الجمعة: 29/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

في يوم الأرض: الطريق الطويلة إلى النقب المحتل

نشر بتاريخ: 06/04/2014 ( آخر تحديث: 06/04/2014 الساعة: 19:12 )
رام الله - معا- ريبورتاج بسام الكعبي - على السابعة صباحاً بالتوقيت الصيفي الجديد للوطن المحتل، اجتازت حافلة "الصليب" مخيم نور شمس تهتز مقاعدها المهترئة فوق العجلات البائسة، وتتمايل أجساد ذوي الأسرى بصمت في طريقهم الشاقة نحو معتقل النقب الصحراوي جنوب فلسطين المحتلة. كانت الحافلة تقطع بهدوء مدخل المخيم المكتظ بالسيارات والباعة وطلبة المدارس، وتقترب من نهاية رحلتها القصيرة على معبر الطيبة العسكري في الطرف الغربي لمدينة طولكرم، في حين كانت آيات مسجلة من الذكر الحكيم تلزم الصمت بين الركاب الفقراء الغاطسين بلونهم الرمادي والمتشحين بأحجبتهم السوداء، وتشحذ قلوبهم بالصبر والايمان لتحمل حجم معاناتهم وحدهم لمواجهة منفردة باجراءات زيارة قاسية وعدوانية!

بدأ صباح الأحد، يوم الأرض الخالد في الثلاثين من آذار، مزدحماً بوقائع التاريخ ومتفجراً بذاكرتي على وقع استعادة حكاية أم حسن الزهيري، واسترجاع صدى صوتها المنهك يروي قصة تغييب نجلها رأفت برصاص الاحتلال في يوم الأرض. نظرتُ من شباك الحافلة صوب منزلها الذي أعرفه جيداً في المخيم، وتخيلتُ الحاجة أم حسن تؤدي صلاة الفجر بوشاحها الأبيض ووجهها الملائكي، وتبتهل إلى السماء لعل الخالق عز وجّل يمنحها مزيداً من القوة لتنتصر على أوجاعها المزمنة، لتظل تدعو بالمجد إلى رأفت؛ نجمها المشع في سماء الوطن، وقد روى بدم كبرياء لاجئ أرض الطيبة في المثلث المحتل.

استعدتُ خطفاً من خلف البرادي الكالحة لحافلة "الصليب" صور الحاجة عندما زرتها صباح الثلاثين من آذار العام 2008 برفقة مجموعة من زملاء المهنة؛ يتدربون على تدوين القصة الصحافية، لنشرها في وكالة محلية للأنباء. استعدتُ بسهولة نبرات صوتها المنتصر على أوجاعها المتزايدة، وقد ردد بتماسك، منذ ست سنوات مضت، حكاية الشهادة والغياب لثلاثة من أنجالها، ولا زالت حتى اللحظة تروي وقائع الغياب لفلذات كبدها، رغم صعوبة وضعها الصحي وتردي حالتها المرضية. حاول زميلي نعمان الشيخ المقيم في بلدة عنبتا المجاورة، زيارتها في يوم الأرض والاطمئنان عليها، لكن وضعها الصحي حال دون ذلك، أبدى تفهمه للاعتذار ودعا لها بالشفاء العاجل.

استعادت الحاجة أم حسن (80 عاما) من تحت أغطية سرير الشفاء، الذي حجز ركناً في غرفة واسعة من مبنى للسجن البريطاني القديم؛ ذكريات استشهاد نجلها رأفت في الثلاثين من آذار عام 1976: "فرض الاحتلال منذ الفجر حظر التجول على المخيم، لكن رأفت استطاع الصعود إلى باصات العمال والوصول إلى أقربائنا في بلدة الطيبة. على أرضها الطاهرة واجه قدره وخطفه رصاص الاحتلال مرة واحدة وإلى الأبد".

استشهد رأفت (22 سنة) مع خمسة شهداء من الجليل: خديجة قاسم شواهنة، خضر خلايلة ورجا أبو ريا (سخنين) خير ياسين (عرابة) ومحسن طه (كفركنا) احتجاجا على المخطط الإسرائيلي الذي يستهدف تهويد الجليل؛ بمصادرة أراض عربية جديدة، وبناء مزيد من المستوطنات.

بدت أم حسن فوق سريرها متماسكة صبورة في ثيابها البيضاء المطرزة، تردد الأدعية على حبات مسبحتها، وينبعث من وجهها الإيمان على وقع رواية حكاية الأبناء الثلاثة: فَقدَت عقب رأفت نجلها فيصل على أرض لبنان، فيما اختفى نجلها حسام عقب مواجهات مسلحة مع الاحتلال في طولكرم.

أنهى فيصل دراسته الثانوية والتحق في جامعات اليونان لدراسة الطب، ثم انتقل للدفاع عن المقاومة الفلسطينية في لبنان، وأصيب بمواجهات مخيم تل الزعتر أثناء حصاره في صيف 1976 من الكتائب الفاشية والقوات السورية، واستشهد بعد أربعة أشهر على اصابته البالغة، ودفن في مقبرة شهداء بيروت. فقدت حسام في مطلع انتفاضة القدس العام 2000 عندما استشهد الدكتور ثابت ثابت أمين سر حركة فتح في طولكرم برصاص قوات الاحتلال، ومنذ ذلك اليوم اختفى حسام في ظروف غامضة، ولا تعرف عنه شيئا. فَقدَت أيضاً ثلاثة من أبناء شقيقها خليل عارف: إبراهيم وحسين اللذان استشهدا في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحسن الذي استشهد عام 2003 تحت بصرها وأمام بيتها في المخيم.

مسحت أم حسن دموعها بطرف وشاحها الأبيض، وتركت لبصرها فرصة للتأمل في صور للشهداء تعلو جدار بيتها، بجوار لوحة فنية غرز فيها التشكيلي سليمان منصور لمسات ريشته فوق قصيدة شعرية تسلمتها الحاجة كدرع تقديري في السنوية الثانية لاستشهاد رأفت؛ أبيات شعر تسلمتها من المؤسسات الوطنية في الداخل المحتل تمجد الشهداء الخمسة الذين سقطوا مع نجلها، دفاعاً عن الجليل وبمواجهة كل محاولات التهويد والسيطرة على أرض القرى الفلسطينية القائمة.

أواخر شباط العام 1976 أقدم الاحتلال على مصادرة 21 ألف دونم من أراضي سخنين، عرابة البطوف، دير حنا وعرب السواعد في الجليل المحتل، وأعلنت حكومة الاحتلال حظراً للتجول على قرى الجليل من أجل تنفيذ مخططها. تصدى الفلسطينيون للاجراء الإسرائيلي، وأعلنوا الثلاثين من آذار يوماً للأرض، رافضين كل الاجراءات الإسرائيلية التي تستهدف تهويد الجليل وسلب أراضيه من أجل بناء المستوطنات.

2
ابتعدت الحافلة عن مخيم نورشمس، وتابعت مسارها باتجاه معبر الطيبة فوق وقود ذاكرتي لتشتعل بالأمكنة والأحداث التي تعرفها جيداً. بعد ساعة على انطلاقها من شرقي نابلس، واجتيازها طرقاً فرعية ضيقة في قرية بيت إيبا؛ لتتجاوز عمليات تأهيل الشارع الرئيسي العابر لأطراف بلدة دير شرف، حطت الحافلة على أسلاك المعبر.

حملتُ حقيبة محشوة بملابس للأسير عاصم، وبجانبها زجاجة ماء ووجبة طعام بسيطة، وساعدتُ ابنة عمي وسام في حمل حقيبة ملابس نجلها الأسير جواد. قطعتُ على وقع أصوات الباعة الممرات الضيقة الملتوية والمصلوبة بأسلاك شائكة، وبلغتُ حاجز التفتيش في سباق صامت مع عمال يتدفقون بأعداد كبيرة في طريقهم إلى ورشات الشقاء.

انتظم زوار السجن بصفوف تحت أسلحة الحراس، وكاميرات مراقبة تطلُ من فوق أربع (كابينات) زجاجية للفحص "الأمني" تحتوي كل واحدة على مسارين للتفتيش، وقبل التدقيق بأوراقنا، أقدم شرطي على سحب المستخدم وأغلق احدى (الكابينات) بذريعة انتهاء الدوام الذي لم يبدأ بعد، وطلب منا التوجه إلى المسارات المجاورة، ثم انتقل إلى (كابينة) أخرى وأغلقها، وأمرنا بالانتقال إلى مسار تفتيش جديد، ولم يتردد باغلاق (الكابينة) الثالثة، وبات أربعون زائراً يتنافسون مع عشرات العمال لعبور غرف التفتيش عبر (كابينة) واحدة بمسارين اثنين فقط!.

طال الانتظار تحت الاجراءات البطيئة المقصودة التي تستهدف النيل من معنويات ذوي الأسرى: ضع قدميك على العلامة الصفراء في قاعدة الجهاز الالكتروني الواسع، وارفع يديك، وضع الحقيبة والحذاء والجاكيت والحزام والنقود المعدنية على القشط الدوار، وسلم بطاقتك الشخصية هنا وتصريحك هناك، واعبر من هنا واغلق الباب خلفك من هناك. أوامر بلا نهاية تكشف حجم الكراهية الصامتة التي يمارسها موظفو الشركات الأمنية على المعبر بتعليمات شرطة الاحتلال، لضمان اجتياز مائة متر "بأمان" خالية من "الارهاب" المفترض في ساعة من الاهانة المختلطة بالعذاب، ستون دقيقة من التنكيل السري تستهدف مجموعة مسالمة من الأطفال والنساء والمسنين؟!

على التاسعة صباحاً انطلقت حافلة "الصليب" بلوحتها الإسرائيلية وسائقها العربي الفلسطيني في طريقها إلى الجنوب، وعَبرت بهدوء شوارع مدينة الطيبة: هنا استشهد رأفت الزهيري منذ ثمانية وثلاثين عاماً، لو اخطأ رصاص القاتل هدفه: هل سيكون إلى جوار مقعدي مسناً في الستين من عمره، يستجيب لرنة جهازه الخليوي ليطمئن زوجته بعبور سادية التفتيش لزيارة شقيقه وربما نجله في النقب؟ أم سيكون الأسير خلف شبك الزيارة، قامة عالية لم تتعب تحت ثقل سنوات الاعتقال، أسير حرية يبتسم بحرارة لجميع الزوار من خلف الزجاج البارد؟ هل هذا رأفت؟ هل أعرفه وهل التقيته قبل رحيل لامع افتتح فصلاً جديدا في تاريخ النكبة؟
بدت مدينة الطيرة من شباك الحافلة أكثر امتداداً فوق تلة مرتفعة من الطيبة المجاورة، فيما تحفر المدينتان المتجاورتان بالأظافر عميقاً في باطن الأرض تمسكاً بهويتهما العربية الفلسطينية. زادت سرعة الحافلة وغابت المدينتان عن البصر، وأخذ الغطاء النباتي الأخضر يغيب بالتدريج كلما اتجهت الحافلة جنوبا، وتبخر اللون المريح نهائياً، خاطفاً معه أيضاً الاسماء العربية بحروفها الجميلة البراقة من يافطات الشوارع العريضة. قطعت الحافلة خلال ساعتين أكثر من مائتي كيلو متر، وتجاوزت مدينة بئر السبع، واقتربت من "كتسعوت" التي يرتفع على أرضها أحرار النقب رغم غابة أسلاك شائكة تفتك ببقعة واسعة من الصحراء الجرداء.

3
منتصف النهار الذي تميّز بطقس معتدل تحت شمس آذار الخجولة، اطفأ السائق المحرك بعد أن ركنها بجوار حافلة وحيدة لزوار من قلقيلية وسلفيت. لم ننتظر طويلا بدء اجراءات التسجيل للزيارة: وزع الشرطي قصاصة ورق تحمل إسم الأسير ورقمه من أجل ادخال الملابس، وتسليم شيكات (الكانتينة) وشراء علب السجائر.

خلف الطاقة الضيقة لتسليم الملابس، كان شرطي السجن غاضباً ومتوتراً، فلم تسلم حتى الأردية المسجلة بقوائم لديه من التنكيل، وأعاد معظمها إلى الأهالي رغم حدة النقاش على سبب رفضها. فشلتُ في ادخال نصف ملابس عاصم، ولم تكن أم جواد محظوظة في محاولاتها لاقناع الشرطي العدائي بحق نجلها باستلام الملابس التي سجلها. عادت في النهاية نصف الملابس تقريبا إلى حقائب ذوي الأسرى، وتكدست مع الأغراض الشخصية فوق المقاعد الخشبية الطويلة البنية، والموزعة دون ترتيب في ساحة الانتظار المحتجزة بأسلاك شائكة مرتفعة تلتف من كل الجهات.

حوّل شرطي السجن أسماء الأسرى إلى حقل تجارب في لفظها، لعله يتعلم مع مرور الوقت نطق الأسماء العربية بوضوح، كان ينادي بلكنة غربية مستفزة على الاسماء مراراً، وبتشكيلات مختلفة على أمل أن يتمكن أصحابها من تمييزها، قبل التقدم إلى البوابة الالكترونية، وغرفة التفتيش لتتخلص النساء والرجال والأطفال على بابها من الأحذية والأحزمة والجاكيتات والاساور والخواتم ودبابيس الشعر وغيرها، لعل البوابة الالكترونية الثانية تتكرم بمنحنا اشارة خضراء، تسمح بالمرور إلى طاولة تسجيل الأسماء، وفحص البطاقة الشخصية وتصريح الزيارة وختمه من إدارة السجن تأكيداً لالتزام صاحبه بزيارة المعتقل فقط، ثم التوجه إلى غرفة التفتيش الجسدي قبل العبور نحو الصمت لتأدية الطقوس في قاعة انتظار واسعة.

تعلو قاعة الانتظار يافطة بعدة لغات: احذر المكالمة مسجلة. الكاميرا ترصد المتهالكين بأرديتهم الغامقة على مقاعدهم، وتدقق عدساتها بمتعبين ينتظرون بشغف لحظة لقاء احبائهم. فتح الشرطي بوابة القاعة، وانطلقتُ في ممرات ضيقة مسيجة وطويلة نحو قاعة الزيارة التي بدت للوهلة الأولى على شكل حذاء فرس. بحثتُ من خلف الزجاج عن عاصم ولوّح بيده قبل أن يجلس بجوار جواد. وضعتُ قبلة بيدي وألصقتها على الزجاج البارد، فيما عانقت الامهات الزجاج تحت لحظة الانفعال بشغف اللقاء، لكن أجهزة الهاتف الملصقة بجوار الزجاج لم تفتح، بل تآمرت على قتل لحظة الاشتياق، وعندما أدرك ذوو الأسرى أن أصواتهم لا تَعبر إلى فلذات أكبادهم، استبدلوها بإشارات اليدين وايماءات الرؤوس، وبدا المكان تحت تلصص الكاميرات الكثيرة وكأنه مسرح دمى صامتة! هناك من يتلذذ بمتعة المراقبة من الغرف المغلقة وتفحص عمليات ابادة اللحظات الأولى المشتعلة بشغف اللقاء، والاستمتاع بالايماءات والحركات الصامتة، وعندما يشبع المراقب كل أمراضه وغرائزه يفتح أجهزة الصوت!

4
أطلق عاصم ضحكاته المرتفعة، وبدا قوياً صلباً يقطر بالحيوية ويسأل عن كل شيء، ثم يروي النهفات عن رفاقه: أصر أحدهم على مغادرة الغرف بعد ثماني سنوات من الاعتقال، وطلب أن يعيش في الخيّم لعلها توفر له مناخاً أفضل من الغرف المغلقة. تحققت رغبته بموافقة ادارة السجن على طلبه، وفي صباح اليوم التالي أبدى اعجابه بأصوات العصافير التي يفتقدها في الغرف وسمعها فوق خيمته. ضحك الرفاق من أعماقهم وكشفوا له هوية الاصوات التي سمعها: الجرذان تعشش في سقف الخيام! صمت طويلا قبل أن يطالب بعودته إلى الغرف.

روى بهدوء تفاصيل حلمه الغامض: "بعد مرور أشهر على اعتقالي أواخر نيسان العام 2003، شاهدتُ في أحلامي الليلية رفيقي نادر أبو ليل مسجى في مقبرة شهداء مخيم بلاطة بين آلاف المشيعين بملابسهم البيضاء الطاهرة، كأنهم ملائكة تحرس رحيل رفيق السلاح. كنتُ وحدي أرتدي ملابس السجن الغامقة، تقدمت والدة الشهيد نحوي وكانت متماسكة رغم دموع الفراق القاسي، وطلبت مني انزاله إلى القبر. هبطتُ إلى قاع الأرض أحملُ جثمان نادر ملفوفاً بالأبيض، تفاجأتُ بشهيد ممدد تحت أردية بيضاء، يعلو الخشوع ملامحه التي أعرفها جيداً للشاب غسان أبو نارة. وضعت الشهيد بملاصقة الشهيد، وعندما هممتُ بالصعود، قبض نادر على يدي وضغط عليها قبل سماع النداء الأخير يبرق على سيف صوته: استرجع سلاحي؛ هناك مَنْ سرقه مني يا رفيق؟!

روى عاصم حلمه المثير لبعض رفاق المعتقل، وهمس بالتفاصيل إلى رفيق السلاح خالد خديش؛ فأبدى خشيته من فقدان عزيز على قلب عاصم.
مساء الأحد في الثاني من أيار العام 2004 تكشف سر الحلم الغامض؛ باستشهاد نادر ورفيقيه هاشم أبو حمدان ونائل حسنين؛ عقب استهداف سيارتهم بقصف صاروخي نفذه طيران الاحتلال قرب المشفى الوطني في نابلس، ثم استشهد غسان العام 2005 بشظايا طائشة في سوق المخيم إثر خلاف على تنفيذ اضراب تجاري، لا علاقة للشهيد به.

منذ غياب الشهيد نادر خَلَع عاصم لقبه القديم أبو جبر واستبدله (بأبو نادر). رحل الشهداء إلى السماء بصمت وسكينة، بينما يواصل شقيقي في الأرض حمل صليبه متنقلا بين سجون الاحتلال، ويستعد أواخر نيسان الجاري لدخول عامه الثاني عشر في الاعتقال الطويل والمرير بإرادة صلبة لا تقهر، وبإيمان مطلق بعدالة قضية شعبه وكفاحه الثوري، وقد حكم بالسجن الفعلي ثمانية عشر عاماً بتهمة المقاومة اليسارية المسلحة والانتماء لخلايا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
5

قبل انتهاء وقت الزيارة، زحفتُ بمواجهة جواد وقد غاب عن بصري منذ خمسة عشر عاماً. بدا الشاب وسيماً نحيفاً وطويلا، وتكشف ابتسامته البريئة عن شقاوة طفولية سلمته كسراً مائلا في أحد أسنانه الأمامية، ومنحته ابتسامة جميلة هادئة. أبدى الفتى المقاتل رغبته في متابعة دراسته الجامعية، وشجعته على التسجيل في احدى الجامعات، وتعلم اللغتين العبرية الانجليزية واتقانهما قدر المستطاع، لعله يمنح أيضا القراءة والكتابة والرياضة وقتاً محدداً من برنامج يومه الاعتقالي.

ولد جواد في مطلع كانون أول العام 1986، ومع اكتمال عامه الأول استشهدت جدته لأبيه في اليوم الثالث للانتفاضة الأولى، وصادف رحيلها ظهيرة الجمعة في الحادي عشر من كانون أول العام 1987. كانت جدته سهيلة الكعبي (أم أسعد) أول شهيدة للانتفاضة الأولى، تلتها فوراً الشابة سحر الجرمي، عقب مواجهات مع الاحتلال شهدها مخيم بلاطة شرق نابلس احتجاجاً على جرائمه في مخيم جباليا (قطاع غزة) وشيع المخيم الشهيدتين سهيلة وسحر بجوار الفتى علي مساعد، رغم قرار الاحتلال بفرض حظر للتجول ومنع مشاركة الأهالي في تشييع الشهداء الثلاثة.

شهد جواد عندما كان في الثامنة من عمره غياب عمه الشهيد حاتم (أبو جورج) في آذار العام 1994 باشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في مدخل مخيم بلاطة، واستشهد بجواره أيضا ناصر عيسى الطيراوي، ثم راقب جواد انتفاضتي النفق العام 1996 والقدس العام 2000، ودقق في ملامح الشهداء وعاد الجرحى، وشهد حملات الاعتقال التي طالت أخواله وأعمامه وأقربائه وأصدقائه. انخرط مبكرا جداً في فعاليات الانتفاضة الشعبية، قبل أن يتعرض لمطاردة جنود الاحتلال.
في الثاني من حزيران العام 2006 تمكنت قوة إسرائيلية من اصابته بجروح بالغة في معدته، ونقل على وجه السرعة إلى مشفى رفيديا في نابلس، وتم تحويله إلى الانجيلي العربي لاجراء جراحة طارئة في المعدة، لكن جنود الاحتلال اقتحموا المشفى الانجيلي، ونقلوه مع أجهزة التنفس في وضع صحي حرج إلى مستشفى (بنلسون) قرب تل أبيب. أجرى طاقم طبي عمليات جراحية لمعدته وصدره، ثم نُقل إلى التحقيق في زنازين (بتاح تكفا) قرب تل أبيب. مكث في زنازين التحقيق ثلاثة أشهر، ونقل إلى مشفى الرملة في وضع صحي حرج، وبات سجيناً مصاباً يتردد على المشفى كلما تعرضت جراحه الغائرة للالتهاب. حكم بالسجن الفعلي ثلاثة عشر عاماً، وكاد أن يفقد حياته في خريف العام 2011 عندما أصر على دخول الاضراب المفتوح عن الطعام الذي تواصل على مدار 24 يوماً بهدف وضع حد للتنكيل بالأسرى، وانتزاع مجموعة من قيادتهم التي عزلتهم إدارة السجون. تنقل في عدة معتقلات، ونقلته إدارة سجن مجدو مطلع العام الجاري إلى سجن النقب، على أمل أن تكون محطته الأخيرة قبل تحرره في القريب العاجل، كما كانت والدته تردد طوال الزيارة، داعية خالق الكون للاستجابة إلى طلبها الوحيد بالافراج عن جميع أسرى وأسيرات الحرية.

6
انتهت الزيارة سريعاً، وأغلقت ادارة السجن أجهزة الهاتف بعد نصف ساعة على فتحها، وتركت ذوي الأسرى في حيرة وارتباك لقطع المكالمة دون أن ينتهي شغف الحديث. تجمعنا في ساحة الانتظار الخارجية، وعلى الرابعة انطلقت الحافلتان في طريق العودة.

قبيل السادسة مساء، شاهدتُ من نافذة الحافلة مجموعة من المتظاهرين يحملون لافتة كبيرة جدا (أوقفوا هدم العراقيب). وقف المتظاهرون على مشارف بلدة راهط الفلسطينية والمجاورة لمدينة بئر السبع يطوقهم عدد من سيارات شرطة الاحتلال، وكانوا يصرخون بصوت مرتفع في محاولة للتغلب على صوت حركة السيارات الكثيفة التي تتدفق بسرعة على الشارع الرئيس الذي يربط شمال فلسطين المحتلة بجنوبها. كانت التظاهرة المتواضعة تحتفي بيوم الأرض، وتحتج على الهدم المتكرر لتجمع العراقيب الذي استهدفها للمرة السادسة والستين حتى هذه اللحظة؟! وتصرخ أيضا بوجه مشروع (برافر) الذي يستهدف تصفية الوجود الفلسطيني في النقب المحتل!

يبذل الاحتلال جهداً متواصلا من أجل تحويل مشروع (برافر) إلى قانون بعد تمريره بالقراءة الأولى في الكنيست الصهيوني، وينص المخطط على "تنظيم سكن البدو في النقب لعام 2013" لكنه يستهدف في الحقيقة مصادرة 800 ألف دونم من الأراضي العربية، وتهجير 40 ألف فلسطيني من أراضيهم ومنازلهم، وتدمير 35 قرية وتجمع سكاني في المنطقة؛ بذريعة أنها غير معترف بها رغم وجودها قبل قيام إسرائيل. يخطط الاحتلال لاقامة حرج على أنقاض العراقيب، وتوسيع مستوطنة على أنقاض قرية أم الحيران؛ التي يعيش فيها 500 نسمة يتعرضون لمحاولات تهجير صامت بكل الطرق؟

اجتازت الحافلة صحراء النقب، وتركت خلفها التجمعات البدوية الصغيرة المترامية الأطراف دون كهرباء وطرق معبدة وأبنية لأن "قوانين" الاحتلال تمنع تغير وضعها، وقد شاهدتُ ألواح الزينكو على امتداد الطريق في قلب النقب تواجه منفردة فك الجرافات المتوحشة.

تبلغ مساحة صحراء النقب 14 ألف كيلو متر مربع، وعلى ثلاثة بالمائة من هذه المساحة يقيم 200 ألف فلسطيني، ومع ذلك لا يوفر الاحتلال أية وسيلة من أجل سلب 800 ألف دونم من أملاك العرب، ومحاصرتهم بتجمعات سكنية لا تزيد جميعها عن واحد بالمائة من المساحة الكلية التي ينتشر فوقها نصف مليون مستوطن تقريباً.

على السابعة مساء اجتازت الحافلة أطراف مدينة الطيرة، وشاهدتُ بجانب الطريق السريعة مقام أحد الأولياء الصالحين؛ الذين يحرسون الأرض بايمانهم المطلق، ويزرعون فيها الأمل بحق العودة ليتجدد اشتعال الشموع داخل محرابه التاريخي. تجاوزتُ مع ذوي الأسرى بقاماتهم المرتفعة رغم التعب والمرارة، حواجز الاحتلال على معبر الطيبة، واتجهتُ برفقتهم إلى حافلة انطلقت شرقاً نحو نابلس. في الثامنة تابعتُ رحلتي بسيارة عمومية إلى رام الله، وقد حطت قبل التاسعة مساء على دوار المنارة تبرق جدرانه بصور الأسرى والأسيرات التي حجزت سقف المكان، بجوار دعوات شعبية جادة للانتصار لعمداء الصبر في يومهم (17 نيسان).
خمس عشرة ساعة من الانهاك تستحق العناء لضمان نصف ساعة على زجاج بارد داكن يفصل بين المشتعلين بالحب، دقائق قصيرة يتكحل بها المرء بكبرياء أسرى يعلو في سماء النقب. ثلاثون دقيقة تسحرنا وترفع معنوياتنا الهابطة تحت سقف المشاريع الهابطة، وتطلق في صدورنا شرارة فرح تبشر بالانتصار القادم مهما طال الزمن ومهما زادت قسوة الجلاد.