الأحد: 22/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

أحمر أخضر- علاقة تكامل (2) الاحتباس الحراري- أزمة المناخ العالمية

نشر بتاريخ: 23/08/2007 ( آخر تحديث: 23/08/2007 الساعة: 22:28 )
(ترجمة الجزء الأول من الفصل الثالث في كتاب "العولمة" لد. دوف حنين)

قبل الخوض بقراءة الجزء الأول من الفصل الثالث، من كتابي حديث الصدور "العولمة"، حول ظاهرة الاحتباس الحراري، لا بد من العودة والتأكيد من خلال هذه الفقرة، بأن هذه الظاهرة تجسد بشكل واضح لا لبس فيه البعد الاجتماعي السياسي للتلوث البيئي الأكبر والخطر والذي بات يهدد حياة البشر وبقائهم على الكوكب، لا بد من العودة والتأكيد بأن هذه الظاهرة المدمرة لا تنجم عن "خطأ فني" انما هي الحصيلة الطبيعية للنظام الرأسمالي البشع، الذي لا يهه لا مستقبل البشرية ولا مستقبل الأرض، إنما سؤال مركزي واحد هو كيف يمكن تحقيق المزيد من الأرباح؟!
ويبقى السؤال الأساسي المقلق أمامنا في هذا المضمار، كيف يمكن أن يحدق بنا كل هذا الخطر الفظيع، خطر الاندثار دون أن نحرك ساكنا؟ لأن النظام الرأسمالي تمكن من بناء جهاز تمويهي عملاق يهمش القضايا البيئية ويغض الأبصار عنها، فلنر بوش، كيف يعلل انسحاب امركيا من أهم محاولة لانقاذ الكرة الأرضية بحجة الدفاع عن القدرة على المنافسة الصناعية..
د. دوف حنين

دار الجدل حول ارتفاع درجة حرارة الأتموسفيرا لسنوات عدة. كان ذاك- بمفاهيم عدة- جدلا سياسيا، يحمل بطياته مصالح متضاربة وأبعاد اقتصادية. لكنه، وحتى الآونة الأخيرة، وصف كأنه جدل علمي، جاء للتمويه عن كنه الجدل السياسي الاقتصادي بمسائل الاحتباس الحراري.

هنالك مرحلتان في هذا الجدل العلمي: في المرحلة الأولى، تمحور الجدل حول السؤال ان كانت درجة حرارة الأتموسفيرا ترتفع حقا، وفي المرحلة الثانية سئل إن كان هذا الارتفاع نابعا عن تصرف بشري.

* هل الحرارة ترتفع حقا؟

حتى نهاية سنوات الثمانين من القرن المنصرم أدعي بجدية بأن درجة حرارة الأتموسفيرا لا ترتفع إلا أن هنالك صورة دورية، مرة ترتفع درجة الحرارة ومرة تنخفض وهكذا دواليك. هذا النقاش حسم، والصورة اليوم واضحة للغاية: في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، نلحظ بوضوح الارتفاع الدراماتيكي بدرجات الحرارة في القارات والمحيطات نرى أيضا صورة واضحة للتغيير بأصناف التسربات العالمية: تسربات أقل بكثير، تصحُّر في أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، في الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية وفي منطقة جنوب غرب الصين. الأمر يتضح أيضا بنظرة تاريخية مقلقة: عملية الارتفاع بدرجة الحرارة تظهر تقافزا الى الأعلى في الرسم البياني لدرجة الحرارة المتوسطة، الى درجات أعلى من تلك التي ميزت مئات وألوف السنوات الأخيرة.

ومن الواضح اليوم بأن عملية الارتفاع الحادة بمعدل درجة الحرارة لم تميز السنوات المئة والأربعين الأخيرة- الفترة التي بدأت الحرارة تقاس فيها بواسطة أجهزة- ولا أيضا ألوف أو عشرات ألوف السنوات الأخيرة، التي من الممكن أن تخمن فيها درجات الحرارة المتوسطة بوسائل أخرى. الصورة التي نحصل عليها خطرة: نرى بأن ارتفاع الحرارة يحدث بالفعل، وبتسارع دائم، خاصة بدءا بسنوات الثمانين. فالحرارة اليوم أكثر ارتفاعا ويبدو بأن المناخ آخذ بالتغير مقارنة بعشرات ألوف السنوات ألأخيرة.
هذه المقولة قد تبدو عمومية، وقد يكون من الصعب فهم معانيها العملية، سأحاول أن أفسر الأمور بنماذج من حياتنا اليومية: ما معنى الاحتباس الحراري على حياتنا، كيف يؤثر التغير في درجة الحرارة المتوسطة علينا بشكل عملي ، وكما ذكرنا فهو التغير الذي يحدث اليوم بسرعة أكبر بكثير مما كان عليه في عشرات ألوف السنوات المنصرمة؟

سنوات التسعين شكّلت العقد الأشد حرارة منذ بدء قياس درجات الحرارة في التاريخ. العام الأحمى كان عام 1998 ومن ثم العام 2001. في العام 2003 كانت درجة الحرارة قريبة لدرجة الحرارة في العام 2001. في موجة الحر من العام 2003 مات في فرنسا وحدها حسب الاحصائيات الرسمية، 15 ألف انسان، وفرنسا كما هو معلوم دولة متطورة بعكس الهند أو أفريقا جنوبي الصحراء الكبرى.

وفيما يتعلق بالشتاء- كان شتاء 1999-2000 الأعلى حرارة في تاريخ الولايات المتحدة. خريف 2001 كان الأحر في تاريخ بريطانيا. تسع سنوات من أحمى عشر سنوات كانت بعد العام 1990.

من الواضح بأن هنالك أناسا تشكل هذه المعطيات بالنسبة اليهم مشكلة من الصنف "غير اللطيف" الى حد ما، والتي يمكن حلها: موجة الحر فرنسا حدثت بسبب النقص في المكيفات هناك، فالمكيفات ستسهل عليهم حياتهم. هذه رؤية خاطئة للمشكلة فالحديث لا يدور عن مشكلة "غير مريحة"، انما عن التحولات البيئية الأساسية في الكرة الأرضية.

هكذا مثلا، حدث تقلص جدي بفترة التجمد- الفترة التي تتجمد فيها المياه في الشتاء. خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، فقد الغشاء الجليدي في البحر المتجمد الشمالي 40% من كتلته الجليدية. في صيف 2000 نشرت الصحف تقريرا عن كاسرة الجليد التي حملت سياحا وحاولت الوصول بهم الى جوار القطب الشمالي. وقد استغرب الطاقم والسياح بأن السفينة لم تضطر الى كسر الجليد اذ أنه كان سائحا.

اذا ما تذكرنا القصص عن "نينسان" وسفينته "هبرام" والتي علقت في الجليد قرب المحيط الشمالي نهاية صيف، سبتمبر 1893، سنفهم الى أي حد مقلقة هي التغيرات بالمناخ.

التغييرات ليست واضحة في القطب الشمالي وحده فهنالك تغييرات واضحة تحدث أيضا في القطب الجنوبي، في قارة انتركتكا. في العام 1995 انفصلت عن القارة الجليدية كتلة جليدية عملاقة، لارسن A، بمساحة 8000 كيلو متر مربع- أكبر بكثير من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة معا. هذه الكتلة العملاقة ساحت وتفككت في المحيط. ولم تكن هذه الحادثة وحيدة. كتلة جليدية أخرى، لارسن B، والذي تبلغ مساحتها 3250 كيلو متر مربع- كمساحة الجليل بأكمله- تفككت أيضا وذابت في المحيط. هذه العمليات الدراماتيكية لا تحدث فقط في القطبين انما في الكتل الجليدية على اليابسة أيضا. احدى الحالات المقلقة هي سيحان الجبال الجليدية في الهملايا- وليس لأن الناس قرروا السفر الى هناك لعطلة تزلج.. المشكلة ألأساسية هي بأن الكتل الجليدية في الهملايا تغذي كل الأنهر الكبيرة في جنوب آسيا وجنوب شرق القارة، ويعيش حول هذه الانهر مئات الملايين من البشر. اذا ما واصلت سلسلة جبال الهماليا الجليدية التضرر بالشكل الذي تتعرض له اليوم فإن كل هذه الأنهر ستتضرر ومعها قدرة البشر على الحياة حولها.

في جنوب آسيا من الممكن الاشارة الى تغييرات أخرى ومنها التغير بوتيرة الأمطار الموسمية في الهند. في الماضي، تمكن الفلاحون هناك من التخطيط لمحصولاتهم حسب مواعيد ثابتة تقريبا، للأمطار الموسمية. لكن كلما تشوشت ظروف المناخ العالمي، كلما تغيرت وتيرة الأمطار الموسمية في الهند وكذلك تقلصت امكانية الفلاحين هناك من التخطيط لنشاطهم الزراعي.

تغير مقلق آخر هو التصحُّر، والذي يحدث في مركز آسيا وفي أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى. في أفريقيا هنالك شعور بالقحط من جهة وبموجات امطار متطرفة من جهة اخرى. في تنزانيا كانت هنالك سنة قحط واحدة كل عشر سنوات بالمعدل، ولكن في السنوات الأخيرة أصبحت سنة القحط تأتي مرة كل ثلاث سنوات. هنالك تصحر مقلق أيضا يحدث في أوروبا، في شبه الجزيرة إيبريا في اسبانيا والبرتغال.

في كل العالم هنالك تغيرات متطرفة في المناخ: من جانب واحد المزيد من العواصف الاستوائية الشديدة كالتي تحدث في الكاريبي ومن جانب ثان سنوات أكثر من القحط وفترات أطول من الجفاف، لهذه التغييرات تأثيرات كثيرة على الحيوانات، فنسمع عن انتقال أسماك السلمون الى الشمال حيث المياه الباردة بالقرب من المحيط الشمالي، عن قطعان الجراد التي تنتقل من أفريقيا الى شمال ايطاليا وعن طيور الوروار محبة الحر التي بدأت تعشش بشكل فجائي في بريطانيا. هذه المؤشرات موجودة في كل مكان. أصناف كثيرة تهاجر شمالا وهذه بالطبع مؤشرات على ارتفاع الحرارة.

في الجهاز الإيكولوجي المعقد، عندما تنتج مشكلة ما فإنها تؤدي الى مشاكل أخرى. مفتشو الغابات في الولايات المتحدة قلقون من هجرة أحد أصناف العصافير التي تعيش في الأدغال، شمالا الى كندا. عندما تهاجر العصافير فإنها تترك هذه الغابات عرضة لهجمات الديدان، التي تتمكن اليوم من التكاثر ومن التهام الأشجار وتجفيفها.

هذه الظواهر خطرة ومقلقة. لكن ليس الجميع قلقين منها: في النظام الأمريكي برئاسة بوش، مثلا، ليس هنالك أي قلق. فيرد سينجر، الذي يرأس مشروع السياسة البيئية في النظام الأمريكي، يقول بأنه "اذا أردت أن تقيس درجة الحرارة، استخدم الجهاز المعد لهذا بدلا من العصافير، للعصافير توجد عدة أسباب للهجرة شمالا، جنوبا الى الأطراف أو الى أي اتجاه تشاء." لكن هذا الموقف للنظام الأمريكي ليس هو الموقف المميز للعلماء.

الحلقة العلمية قلقة جدا من هذه المؤشرات ومن ردة فعل الحيوانات على التغير المتطرف الحادث في المناخ العالمي، والارتفاع بدرجة حرارة الأتموسفيرا.

المشكلة الحقيقية هي بأن التغير بدرجة حرارة الأتموسفيرا يحدث بسبب البشر. إنها تحدث بسبب اصدارنا الى الجو لغازات تحول كل الاتموسفيرا الى دفيئة واحدة كبيرة والى رفع درجة حرارتها عمليا.

الجدل السياسي حول مسألة ارتفاع حرارة الأتموسفيرا تستر في بداية الطريق خلف الجدل العلمي، الذي حسم بالاثبات بأن هنالك ارتفاعا منهجيا بدرجات الحرارة.
ولكن وبعد حسم النقاش في المرحلة الأولى، انتقل محور الجدل في سنوات التسعين الى سؤال آخر بخصوص الاحتباس الحراري، هل الارتفاع بحرارة الأتموسفيرا، نتاج عمل الانسان؟!

* هل الارتفاع بحرارة الاتموسفيرا ناجم عن التصرف البشري؟!

دار حول هذا السؤال صراع مرير في سنوات التسعين، خاصة في الولايات المتحدة. أدير الصراع من قبل جسم باسم Global climate coalition. بعكس ما يبعثه الاسم، لم تكن هذه مجموعة من محبي البيئة انما اطارا وقفت من ورائه كبريات شركات النفط في الولايات المتحدة. لقد أداروا صراعا مريرا وحملة اعلامية شرسة حول الادعاء بأن هنالك ارتفاعا بالحرارة بالفعل، بل وبأنه خطر ومقلق، لكنه غير ناجم عن تصرف بشري. في اطار هذا الصراع، عملوا على طرح نظريات مختلفة منها النظرية عن دورية في بقع الشمس التي تشرح عملية ارتفاع الحرارة.

لكن في هذا المجال أيضا فإن الصورة العلمية واضحة للغاية. اليوم، توجد أنظمة علمية تحلل الاحتباس الحراري بشكل دقيق، وهنالك اتفاق علمي واسع حولها. حسب هذه الأنظمة فإن التصرف البشري يفسر 95% من عملية ارتفاع الحرارة الحادثة اليوم. من الواضح بأن المسبب المركزي للاحتباس الحراري هو اطلاق الغازات للجو. اننا نطلق هذه الغازات عندما نحرق الوقود في محطات القوة، في المصانع، في السيارات.. وكذلك فإننا نغير تركيبة الأتموسفيرا وننتج هذه الحالة من الاحتباس الحراري.

توجد لتأثيرنا الدائم على الأتموسفيرا نتائج بعضها بعيدة الأمد. حتى اذا أوقفنا اطلاق غازات الدفيئة للأتموسفيرا- ستتطلب سنوات عديدة للنظام الايكولوجي من أجل العودة الى حالة الاستقرار المطلق.

يمكن القول بان الجدلين العلميين الكبيرين حول مسألة الاحتباس الحراري قد حسما، ويوجد اليوم حولهما اجماع علمي واسع. من الواضح لنا بأن هنالك احتباسا حراريا ومن الواضح أيضا أننا نحن- البشر- وبتصرفنا، بالغازات التي نطلقها للاتموسفيرا، ننتج هذا الاحتباس وما ينعكس عنه.

الاجماع العالمي العلمي ينعكس بجسم واسع من العلماء الناشط منذ العام 1988- ICPP (Change Intergovermental Panel on Climate). هذا الاطار يضم بنشاطه أكثر من ألفي ومئتي عالم من كل أرجاء العالم. عن استنتاجات الـ IPCC لا يوجد اليوم جدل حقيقي في الأكاديميا. المحاولة الحقيقية الأخيرة للالتفاف عليهم نفذت في مطلع العام 2001 حينما أنتخب جورج بوش الثاني، لرئاسة الولايات المتحدة. مع صعود بوش الى الحكم بعث برسالة الى الأكاديمية الأمريكية للعلوم- جسم علمي رفيع المستوى يعمل في الولايات المتحدة بتمويل من النظام هناك- وطلب منهم اعداد تقييم نقدي لمواقف الـ IPCC حول الاحتباس الحراري. وجاء رد الأكاديمية الأمريكية للعلوم الى بوش برسالة مفصلة عنوانها Climate chang science: an analysis of some key questions. الاستنتاجات من هذه الرسالة تدعم موقف الـ IPCC. الاستنتاجان الأساسيان هما: أولا، بأن هنالك تغييرا مناخيا جديا وبأنه ينتج خطرا آخذا بالنمو حول استقرار الأرض والحياة على سطحها، وثانيا، بأن هذه العملية ناجمة عن تصرف بشري.

هذا هو الرد الذي حصل عليه بوش وبعد وقت قصير توجه بوش الى الشعب الأمريكي بخطاب حول الاحتباس الحراري. امتنع بوش خلال خطابه عن العودة الى الجدل العلمي حول إن كان هنالك احتباس حراري ولم يثر أي شك بأن للتصرف البشري أي أثر على الموضوع، ولكنه قال بشكل واضح بأنه ورغم كل المحاولات العلمية سيؤدي بالولايات المتحدة الى الانسحاب من "بروتوكول كيوتو" المحاولة العالمية الاولى لمواجة ظواهر الاحتباس الحراري، لم يعلل بوش هذا الانسحاب بادعاءات علمية انما بادعاء آخر - بالانعكاسات التي قد يتسبب بها الالتزام البيئي للولايات المتحدة في القدرة على المنافسة الصناعية بينها وبين الدول النامية.

خلف هذا الخطاب، يقول منتقدو بوش، تقف مصالح المنظمات العملاقة التي تعتمد بأرباحها على استخدام النفط وترغب بأن يكبر استهلاك النفط. من الواضح بأن استهلاك المزيد من النفط واحراقه يزيد من كمية الغازات المنبعثة الى الجو. يدعي النقاد بأنه من غير الصدفة أن بوش والذي انتخب للرئاسة بدعم كبير من شركات النفط، ظل مدينا لها حتى بسياسته التي ينفذها اليوم.

هذا الالتزام ينعكس اليوم بامتناع النظام الأمريكي الحالي عن أي محاولة لتقليص اطلاق الغازات من الولايات المتحدة. عندما انسحبت أمركيا من "بروتوكول كيوتو" وقعت محاولت مواجهة الاحتباس الحراري بصعوبات سأذكرها لاحقا.

(يتبع)

لمراجعة الحلقة الأولى:
http://www.aljabha.org/q/index.asp?serial=&f=3396676743