الأحد: 29/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

الجد عليّ والحفيد علاء: شهيدان بفاصل 47 عامًا !

نشر بتاريخ: 25/07/2014 ( آخر تحديث: 25/07/2014 الساعة: 08:11 )
جنين -معا- في منزل متواضع في مدينة طوباس يجلس المواطن فازع علي ضراغمه وفوق رأسه صورتان متجاورتان على حائط واحد هما الاولى لوالده والثانية لولده شهيدان بفاصل 47 عاما ، فهذا الحائط الذي علق عليه الصورتان جمع بين الشهيد على حسين دراغمة، الذي سقط في الأيام الأولى للنكسة عام 1967، وبين حفيده علاء فازع دراغمة الذي قضى خلال اجتياح الاحتلال لرام الله في ربيع عام 2002.

عاد ليرجعهم فرحل!

يعيد فازع على دراغمة الحياة لقصة رحيل والده، الجندي في الحرس الوطني الأردني، فيقول: فر أبناء عمي حسين وسعد إلى الأردن مع أمهاتهم، وجاءت ابنة عمي لطفية تطلب من والدي أن يلحق بهم لإرجاع إخوتها وأمها إلى طوباس، فركب حصانه وانطلق إلى الشونة الجنوبية، واستطاع إقناع أولاد عمي سعد (هاني ونعيم) بالعودة ورفض الباقون، وعادوا منتصف الليل، بعد النكسة بساعات، ومكثوا قليلاً في منطقة (خلة صالح العيد) شرق طوباس، في ضيافة صديق لوالدي أسمه أبو الراغب، ورافقهم مغترب من قرية عجة (بمحافظة جنين) كان عائدًا من الكويت.

يتابع: انطلق أبي ومن معه، حتى وصلوا سهل عينون، وأطلق عليهم جنود الاحتلال النار، فأصيب والدي بالرصاص في جميع أنحاء جسمه واستشهد على الفور، واستقر الرصاص في رأس أبن عمي هاني وبطنه وسقط المغترب أيضًا ( حضر أهله بعد أشهر ونقلوا رفاته لمسقط رأسه)، ونجا ابن عمي نعيم ( قضى بعد سنتين في حادث عمل ببيسان).

ووفق الراوي، فقد اكتشفت العائلة أمر شهيديها، حين وصل العم خالد دراغمة للرعي في المنطقة، في وقت مبكر من صباح اليوم نفسه الذي وقعته في الجريمة الإسرائيلية، وأخبره المتواجدون في المنطقة بالشهداء، فرجع باكياً إليهم، وعادت العائلة بجرار زراعي كان يملكه حسني الخطيب، لإحضار الجثامين، ودفنوا الأب وابن شقيقه في قبر واحد.

يوالي دراغمة: كان أبي في الثلاثينيات من العمر، وكنا خمسة أولاد وبنت، أكبرنا في الثانية عشرة. وأتذكر صورته وحضوره، فقد كان جهماً، طويل القامة، أبيض البشرة، وصاحب شخصية قوية، وكريماً ومضيافاً، وأحبه جميع من عرفه، أو تعامل معه في تجارة الأغنام، وقد علم نفسه بنفسه، واستطاع أن يلم بالقراءة والحساب. وكان يحب السهر، ويجتمع مع أصحابه في رمضان حتى السحور، وأحب كثيراً طبق المفتول.

الطيّار علاء

ينتقل الأب للحديث عن ابنه علاء، الذي استشهد في ربيع 2002، ودفن في القبر الجماعي في حديقة مستشفى رام الله، فيقول: ولد ابني في أيلول عام 1979، وكان متفوقاً في المدرسة، وخلوقاً، وطويل القامة، وأسود الشعر، وبه ملامح شبه من جده، وقد درس في نابلس وقتاً قصيراً، ثم تركها، وانتقل إلى الكلية العسكرية في أريحا، وبدأ يبحث عن فرصة لتعلم هندسة الطيران.

يتابع: تأخرنا في التسجيل بأريحا، وبالكاد استطعنا إقناع المسؤولين أن يمنحوا علاء فرصة، فمعدله في الثانوية العامة مرتفع، واستطاع بعد دخول الامتحان أن يتفوق على الخمسين طالباً الذين سبقوه في التسجيل، ونال مكرمة ومنحة، وابتعث إلى اليمن للدراسة، وعاد منها متفوقاً منها صيف عام 2001.

تستذكر أمه مها حمد دراغمة: ترك علاء فراغا كبيرًا في العائلة، وافتقدنا بعده للجو المرح الذي كان يمنحه لنا، وكان يقول لي ( لو وضعت الأم ابنها في خزانة؛ خوفًا عليه من الشهادة أو الموت، فإن الله سيفعل ما يريد).

تضيف بقلب مكلوم: كان في صغره يتناوب على الدراسة والصلاة في المسجد وتلاوة القرآن، وكان يطلب مني كثيراً أن أطبخ له مجدرة البرغل، ولم يكن يكره أي شيء، وحرص خلال وجوده في اليمن أن يرسل لي الهدايا من رفاقه، وكان قبل كل عيد يوفر لي ثمن كسوة العيد لإخوته، وطلب منا قبل يومين من استشهاده أن ندهن البيت، فاتصل بالدّهان، وأحضر مستلزماته، بالرغم من اعتراضنا على التوقيت، وطلبنا منه أن يؤجل الأمر حتى الشتاء فرفض، ولا زال دهان المنزل هو نفسه حتى اليوم، وكلما أشاهد أحد يدهن، أو أشم رائحة دهان أتذكر ابني.

تحتفظ عائلة دراغمة بذكريات ابنها، ولا يغادر زيه في الشرطة الخاصة المنزل، ولا زال هاتفه الخليوي في البيت، فيما تزين الجدار شهادته العلمية، وصور تفوقه في اللغة الإنجليزية ودورات الحاسوب والهندسة وتخرجه المتميز، ووجدوا في مذكراته وصية للانتباه والاهتمام بأمه وبأخيه عليّ. وطلب من والدته البحث له عن عروس بالرغم من أنهه ليس الأكبر، وأخبرها "أن التاكسي تسبق الباص".

رحل وبقيت ملابسه

تقول الأم: كل يوم أذهب إلى الخزانة، ألمس قمصان علاء، واشم رائحته فيها، وأواسي نفسي بالدموع، وأقرر أن اذهب لزيارة قبره البعيد عني. فيما يكمل الوالدان: عاد عليّ خلال اجتياح رام الله إلى عمله، ورفض طلبنا البقاء معنا، وقال لنا إنه يؤمن بالقدر، وعرفنا أنه استشهد بعد عدة ساعات، ولم نستطع أن نصل لرام الله، فقد كانت مغلقة، وتحت القصف، وعلمنا أن دفن مع شهداء آخرين في حديقة مستشفى رام الله.

يتابع الأب: بعد أيام، تمكنت من الوصول لرام الله، فقد كانت تحت الحصار المشدد، وتسلّلنا من جهة قلنديا، ولصعوبة الأوضاع، ولطلب الرئيس الراحل وافقنا على إبقاء الجثمان في مكانه، بالرغم من صعوبة الأمر علينا، وحاولت الوصول لمقر المقاطعة للحصول على مقتنياته الشخصية، لكن مقرها قصف في اليوم الذي حدده لي رفاق علاء، وأخبرونا لاحقاً أنهم يحتفظون بسلاحه الذي طبعوا عليه اسمه.

لم تتمكن الأم من وداع علاء، فيما تحرص على ترتيب زيارات دوريه لقبره، وقد رأت ابنها مرتين في المنام، وعرض عليها أن تختار غرفة من بناية كبيرة يملكها، وفي المرة الثانية طلب منها أن يتزوج، فقالت له: لا نملك المال، فرد: معك 5 آلاف دينار يا أمي. وأطلقت العائلة اسم علاء على حفيدها، قبل سبع سنوات، لكنها تقول إن الصغير لا يشبه الكبير، وأن أحداً لن يستطيع القيام بدور علي أو يكرر تفوقه وإيثاره، أو تكرير مشيته العسكرية.