الإسلاميون وانتخابات تونس: درس الوعي ومحاولة وعي الدرس
نشر بتاريخ: 05/11/2014 ( آخر تحديث: 05/11/2014 الساعة: 12:19 )
أفرزت نتائج الانتخابات البرلمانية في تونس، والتي جرت بتاريخ 26 أكتوبر 2014م، تقدم العلمانيين على الإسلاميين، حيث إن (نداء تونس) حصل على 85 مقعداً مقابل 69 لحركة النهضة، وذلك من أصل 217 مقعداً في البرلمان الجديد؛ أي بزيادة حوالي 10% من مجموع الأصوات، وهي نسبة تثير التساؤلات وتطالبنا كإسلاميين لمراجعة درس تونس، ومحاولة استخلاص الدروس والعبر، خاصة بعدما سبق للنهضة أن فازت في الانتخابات السابقة بـ89 مقعداً من 217 هم مجموع أعضاء المجلس الوطني التأسيسي؛ أي بنسبة 37%، وذلك على إثر سقوط نظام زين العابدين بن علي في أول ثورات الربيع العربي، والتي بنجاحها تمددت تلك الثورات وحركة الشارع إلى أكثر من دولة شرق أوسطية منها ليبيا ومصر وسوريا واليمن، ولكن معظم دول الربيع العربي شهدت انتكاسات وحلت بها النكبات باستثناء تونس، التي كان لقيادتها الحكيمة؛ ممثلة بالشيخ راشد الغنوشي والأستاذ عبد الفتاح مورو، القدرة على سرعة التصرف والإمساك بخطام مرحلة التحول، والنجاة من مكر الدولة العميقة، وذلك بالتخلي عن الحكومة، والرهان من جديد على العملية الديمقراطية وآلية التداول السلمي للسلطة.
خسرت النهضة صدارتها لمشهد الحكم والسياسة، ولكنها ربحت نجاح العملية الديمقراطية، وكذلك احتفاظها بموقع متقدم عن باقي الأحزاب السياسية الأخرى، حيث حصلت على نسبة 38%؛ أي المركز الثاني.
لقد أعجبتني تلك العبارة للناشط الحقوقي مصطفى إبراهيم، حيث قال: في تونس لا هزيمة لأحد، تونس تفوقت على نفسها وعلى غيرها من الدول العربية، والهزيمة والانكسار هو من نصيب من اختاروا طريق الاقصاء وعدم قبول الاخر، فالشراكة يجب أن تكون خيار الأحزاب السياسية العربية لبناء مجتمع ديمقراطي تعددي.
حركة النهضة: قبل الثورة وبعد الحكم
السؤال الذي يطرح نفسه أمام كل متابع لشأن الإسلاميين والسياسة، هو: هل حركة النهضة التونسية بدَّلت أو تغيرت فيما كانت تطرحه من أفكار حول الديمقراطية وشئون الحكم بعد وصولها لرأس هرم السلطة في انتخابات أكتوبر 2011م، أما أنها حافظت على صدقية مقولاتها وقناعات قيادتها التي كانت ترددها قبل الثورة؟
الحقيقة التي لا ينكرها أحد، هي أن حركة النهضة ورئيسها الشيخ راشد الغنوشي لم تخرج عن سياقات ما كانت تقوله دائماً حول أهمية تعزيز العملية الديمقراطية لنجاح الحياة السياسية في تونس، وأن الأفكار التي كان يعرضها الشيخ الغنوشي عبر خطاباته وفي كتبه لهي خير شاهد ودليل على مصداقية إسلاميِّ تونس.. ويكفي لأي متابع للشأن الإسلامي مطالعة كل ما كان يكتبه الشيخ الغنوشي على مدار أكثر من ثلاثين سنة وخاصة ما أورده في كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)، و(الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام) للتأكيد على ثبات مواقفه ومقولاته قبل الحكم وبعده.
ومن الجدير ذكره، أن تونس كانت تعاني قبل ثورة الياسمين من الاستبداد وحكم الفرد، ولكنها لم تكن محاصرة، بل كانت بلداً مفتوحاً على الثقافات الأخرى.. ولذلك؛ فإن حركة الوعي فيها متقدمة على الآخرين في عالمنا العربي، وقياداتها التي تصدرت العمل السياسي لم تكن مأزومة أو تعاني من عقلية الحصار، لذا فإن نموذجها في مشهد الحكم والسياسة مختلف تماماً عن غيرها من دول الجوار.. لهذا السبب؛ فقد تمكنت - بسلاسة وانسجام - خلال ثورتها من الانتقال السلمي من حالة القهر والاستبداد إلى الانفتاح والديمقراطية، ثم ها هي اليوم تتحرك منتشية مزهوة باتجاه التعددية السياسية، وذلك ضمن توافق وطني يحفظ التوازن والاستقرار لمستقبلها السياسي.
الإسلاميون: ماذا بعد درس تونس
إن الذي تابع بعض ما كتبه الإسلاميون تعقيباً على نتائج الانتخابات التونسية يشعر بالارتياح، ويشعر بأننا كإسلاميين بدأنا نعي درس السياسة، وضرورة التسليم بما يفرزه صندوق الاقتراع من نتائج، والإيمان بأن مآلات الأمور هي لما قدمناه من عمل، وهو كافٍ للحكم لنا أو علينا.
لقد عرفت الشيخ راشد الغنوشي كتابة وفكراً ومعايشة منذ أكثر من ثلاثين سنة، حيث كنت أقرأ له في مجلة المعرفة التونسية في أواخر السبعينيات، والتقيته في لندن وواشنطن العديد من المرات طوال فترة الثمانينيات والتسعينيات، كما حاورته واستمعت إليه في الكثير من الندوات والمؤتمرات، وحتى بعد عودته من المنفى، واستعادة مكانته في تونس كزعيم إسلامي ورئيس لحركة النهضة، كان لنا معه أكثر من جلسة ولقاء في تركيا وتونس، فما شاهدنا في الرجل إلا حكمة بالغة، ووعي بحركة التاريخ وتقلبات السياسة، وأنه ربان ماهر نجح – بذكاء - في إخراج حركته من دائرة التآمر والاستهداف، وذلك حين قرر مغادرة مبنى الحكومة حفاظاً على أرض الوطن، وتمكن بذلك من قطع دابر الفتنة، وكبح جماح أولئك الذين كانوا يتربصون بأمن البلاد واستقرارها.
لم تتغير قناعات الشيخ راشد بعدما دان له الملك، وأصبحت أدوات الحكم بيد حركته، حيث أظهر الكثير من المرونة والبراعة في الحرص على الشراكة السياسية مع الآخرين.. إن تاريخ الشيخ الغنوشي يشهد له أنه كان دائماً يقدر العملية الديمقراطية ويقدمها على أية اعتبارات حزبية أخرى، ولقد سمعته يقول: نحن نأتي باختيار الشعب التونسي لنا عبر صناديق الاقتراع، ونغادر أيضاً بخياره، وهذه هي الديمقراطية التي نحترمها.. لن نفرض أنفسنا على أحد بالقوة، فإذا لم ننجح في اقناع الشعب ببرنامجنا، وأخفقنا في تحقيق الأهداف التي رفعناها، فللشعب الحق في اختيار بديلٍ عنَّا، وعلينا أن نجتهد لتقدم الأفضل ثم نكرر المحاولة في دورات انتخابية قادمة.
ولعل فيما كتبه الصحفي محمد كريشان توضيح لما نرمي إليه، حيث قال إن ما جاءت به النتائج وما أظهرته حركة النهضة من موقف التسليم بالعملية الديمقراطية إنما هو جيد للحركة ومراجعاتها… "إذ كان من الإيجابي للغاية أن تسجل الحركة نفسها كأول حركة إسلامية في التاريخ المعاصر تُمسك الحكم بالانتخاب ثم تتركه بصيغة توافقية مع الآخرين قبل أن تنزلها الصناديق من موقع الصدارة".
وأضاف: "إن أروع ما سجلته الانتخابات التونسية الأخيرة من دروس أن الحركات تصعد وتنزل في مسار ديمقراطي، يترسخ تدريجياً، بناء على قدرتها على التجاوب مع تطلعات الناس وطموحاتهم وأن هؤلاء الناس قادرون بدورهم على تعديل الموازين بعيداً عن الانقلابات والعنف والمغامرات".
أما الأستاذ فهمي هويدي فقد أشار إلى أن حركة النهضة نجحت في تقديم نموذج جسَّد المصالحة مع الديمقراطية من جهة، ومع الاعتدال العلماني من جهة ثانية.
وفي سؤال حول الخاصية التي توفرت في تونس وغابت في بقية بلدان الربيع العربي، أوضح د. عبد الوهاب الأفندي؛ أستاذ العلوم السياسية في جامعة "وست منستر"، وجود شيء واحد هو رئيس حركة النهضة وزعيمها التاريخي الشيخ راشد الغنوشي. وقال إنه "أظهر مقدرة على القيادة وتفادي مخططات اغتيال الثورة".
وللحقيقة والتاريخ، فإن الشيخ الغنوشي باختياره عام 2011م الدخول بحركته في صيغة توافقية جمعتها في تحالف ضم إلى جانبها اثنين لا يشاركانها شعار التوجه الإسلامي، وتقاسما معها السلطة ومشهد الحكم والسياسة، كانت خطوة غير مسبوقة في تاريخ الفكر الحركي الإسلامي بالدول العربية، وهو بذلك النهج يكون قد أسس لمفهوم جديد في أدبياتنا الإسلامية، وقد ينظر البعض من الإسلاميين إلى ذلك باعتباره اجتهاداً قد اقتضته الضرورة، أهو حركة وعي تقدمت به حركة النهضة على باقي حركات الإسلام السياسي بالمنطقة العربية.
الإسلاميون وضرورات المراجعة السياسية
إن تجربة حركة النهضة في سدَّة الحكم والسياسة يجب أن يتفحصها كل الإسلاميين في العالم العربي، ويجب أن يأخذوا منها الدروس والعبر، فهي بمثابة الرد على كل الاتهامات التي طالت الإسلاميين على مدار أكثر من ثلاثة عقود، بأنهم إذا وصلوا للسلطة فلن يغادروها، بل ستتحول لديهم إلى "مُلك عضوض"، أو كما عبرت عن ذلك الصحفية الأمريكية جوديث ميللر في مطلع التسعينيات، حيث كتبت بأن الإسلاميين يدلون بأصواتهم لمرة واحدة ثم يستحوذون على السلطة إلى الأبد (One Man, One Vote, One Time).!! محذرة – آنذاك - الإدارة الأمريكية من دعم المسار الديمقراطي في الجزائر وبعض الدول العربية الأخرى.
منذ ذلك الحين، وهذا التحذير قائم لأكثر من ربع قرن، وهو ديدن السياسة الغربية للأسف.. لذلك، ظلت أمريكا والدول الغربية تتحدث عن التغيير والإصلاح ونشر الديمقراطية، ولكنها لم تدلل أو تبرهن عن مصداقية ما تبشر به أو تدعو إليه.
اليوم جاءت حركة النهضة التونسية لتثبت خطأ ادعاءات الغرب واتهاماته للإسلاميين بتشبثهم بالسلطة حالما وصلوا إليها؛ حيث تنازلوا - طوعاً لا كرهاً - عن الحكومة، ولم يعترضوا على أن الحكم - الآن - قد دان لخصومهم السياسيين من حزب (نداء تونس)، بل أرسلوا لهم التهاني وباركوا فوزهم، وتمنوا لهم التوفيق والنجاح في إدارة شأن البلاد، وتحقيق ما يصبوا إليه الجميع من أن يعمَّ ربوع البلاد الأمن والأمان والسلام، وأن يسود حياة الناس الاستقرار والوئام.
ختاماً: فاعتبروا يا أولي الأبصار
لقد أسعدني أن الكثير من النخبة الإسلامية عبَّرت عن ارتياحها لنتائج الانتخابات التونسية، حيث إن الساحة السياسية في العالم العربي ما تزال تتخبط ومنسوب التوتر فيها عالياً، والمشهد الإسلامي الذي يرسمه تنظيم الدولة في العراق وسوريا (داعش) لا يبعث على الاطمئنان، ويخلق حالة من الشعور بالاستياء والقلق حيال كل ما هو إسلامي.
إن هناك مجموعة من المواقف والسياسات يجب على الإسلاميين التأكيد عليها في المرحلة القادمة، وهي:
أولاً) تعزيز المسار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، وعدم السماح بتكريس سياسة الحزب الحاكم والزعيم الملهم.
ثانيا) الحرص – دائماً - على تعزيز مفهوم الشراكة السياسية والتوافق الوطني.
ثالثاً) ترك مساحة للآخر تمنحه الحركة والحضور، وتجنب لغة المطلقات واحتكار الحقيقة.
رابعاً) الوعي بأن حالة التربص والاستهداف للإسلاميين هي في أعتى موجاتها، وهي تفرض عليهم اعتماد "سياسة التخذيل" عن أنفسهم، وضرورة البحث عن مخارج في أفق الدين والسياسة تحمي رؤيتهم، ومشاريعهم في التغيير والإصلاح.
إن تونس (ثورة الياسمين) كانت هي التجربة العربية المشرقة في صناعة حركة النهوض والتغيير الذي بدأ في أواخر عام 2010م ومطلع 2011م، وهي اليوم ما تزال تتصدر مشهد التغيير السلمي للحكم، حيث قدَّم الإسلاميون من حركة النهضة أروع المثل بتقبلهم وتهنئتهم لمن فازوا عليهم من خصومهم العلمانيين من حزب (نداء تونس).
إن نجاح هذه التجربة في تونس سوف يؤسس لمستقبل تكون فيه الشراكة السياسية بين الإسلاميين والعلمانيين (ليبراليين ويساريين) هي حتمية تفرضها الوقائع وظروف الواقع، كما أنها الطريق الأمثل لأمن واستقرار البلاد، وإخراجها من ظلمات الفقر والاستبداد إلى فضاءات الكرامة والعزة وحرية العباد.
قد تكون تونس بتجربتها السياسية لنا كإسلاميين هي بمثابة البداية إلى التماعة الضوء في نهاية نفق الظلم والاستبداد، واستعادة آفاق مجدٍ أمة كانت عظيمة.