السبت: 23/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ألأُم ساندي

نشر بتاريخ: 30/05/2005 ( آخر تحديث: 30/05/2005 الساعة: 13:55 )
بقلم عيسى قراقع

كانت ألأُم ساندي تضع منديلا اخضر على رأسها وهي تتحدث مع مندوب كوفي عنان السيد "اوكيلو" الذي زار الارض المحتلة مؤخراً...وقد جرى اللقاء في مركز الحركة العالمية للدفاع عن الاطفال في رام الله.

بدت ألأُم ساندي واثقة من نفسها كحبة قمح...نظرات عينيها المحدقتين في بعيدٍ متناهي تفصح عن الكثير من المشاهد التي تتكسر صورها امام كلماتها الهادئة المثقلة بالهموم مع ابتسامة ساخرة تقول ان الحياة حقيقية ولا زلنا نبحث عن حاضرنا في مدينة خائفة.

حاولت ألأُم ساندي وهي تقف امام مندوب الامم المتحدة ان لا تنسى شيئاً وقد تصورت ان المجتمع الدولي يستمع اليها الآن...انها فرصة لكسر الحياد السلبي والتمرد على حالة الضحية واشعال السؤال...وهذا البريق اللامع من عينيها يوحي ان حالة تجلي خاصة قد بدأت دون موعد صلاة..

كلماتها البسيطة تهتف للحرية، تتألم من انشداد القيود على يديها وهي تقول: غدي في يدي فدعوني أدخل غدي دون غياب..

ألأُم ساندي يملأ ثوبها غبار الحواجز وصرخات الجنود وشتائمهم لقد تركت "أولادها" في البيت في مدينة جنين وجاءت الى رام الله لتقابل هيئة الامم المتحدة وعندما وصلت ابتسمت وقالت: يبدو انه من الصعب الوصول اليكم بسهولة حتى بعد ان تجيئوا الينا...كم هذه المدينة صارت بعيدة.

ألأُم ساندي طفلة فلسطينية عمرها عشر سنوات...وبتاريخ 5/8/2001 اعتقلت قوات الاحتلال والديها ناصر السعدي المحكوم بالاداري المتجدد منذ اكثر من عشرين شهراً وامها قاهرة السعدي المحكومة بثلاثة مؤبدات و30سنة فوجدت ساندي نفسها مع اشقائها الصغار وحيدين في المنزل: محمد ابن 9 سنوات ورأفت ابن 8 سنوات وزينة ابنة 6 سنوات...

تحولت الطفلة الصغيرة الى أم...عليها ان تتدبر امور اخوتها...وداعاً للطفولة القادمة..وداعاً للملعب والحديقة واحلام الفراشات الملونة، لقد دمرّ القناصون عش الفراخ البريئة.

فلن نذهب بعد اليوم مع والدينا الى السوق لشراء المراييل المدرسية واقلام الرصاص...ضعوا يا اشقائي حداً لبهجة العيد و "شعر البنات" والدمى المتحركة...اكبروا بسرعة حتى تستوعبنا الحياة والاغنية المفاجئة.

بين ليلةٍ وضحاها كبرت ساندي، نمت اغصانها وتفجرت ينابيعها ونادت: يا ساعداي صيرا شجراً لأملأ الحديقة ويا سماء اقتربي حتى لا تهاجر الغيوم القريبة...الان عليّ ان اغسل بقايا الرصاصِ عن عتبات البيت، وازيل صوت المدفع والمجنزرةِ من ذاكرة اخوتي..أعد لهم الفطور والنشيدة وحكاية لم تكملها أمي في تلك الليلة الشديدة..

وعليًّ ان انسى الألم لأملأ صدري بالدفء والحنان وأفعل ما تفعله الام وهي تحتضن صغارها تنشرهم على حبل قلبها في وجه الشمسِ...تخبئهم في دمها حمامات بيضاء بيضاء...تغسل خدودهم بأجنحةٍ حرة...وعليَ ان استعيد الندى من فم الصباح...قطعة حلوى لأشقائي الصغار واستعيد الهواء ليطيروا أعلى وأعلى...لهم الحصان والميدان والهتافات الكثيرة، ولهم الحب والجمال والبحر والزغرودةُ في القصيدة...لهم الحياة...

ثم استطردت الأم ساندي في حديثها مع مندوب كوفي عنان: عندما اصبحنا لوحدنا انتقلت مع اخوتي ولمدة ستة شهور الى الملجأ الذي عاشت فيه والدتي...لأن أمي يتيمة قضت طفولتها داخل ملجأ ايتام...وها نحن نعود الى حالة اليتم من جديد، كان عليّ ان اعبر بين حالتين واستعيد هويتي من العطش القديم...لماذا يا سيدي نعود دائماً الى الملجأ..؟؟؟

واردفت ساندي: ان تصير اماً في وقت مبكر يعني انك وصلت الى الوطن في المطلق وقطعت الرحلة منفياً في ليلٍ طويل...لا زالت الكوابيس تداهم اخوتي الصغار...انهض على فزعهم وصراخهم وحنينهم الاول...نحن محرومون من زيارة أمنا منذ ثلاث سنوات حتى ان اخوتي قد نسوا معالم وجهها...لا ادري كم مرة سنمر عن حواجز النسيان...ابكي كثيراً لوحدي...اخبيء في اعماقي امنية كانت قد تجمدت منذ شهر آب ومن الصعب ان تتصور يا سيدي كيف تتحول الامنية الى صدى في البراري الموحشة وحبة بكاء على أرض ناشفة.
حلمتُ ذات يوم انني امشي في صحراء جرداء.وكانت افعى تتربص بي بين الكثبان.صقور غريبة تزعق في السماء.استيقظت مذعورة.رفضت امي ان أسأل العرافة.قالت لي.أسألي قلبك فقط، لا تصدقي احداً سواه.
وشاء القدر ان يكون ابي هناك في الصحراء في سجن النقب.لا واحة ولا نبع ماء فهل تستطيع يا سيدي ان تنقل له حلمي حتى يتجنب تلك الافعى الجاثمة بين الرمال.

شاهدتها في السوق، تحمل سلة الخضار تشتري الخس والفصوليا...وتعود بسرعة لمراجعة دروس اشقائها، تصحوا مبكراً ترسلهم الى المدرسة قبل ان يقرع الجرس...انها تسابق الزمن، ربما تعود امها ذات يوم فتطمئن: ان الاولاد بخير وان ابنتها ساندي عقدت جديلتها وربطت نطاقها وان في البيت حركة...لا غبار على الشبابيك ولا صمت في الحوش..

لم يرحل احد تقول ساندي، الغائبون سيعودون والوقت من صبرٍ وعمل، عباد الشمسِ يملأ المكان، "والحصان ليس وحيداً"، النحل ينتشر على الزهر يرخي عسله الأحمر على التراب الاحمر.
هذا هو وقت ساندي، اقتحام الغد، الاغتسال بطلّة الصبح، والصلاة قبل ان يفيق حراس السجن هناك.

وعندما قررت ساندي ان تأخذ دور أمها اسقطت بذلك المراهنة الاسرائيلية على اليأسِ من حمل الحنين وسورة الأسراء.
لم اتجمدّ داخل المؤبد ولم انتظر رحمة الزمن، كل شيئ يسيرُ باتجاه التواصل دون قطيعة. فاكبري يا ساعداي وفيضي يا صورة امي على الأرض والسماء...

تحدثت الأم ساندي بلسان يفوق عمرها...اجراس جسدها تقرع بسرعة وتوتر كأنها قادمة من مشوار متعبٍ تفتش عن نهارٍ تستقر فيه: ليتهم عقدوا هدنة مع وجعي المتدفق واوقفوا انتشاري حول السياج...ليتهم ازاحوا الحجر كي يشع قمري واعود طفلة تقفز في الهواء..
"وغدي في يدي
سوف أدخل عما قليل حياتي
وأولدُ حراً بلا ابوين
واختار لأسمي حروفاً من اللازوردِ"