بحكمة وعدم انتظار حدوث الكارثة أو الانفجار.. إن هناك عدة مخارج تستطيع فيها الحركة الحفاظ على حضورها في منظومة الحكم دونما تحمل لمغارمه كاملة، وذلك باعتماد خطة "الخروج الآمن" بترتيبات مع الرئيس أبو مازن والسلطة في رام الله، والحفاظ في الوقت نفسه على ثقل المقاومة كرافعة وطنية تذود عن حياض الوطن، وتردع المحتل الغاصب من التمادي في عنجهيته السياسية وغروره العسكري.
ليس عيباً أن نعترف - جميعاً - بوقوع أخطاء، وغياب الحكمة في التصرف في بعض الأحيان، ولكن العيب هو في المكابرة والادعاء بأن كل شيء على ما يرام، وعدم رؤية الأشياء مجسدة بعذاباتها ومآسيها من كل زواياها الأربع.. إن الحزام قد بلغ الطُبيين، كما أن محاجر العينيين بالدمع غارقة تئن، وهذه كلها وصفات انهيار إذ لم يحدث التدارك، والعمل على تقديم كل ما يغري لإنجاح المصالحة وإنهاء الانقسام.