ياسر عرفات في ذكراه: المناضل والزعيم وصانع الهوية الوطنية
نشر بتاريخ: 11/11/2014 ( آخر تحديث: 11/11/2014 الساعة: 13:02 )
د.أحمد يوسف
على إثر التفجيرات الإجرامية والتهديدات والتصريحات النابية والاتهامات النارية المتبادلة بين فتح وحماس، والتي خيَّمت على أجواء الذكرى العاشرة لاستشهاد القائد والزعيم البطل ياسر عرفات (رحمه الله)، سألني ابني إذا ما كنت سأذهب إلى مهرجان إحياء الذكرى في ساحة الكتيبة بغزة، قلت: إن شاء الله، وسنذهب معاً.
لم أكن أتوقع بعد يومين من هذا الحديث المفعم بالأمل، أن يفشل الجميع في طي صفحة الخلاف والتوتر، وتجاوزها - ولو ليوم واحد - إكراماً لذكرى عزيزٍ علينا، وعلى أمتنا، وعلى كل أحرار العالم ومناضليه!!
خذلناك مرة أخرى يا أبا عمار، وأنا - هنا - لا أستثني أحداً، خذلتك فتح كما خذلتك حماس، ولا عذر لأحدٍ منهم، خذلتك الفصائل، وخذلتك "الطائفية الحزبية" وأطرها التنظيمية، وخذلك كل الذين اختزلوا الوطن بسقوف هابطة من الشعارات والرايات، وبمهرجانات تغصُّ بأصحاب الحناجر والفذلكات.
خذلناك وخذلنا أجيال الشباب وكل من أحبك يا أبا عمار.. خذلنا زغاريد أم الشهيد، خذلنا الوطن والدمعات، خذلنا عناوين الرجولة والبطولة فينا، خذلنا مشهد الصمود الأسطوري الذي صنعناه في تصدينا لجيش الاحتلال، وخذلنا كل من انتظرنا بحرقة ليسمع ما نقول بعد عقد من غيابك يا أبا عمار.
اليوم، وبعد أن هزمتنا "الطائفية الحزبية" وحسابات الصغار، عاودتنا مشاعر الحزن والأسى من جديد يا أبا عمار، حيث كنا نريد بإحياء ذكراك – يا سيدي - أن يشهد الجميع المناسبة، وأن يكون القسم بين يديك، تردده الآلاف من أبناء شعبك العظيم، إنه قسمٌ لذي حجر، حيث نعاهد الله ألاَّ نعاود الانقسام بعد اليوم؛ فالقدس بحجارتها وأهلها المرابطين فيها، وبتراثها وكنائسها وقبور الشهداء من الصحابة والتابعين وتابعيهم على ثراها تنادينا، والأقصى يستصرخنا: أيها الفلسطيني من في القدس إلا أنت؟!.. وكذلك بتجديد القسم بين يديك يا أبا عمار بأننا على العهد باقون: كلنا فداءٌ للوطن ولعهد الشهداء، الذين سبقونا بالتضحية والدماء.
حسبنا الله ونعم الوكيل على كل من تعمد ويتعمد قتل الخير فينا، ويتقصد الأخذ بنا إلى دروب المهالك ومسارات اليأس والإحباط، ويحاول - بمكره وخسّته - أن يضلنا عن السبيل، وأن يفتَّ من عزيمتنا، ويحرف بوصلة نضالنا ليصبح بأسنا بيننا شديداً.
أبو عمار: مسيرة ورباط وذكرى بطل شهيد
يبقى الشهيد ياسر عرفات (أبو عمار) في الذاكرة الفلسطينية هو العنوان الأبرز لمنظمة التحرير الفلسطينية وللنضال الوطني الفلسطيني، وأيضاً للفضاء العالمي لفلسطين داخل أروقة السياسة ومحافلها الدولية، لقد وضع الرئيس أبو عمار (رحمه الله) فلسطين على خريطة الجيوبولتيك العالمي، بالرغم من كل المحاولات الإسرائيلية لطمس القضية، وتظهير الحالة الفلسطينية وكأنها إشكالية لا تتجاوز وضعية "أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض"..!!
لقد تحرك أبو عمار في بواكير شبابه من أجل القضية الفلسطينية، ففي أواخر الخمسينيات؛ أي في عام 1958م، شرعت بعض العناصر الإسلامية - بالتنسيق مع ياسر عرفات - في الدخول على خط تنظيم الإخوان المسلمين بمنطقة الخليج العربي، وذلك بهدف تشكيل حالة نضالية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولكن التوجّس والخوف من اعتراض النظام الرسمي أو عدم ترحيبه بهذه "الحالة النضالية" جعل الإخوان يترددون في التعاطي مع المبادرة، ويسجلون تحفظهم الشديد عليها.
استمرت جهود هذه الطليعة - التي كان يقودها الأخ ياسر عرفات - في العمل لتسويق الفكرة عدة سنوات، حتى وجدت لها العدد الكافي من الأنصار، وآلية الدعم والمناصرة فلسطينياً وعربياً، فانطلقت فتح في مطلع عام 1965م، ثم كانت قيادتها لمنظمة التحرير في 1968م، حيث تمَّ انتخاب (أبو عمار) رئيساً للجنة التنفيذية، وبدأ في التحرك لحشد جهود الاعتراف العالمي لها.
في الحقيقة، لقد صنع (أبو عمار) في مشوار نضاله الطويل للفلسطينيين عنواناً وهوية، وأوجد حالة انتماء تجذرت فينا وفاح شذاها مع عطر دم الشهداء والجرحى، ونسمات شموخ المعتقلين والأسرى.
لقد كان أبو عمار - سواءٌ اتفقنا معه أو اختلفنا - بطلاً قومياً، ونموذجاً في الوطنية والتضحية والفداء.. ففي معركة الكرامة عام 1968م كانت وقفته الأسطورية في وجه الهجمة الإسرائيلية وانتصاره الذي مرَّغ أنف الجيش الإسرائيلي في أول اجتياح فاشل استهدف المقاومة الفلسطينية في الأردن.. كان هذا الانتصار ردة اعتبار للأمة العربية التي أذلتها نكسة عام 1967م، مما أعاد للشعب الفلسطيني والرئيس أبو عمار مكانته في الساحة الاقليمية.. وكان صموده وثبات المقاومة أيضاً عندما تعرض لبنان للعدوان وبيروت للحصار في عام 1982م، قبل الرحيل إلى تونس والعودة من هناك عزيزاً إلى أرض الوطن عام 1994م.
كان أبو عمار إنساناً في مشاعره وأحاسيسه، كان في سلوكياته أباً حانياً، يصول ويجول داخل حارات المخيم ويجالس ساكنيه ويمازحهم، ويكفكف بعطفه دموعهم، ويربت على أكتاف الجرحى، ويقبل رؤوس الشهداء، ويغبر أقدامه في وداعهم، ويسقي بدموع عينيه مدافنهم وآثارهم.
كان أبو عمار (رحمه الله) يرعى أبناء الشهداء وأسرهم، ويحفظ لهم العهد.. كان جواداً كريماً، يمنح – دائماً - بسخاء من لا يخشى من ذي العرش إقلالاً.
أبو عمار - اتفقنا أو اختلفنا معه - يبقى رمزاً وطنياً، أحببنا فيه الوطن، وقدّرنا فيه إخلاصه لقضيته وشعبه، وكنّا – ونحن شباب - نشاهد ابتساماته العريضة، التي تغرس فينا الأمل بقرب تحقيق حلم العودة وقيام الدولة الحرة المستقلة.
أبو عمار – اتفقنا أو اختلفنا معه – هو صانع الهوية الوطنية، حيث فرض اسم فلسطين ونقش طقوس الاحترام لشعبها، وأوصلها كقضية إلى كل المحافل الدولية، وصار الفلسطيني بكوفيته رمزاً للثورة وعنواناً للنضال ضد كافة أشكال الاحتلال والعنصرية.
لله درّك يا أبا عمار.. كم تجاوزت المصاعب والعقبات، حتى أطلق بعضهم عليك لقب "الزعيمُ ذو السبعة أرواح".
لقد نجحت في كسب الدعم العربي والإسلامي لقضية فلسطين ولثورتها، وتوفير الإغاثة لشعبها.. لقد فتحت لك العواصم العربية والغربية أبوابها، فكنت دائم الحضور لتأكيد عروبة فلسطين ومظلومية أهلها.. لقد جعلت المجتمع الدولي يعيد إلى طاولة النقاش كل الملفات التاريخية الخاصة بفلسطين، على أمل الاستدراك وإعادة العدل إلى نصابه.. كنت تتطلع – يا أبا عمار - إلى أمة عربية وإسلامية تنصرك وتنتصر لقضيتك، ولكن الرسميّة العربية كما الإسلامية خذلتك، كما خذلتنا جميعاً من بعدك.
لم تكن الثورة بلا أخطاء، بل كانت الممارسات الخاطئة تلاحقها، حاول أبو عمار إمساك العصا من المنتصف بهدف إنقاذ الثورة وتطوير قدراتها، ولكن رهاناته على النظام العربي أوقعته في دائرة التناقضات والصراعات.. من هنا، بدأت رحلة الفلسطيني على طريق التيه والحيرى، والتخبط على غير هدى.
لم تكن المسيرة سهلة على القائد والزعيم، إذ حاول - بذكائه السياسي - أن يكسب الجميع، فقبّل رؤوس الرسميات العربية وعانقها جميعاً كِرْمال عيون فلسطين، ولكن الشقاق القائم داخل الصف العربي كان أكبر من أي جهد لأبي عمار، حيث تشرذمت ساحة العرب، وغدت صفوفهم شيعاً وأحزاباً.. فالرسميات العربية كانت – للأسف - مجرد بيادق لها أسيادها ومساراتها المحظورة، التي جعلت سفينتك تلاطم الموج وحدها في بحر الظلمات.
استدرجوك إلى مدريد وأوسلو وكامب ديفيد لينتزعوا منك حقوق شعبك وثوابته الوطنية، ولكنك كنت الأوعى فلم ينالوا من عزيمتك.. لاشك أن بعضهم حاول خداعك وتضليلك والتدليس عليك، خدمة لعيون أمريكا وربيبتها إسرائيل.
بعد خطيئة العراق بغزو الكويت، كثرت عثرات العرب، وانعكست آثارها السلبية على القضية الفلسطينية، حيث شاهدنا في بداية التسعينيات كيف انجرَّ العرب إلى مؤتمر مدريد للسلام، وبدأ البعض منهم في تطبيع العلاقة مع إسرائيل.. ثم تلاحقت الانهيارات تحت عناوين واتفاقيات كان الفلسطينيون فيها هم الخاسر والضحية.
مشوار طويل قطعه (أبو عمار) من أوسلو إلى كامب ديفيد إلى الحصار داخل المقاطعة في رام الله .. لن ينسى شعبنا صمود (الختيار) ومواقفه، تلك التي كانت تتحدى إشارات التهديد بالموت والحصار... لم تلن له قناة، ولم تنكسر له عزيمة، وظلت ابتسامته أو غضبته تحرك فينا الأمل، وتعزز من صمود شعبنا ورفضه لكافة أشكال الاحتلال.
كم كانت قامتك عالية يا أبا عمار، وكم كان حبك لهذا الشعب (شعب الجبارين) كما كان يحلو لك وصفه انسجاماً مع النص القرآني: "إنَّ فيها قوماً جبارين".
لم يقل التاريخ كلمته بعد يا أبا عمار.. وإن كنّا على قناعة بأن صفحاته سوف تنصفك، لأن محبتك تسكن قلوب شعبك في الوطن والشتات، وهي مصدر إلهامٍ لهم جميعاً.
أبو عمار: الرمز والقضية والهوية الوطنية
ربما يدرك كل من عاش خارج هذا الوطن واستقر به المقام في بعض الدول الغربية، أن السيد ياسر عرفات (رحمه الله) كان هو بمثابة البصمة الوراثية (DNA) للشعب الفلسطيني وهويته الوطنية. لقد كنا - أحياناً - نحتاج لذكر اسمه ونحن نحاول التعريف بأنفسنا وببلدنا، حتى يفهم البعض في أمريكا وأوروبا من أي بقاع الأرض جئنا، وما الذي يمثله بلدنا العزيز. لقد كنا نجيب على من يسألنا عن أصولنا ووطننا الأم بالقول: إننا من فلسطين.. فيرد باستغراب وتردد: باكستان..!! نكرر الرد قائلين: فلسطين، وذلك بتشديد النطق على كل حروفها، فيصدمك رده المتلعثم: أفغانستان..!! تعاود القول بعناد واعتزاز، لا.. أنا من فلسطين؛ الأرض المقدسة، القدس، المسجد الأقصى، كنيسة القيامة، ياسر عرفات.. عندها يهز رأسه علامة الفهم، ويردد بإعجاب ياسر عرفات. عندئذ ترفع له الابهام "أصبع البصمة"، وتقول بفخر: نعم؛ نعم.
لقد صنع الأخ الشهيد (أبو عمار) لهذا الشعب هوية الفلسطيني الثائر في وجه المحتل الغاصب، وهوية المناضل من أجل قيم الحرية والكرامة الإنسانية، وهوية المنتفض ضد الظلم والقهر والاستبداد.. هوية رسمت ملامحها كوفية الفدائي وطفل الحجارة الذي يتحدى - بكل جسارة وإصرار- آلة الحرب والعدوان الإسرائيلية، ويجدع بمقلاعه أنف الغطرسة الصهيونية، ويكسر شوكة جيش الاحتلال المدجج بآلة القتل والدمار، هوية الاستشهادي الذي يحمل روحه على راحته ليهب لشعبه الحياة، ويبعث - بدمه وأشلائه الطاهرة - في جسد أمته ربيع النهوض والشهود الحضاري.
اللقاء في واشنطن: العهد والوفاء
عندما اعتقل د. موسى أبو مرزوق مسؤول المكتب السياسي لحماس في أمريكا عام 1995م، تحركنا نحن أبناء الجالية الإسلامية للدفاع عنه والعمل لإطلاق سراحه، وكنت أحد المسؤولين عن هذا الملف.
وعندما جاء الرئيس ياسر عرفات لزيارة واشنطن واللقاء بالرئيس بل كلينتون في عام 1997م، طلبت لجنة الدفاع عن د. موسى أبو مرزوق اللقاء به، فرحب بلقائنا وذهبنا اليه بعد أن أنهى جلسته مع الرئيس الأمريكي، وسهرنا الليل معه نتحدث عن ظروف اعتقال د. أبو مرزوق والمطلوب بذله فلسطينياً من أجل إطلاق سراحه.. وعد الأخ أبو عمار بذل كل الجهد لضمان عدم تسليمه لإسرائيل، والعمل مع الأمريكان لإطلاق سراحه.. كانت سهرة طويلة قضيناها معه، وكان فيها يبدو بكل حيوية الشباب وقوته.. لم يخذلنا (أبو عمار)، إذ لم يمكث د. أبو مرزوق بعد ذلك طويلاً، حيث قامت الإدارة الأمريكية بترحيله للأردن، وغلق هذا الملف.
أبو عمار والشيخ أحمد ياسين: تجليات الحكمة والوطنية والاستشهاد
لن تنسى الساحة الإسلامية والوطنية مشهد الزعيم (أبو عمار) وهو يطبع قبلة على جبين الشيخ أحمد ياسين، كانت الرسالة التي التقطتها العيون أن جوهر العلاقة بين فتح وحماس هي: "إن اختلاف الرأي والموقف لن يفسد قضية الود والمحبة بيننا".
لم تتوقف محاولات (أبو عمار) ومساعيه لكسب حماس إلى جانبه أو وضعها – إن أمكن - تحت عباءته.. ولما تعذر ذلك عليه، حافظ أبو عمار على علاقة متوازنة معها، ولولا تجاوزات الأجهزة الأمنية في عام 1996م لظلت صفحات العلاقة بين فتح وحماس في منسوبها السياسي الفاعل والمعقول.
لم تنقطع حالة التواصل بين الزعيم (أبو عمار) والشيخ أحمد ياسين، وظلت "شعرة معاوية" قائمة على أصولها.. وبين حكمة الرجلين وبُعد النظر في رؤية كل منهما تجاه الآخر، تعايشت فتح وحماس، فكانت المقاومة الإسلامية تحظى بمساحات واسعة من التشجيع وغض الطرف عن عملياتها العسكرية، حيث إن أبا عمار كان يفقه لغة الحرب والسياسة، ويحاول بذلك المزاوجة بين المقاومة والمفاوضة، باعتبار أنَّ الأولى هي وسيلة قوية لتحسين شروط التفاوض وتحصينها على طاولة الحوار.
رحمك الله يا أبا عمار.. فستبقى ذكرى استشهادك للأجيال محرك استنهاض وبعث لشعب عظيم، كما أنها ستكون عنواناً وصفحات عزٍّ للتذكير بجهاد شعبنا ونضاله المستمر في وجه الاحتلال، وستظل كلماتك ومواقفك حتى الرمق الأخير هي المشكاة المضيئة وكنانة السهام للمقاومين الأبطال، حتى يتحقق الحلم في التحرير والعودة والحرية والاستقلال.
وختاماً؛ ونحن في يوم الذكرى، لن تغيب طلعتك وابتسامتك وكلماتك الخالدة أياماً قبل الوداع؛ شهيداً يا أبا عمار، والدمع لا يكفي على من سكن في حنايا قلوبنا، وترك باستشهاده فيها ألف بصمة وأثر.
وداعاً وداعاً يا أبا عمار.. نقولها ونحن نطوي – بُحزنٍ وأسى - عشر سنوات من الرحيل وحضرة الغياب.