الثلاثاء: 05/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عبدالله ظلمة في العين.. ونور في القلب

نشر بتاريخ: 09/06/2014 ( آخر تحديث: 09/06/2014 الساعة: 14:40 )
الخليل- معا - فقد نعمة البصر ولكنه لم يفقد نعمة البصيرة والإرادة القوية انه عبد الله سويطي الذي يعيش في خربة سلامة الواقعة على بعد ما يقارب سبعة كيلومتر غربي مدينة دورا جنوب محافظة الخليل، استطاع ان يسطر اسمه بحبر الفخر والاحترام في ذاكرة الاجيال لمشوار حياة عمره ثمانين عام، ليبدأ لي بالتدرج بانسيابية في قصته.

رأى النكران وتذوق ألمه منذ أن توفت والدته، ليكن هو المعيل الوحيد لعائلة فقيرة تكونت من أب عاجز عن العمل وشقيقان أصغر منه سنا ، احدهما تبنته عائلة ولا يعرف عنه شيء والآخر يبلغ من العمر تسعة شهور، فبدأ بالعمل رغم انه كان يعاني من ضعف البصر وكان يلتحق بالمدرسة، هنا ازداد وضع عينيه سوء فقرر الذهاب الى الطبيب الذي أكد أنه لا فائدة من علاجه فهو يعاني من ضغط بالدم فيهما، وليسرد لي تفاصيل حياته: "والله لما فحصني الدكتور كنت بأشوف وحتى حكتلو انا شايف الضو"، لكن كانت الفاجعة أكبر عندما تعرض لحادث في العمل ليصطدم بقضيب حديد فقه له عينه فإهمال طبي رافقه فقر وعدم اهتمام حرمه من نعمة البصر وهو بعمر اثني عشر عام.
|284343|
لم تكن اعاقته يوما حجر عثرة امام تحقيق حلم العيش بحياة كريمة دون الحاجة لأحد، ليستطيع مقاومة كل الظروف ويبدأ مسيرة العمل في كربلة التراب الذي كان يستخدم لبناء البيوت المصنوعة من الطين، ويتنقل ليعمل في حفر الآبار وفي الحصيدة واي عمل قد يسمع عنه ولأنه فاقد للبصر كان أجره زهيد ليقول لي: " كانوا يستغلوني ويعطوني اقل من الكل لاني كفيف"، أخذ نفسا مرتابا ثم اكمل بتنهيدة: " آآآه كان فقدان البصر جريمة ع وقتنا وكانو يحكولي انت اعمى ويحسسوني بالنقص وكنت منبوذ "، وبعد ثلاث سنين من فقدانه للبصر ترك مدرسته نتيجة مشكلة حدثت معه وتم فصله ولأنه مظلوم لم يرجع الى المدرسة واعتمد على ذاته علما انه كان من الاوائل.
|284344|
فهذا العاجز الذي سكن عينيه الظلام كما اعتبره الكثير استطاع بنور قلبه أن يكون له الفضل الكبير على كثير من المبصرين، وتحديدا من كان يستهزأ به ويقلل من شأنه ليحقق الهدف الذي طمح له مرارا وهو فرض نفسه في المجتمع ليتحدث: " كان هدف الناس الوحيد هو اذلالي لكن ما قدروا ... وهم اللي صاروا يطلبوا مساعدتي"، فقام بتدريس الطلاب كافة المنهاج التعليمية لكافة الفئات العمرية متابعا حديثه: " في مواد كنت حافظها من ايام المدرسة والمواد اللي ما اخذتها كنت اخلي الطالب يقرأ الدرس اول مرة وع طول اشرحلو اياه "، لم تستمر قافلة النجاحات هنا بل امتددت ليدرس طلاب الجامعة هنا فرض احترامه على الجميع ليضيف: "صار الكل يرافقني والكل بدو يحكي معي ... ومن هاليوم بلشت كرامتي ترتفع وصرت اطلب الأجر اللي بدي اياه"

لو لم يكن رث الثياب بتلك الصورة المحزنة التي رأيتها أمامي لتوقعت بأنه أستاذ جامعي عندما بدأ يتحدث لي باللغة الانجليزية ليؤكد: "تعلمت ستة اشهر بالمدرسة انجليزي بس كنت ع طول بحفظ أي شي بينحكى"، هنا بدأت أخاف أن أخطىء في اختياري لبعض الجمل، كما لو انني لا أجرؤ على الكلام، فثقافته الواسعة جعلتني اصمت للحظات قبل ان أتفوه بكلمة فهو مبدع في علوم اللغة العربية بمجالاتها المختلفة .
|284345|
الكون مشرق في عينيه وأساس نوره الارادة وقوة الإيمان بالله، لينجح بحفظ القرءان الكريم متقنا لأحكام التجويد وليقم بإعطاء دروس دينية في الجوامع، فأربع سنين قضاها في تعليم امور الدين في مسجد بيت عوا ومثلها في مسجد خربة سلامة، وفي حديثي معه حول الفرق بين جيله وجيلنا بدأ حديثه: " والله جيل اليوم احسن لأنو بلاقيني الولد او البنت وبحكولي وين بدك يا سيد وبمسكني وبوصلني وين ما بدي"، ثم صمت وأطبق شفتيه بحزم ليتابع كلامه: "اما زمان كانوا يحطوا لإلي الشوك والأحجار بالطريق لأقع ويضحكوا علي كنت بس مصدر للضحك عندهم".

لقد ابدع في مجالات يصعب على المبصرين الابداع فيها، ليقوم بصنع مكانس من القش وهو في العشرينات من عمره، ففي احدى الايام وقبل أن يفقد نظره كان يرى كيف تصنع وحفظ طريقتها، ومن هنا اصبحت مصدر الرزق الاساسي له لغاية اليوم ليقوم بصنع آداة اسماها الملزمة موضحا لي طريقة استخدامها: "هالآلة من خلالها بضغط بسلك الحديد على عيدان القش بعد ما اجمعهن وبجهز المكنسة "، نعم لم اعرف كيف صنع آلة بأدوات بسيطة فرغم انه كفيف إلا انه مبصر اكثر من أي شخص ليتابع حديثه حول الدافع لصنع هذه الالة بنفسه : "كنت احكى لناس كثير احكولي شو الحبل اللي عن طريقو بقدر اضغط عيدان القش فرفضوا لهيك صنعتها وهي ملزمة لانها ملازميتني بكل شغلي"، فكان ثمن المكنسة يتراوح بين (7_8) قروش قديما الا أن الطلب على هذه المكانس أصبح قليل لأن الصناعات تتطورت، ولا يتوافر القش بوقتنا الحالي كما كان منذ القدم لقلة زرعه في أيامنا هذه، ولكن جمعية المكفوفين الواقعة في منطقة باب الزاوية في مدينة الخليل والتي يمثل عضوا فيها تقوم بشراء مجموعة منها في كل عام.

توالت الايام وتجللت بالصبر والشكر لله على كل حال ليتزوج وهو في الاربعين من عمره بزواج لم يدم سوى شهرين، وزواجه الثاني كان من ام فلاح وعاشت معه عشرون عام لتنجب ولده البكر واسماه فلاح واربعة فتيات قام بتعليم اثنتين في الجامعة، وبعد ان توفت زوجته وتزوجت بناته كان بحاجة لمن يعيله لأن قواه قد أنهكت لكبر العمر فتزوج بالثالثة وفشل الزواج، تزوج بعدها بالرابعة والتي تعيش معه لهذا اليوم وأنجب منها التوأم احمد ومحمد وعاش في بيت بسيط ساهم في بناءه، فكل شيء في داخله من صنع يداه ليزرع الشجر ويربي المواشي ويبنى السور .
|284346|
عبد الله الذ لم يمنعه فقدانه للبصر يوما من النبوغ والتفوق استطاع أن يرسم حياته بلوحة فنية مليئة بألوان الصبر والإرادة والتحدي، طالبا من الله طلبه الاخير بدعاء هو: "يا رب أموت وما احتاج حد مثل ما عشت وما احتجت لحد... ويا رب أموت وانا على الايمان "، هكذا ختم لي كلامه الذي لو اردت كتابته لألفت مجلدات عن حياة مليئة بالآلام لشخص استطاع ان يتربع على قمم المجد لينجح في حفر اسمه وشكله في ذاكرتي أنا والكثير ممن عرفه وليكن مرشده في الحياة عقله وقلبه.
___________________________________________________________
اعد التقرير: أسيل ابو فردة ضمن مشروع الاعلام الريفي الذي تنفذه شبكة معا