الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

رواية للكاتبة الفلسطينية مليحة مسلماني ، تتناول علاقة الابنة بالاب المعتقل

نشر بتاريخ: 02/09/2005 ( آخر تحديث: 02/09/2005 الساعة: 13:17 )
كتب حسن عبد الله - الرواية الاولى في تجربة الكاتب، هي لعبة إبداعية تحمل وجهين متناقضين، وجه الخوف والتردد، ووجه المغامرة والروح الاقتحامية. وتشكل الرواية الاولى مفتاح العبور الى فضاء مثير، مسكون بمتعة الاستكشاف، اوربما توصد المحاولة الباب في وجه الكاتب، تدفعة الى الخلف، ليكون بمنأى عن إعادة اللعب بنار الكتابة الروائية.
قليلون هم الذين تمردوا على عدم قبول المحاولة الاولى من قبل النقاد والقراء ، واصروا ونجحوا في المحاولة الثاتية او الثالثة، اما القسم الاكبر من المحاولين فقد اختفوا اثر فتور استقبال المحاولات الروائية الاولى لان الكاتب بعد صدور باكورة اعماله ، يهتم كثيرا بإستطلاع الاراء، حيث يستشف من العيون والقراء دعوة مفادها "واصل إنطلاقتك" او"ارجع قلمك الى غمده، وعد الى ممارسة دور القارىء المتلقي، لا الكاتب المبدع .
الكاتبة الفلسطينية مليحة مسلماني، حملت روايتها الاولى "نيار" من مطبعة ابو غوش وطافت بها طرقات وشوارع رام الله قدمتها للمؤسسات والمكتبات، واهدت بعض النسخ للاصدقاء وراحت تنتظر الرد، واحسب انها تنتظر بقلق واضطراب.
فأي رد استطيع ان اقدمه لهذه الكاتبة ؟
استوقفني في تجربة ملحية الروائية، النفس الروائي التجريبي، والتكثيف، واللغة الشاعرية التي حملت على راحتيها المخمليتين احساسا رهيفا بنبض وجع طفلة وبحلمها الغض الطري وبألم صبيه، اصطلت بنار الانتظار.
رواية مليحة عبارة عن مونولوج تحدى داخل الروائية - البطلة، بعد ان ضاق به ذرعا هذا الداخل، فاندفع فجأة، الىالورق، او هي خربشات طفلة، ضغط وحش الحزن على عنقها وصدرها، لكنه لم يتمكن من خنقها، او هي مذكرات شابة نضجت قبل الاوان، سرعت سنوات عمرها، اختزلت المسافه الزمنيه بين عمرها وعمر ابيها، صارت في عمره، اوسعت الى تقريب عمره من عمرها، لحمايته من غدر استلاب المعاناة لفصول العمر في الغياهب المظلمة. كان الحزن هو كلمة السر في الرواية، فقد لازم الكاتبه منذ الطفولة واستمر معها، ادمى القلب وانهك الجسد، لكنه لم ينتصر عليها بالضربة الفنية القاضية ولا حتى بالنقاط، لان البطلة في مواقع كثيرة من الرواية وصولا الى النهاية، استطاعت ان تضمد جراحها وتفتح باب الامل على مصراعيه، وتخرج من دائرة الحزن، تعيش القادم وتتنسمه، تتنشق رائحة الغد، قتنتشي شوقا للقياه .
بالطبع لا استطيع ان اتناول جميع الجوانب المتعلقة بهذه الرواية التي صدرت حديثا في 125 صفحة من القطع المتوسط عن دار الماجد للطباعة والنشر، فذلك يحتاج الى مساحة اوسع من تلك المخصصة لمقال محدود الحجم، لكنني ساحاول تتبع علاقة الطفلة بالاب وهو يرسف في الاغلال، يقبع خلف القضبان، وفي هذه العلاقة يتجلى الحضور المكثف للاب في الغياب، ويتجلى الغياب الطويل الثقيل في الحضور القوي. أب مزيج بين الاسطوره والرمز والانسان المقهورالمظلوم .
لحظات استرقها الاب والابنة من عمر الزمن، فالاعتقال كان لهما بالمرصاد، اجبره على مغادرتها وهي طفلة، ثم تحرر عشرة شهور، واعيد الى الاعتقال، ليسلخ من عمره عشرين عاما، وطيلة هذه السنوات ظلت مليحة منهمكة في العودة الى الماضي البعيد، لتغرف من مخزن الذاكره صورا تحبها، تشعرها بحنان الاب، تستعيد إيقاعه السريع في المشي، وحركة يدها الصغيره وهي تستقر في في حضن يده كما جاء في صفحتي "86-89". اما ليلة أعتقال الاب، فقد شكلت كابوسا لافراد الاسرة، لا سيما بطلة الرواية، التي اعتصر فؤادها القهر، وهي ترى الجنود يقتادون اباها مكبلا وسط غابه من البنادق.
ان من علامات نجاح هذا العمل الروائي، قدرة الكاتبة على جعل القارئ يقترب من عالم اسرتها، وان يعيش هموم الاسرة وآمالها في ذات الآن، لا لان الكاتبة سعت الى استدرار العطف، وانما من خلال طرح قصة الاسرة، في سياق انساني، حوى تفاصيل صغيرة، تداخلت وتمازجت مكونة عالمها الخاص، اسرة هي نموذج لاسر فلسطينية كثيرة، دفعت بسخاء من راحتها ومستقبلها استحقاق الوفاء للوطن.
طال إعتقال الاب، طال اعتقال الاسرة، طال اعتقال مليحة، التي ما انفكت تركض العام تلو الاخر، لعلها تتمكن من الامساك بطرف خيط، الى ان تنسى لها ذلك في احتفالية توجت بقذف الحزن ارضا وصرعه، حينما دعت نفسها، دعت الطفلة- الشابة، لان تحطم كل قيد وتركض محتفية بالحلم، وترقص فرحا لحتمية قدوم الاب، الذي تناديه مع كل اطلالة فجر وتنثر حوله الصباح.
واخيرا امل ان اتوقف في مقال اخر عند جوانب فنية في الرواية، ما لها وما عليها، لكن لاباس في القول هنا ان كفة مالها رجحت كثيرا على بعض الثغرات الفنية. اما الرواية بشكل عام ، فهي في رأيي اجمل وأثمن هدية يمكن ان تقدمها ابنة منتظرة لاب زرع داليته في ارضه، وانتزعوه وذهبوا به بعيدا عنها، وها هي اليوم تطرح ثمارها، تخترق الاسوار والاسلاك الشائكة، ترطب قساوة الواقع، تخفف من ضغط القيد على المعصم، من خلال نص جمع ما بين جزالة وقوة الاسلوب النثري وجمالية وانسيابية الشعر.