ام شادي الطوس.. رحيل شتوي الى البياض
نشر بتاريخ: 13/01/2015 ( آخر تحديث: 13/01/2015 الساعة: 13:37 )
بقلم عيسى قراقع- رئيس هيئة شؤون الاسرى
بعد عام من غيبوبتها البيضاء رحلت ام شادي زوجة الاسير القائد محمد الطوس الذي يقضي 30 عام في سجون الاحتلال، تركت خلفها ثلجاً ومطراً ورياحاً تنادي الجهات الخمس في الدنيا، لعل معجزة اخرى توقظها من نومها الطويل لترى ان حلمها هو حلمها، وان الواقع اقوى من الخيال وعنجهية السجان، وسرمدية الموت المتمهل في السجون.
بين اصابعها العشر شتلة نعنع من قريتها الجبعة، والف شجرة تمشي في موكبها من البيت الى المقبرة، وانا من شاهد السماء تقترب برعودها وبروقها، وكان مطراً دافئاً يبلل الارض والناس والصلوات المورقات في وداع ام اطلقت فينا روح الايات وينابيع التراب.
صافحتنا واحداً واحداً، ووقفت امام بوابة سجن ريمون تنتظر عودة زوجها الذي اعد عمره وقلبه وقصائده للخروج اليها، وقفت حتى غابت الشمس، وقررت دولة اسرائيل النووية ان محمد الطوس لن يفرج عنه في اية دفعة قادمة.
وقالوا ان هناك خطر يهدد السلام العادل ودولتهم الممتدة من البحر الى النقب، بسبب وجود امراة قادرة على التنبؤ بالقادمين والعائدين، وقادرة على تخصيب الزمن وشد النطاق وانجاب الفرسان ومخاطبة السجان اذا اشتد الجفاف، وان هذه المراة تشبه الفكرة، وتملك اسباب الحياة في ذاكرة المكان.
نزلت ام شادي الى السوق، اشترت ما تحتاجه لليوم التالي، مصدقه تماماً ان محمد الطوس سيفرج عنه مع ثلاثين اسيراً دفعوا ثمناً اكبر مما انفق من موت على سلام تمخض عن سجون ومستوطنات واموال دول اطالت عمر الاحتلال ومنحته جمالاً على طول جدار حولنا، وجمدتنا مبتسمين امام حاجز ينظم خلايا مرورنا من دمنا الى عقلنا.
ثوب فلاحي برسم الورد، بدلة كحلية وكرافة للاسير العائد، حذاء جديد ، البوم تاريخي لصور البيت المهدوم، ام شادي ترفع الطوب والاسمنت وتتحدى الجرافة، صور اطفالها الصغار يكبرون رويداً رويدا، اصبحوا الآن في الجامعة، ملابسه القديمة لا زالت في الخزانة، رائحته وانفاسه وسجائره وحطته الرقطاء، خطواته الى الدوالي في الصيف لم يمسها الوقت، خباتها ام شادي بطين يديها، واوصت التراب ان لا يشيخ ويسافر في الغبار...
قبل ثلاثين عاماً جاءها النبأ ان محمد قد قتلوه مع رفاقه في ذلك الكمين العسكري، صراخ في الوادي ورصاص يمزق جبال الخليل، لكنها لم تصدق ان محمد الذي اصيب بوابل من الرصاص قد ظل حياً، عاد من الموت الى ام شادي، صافحها قائلاً: لن نموت متفرقين، فاحملي حياتي لأحمل حياتك، الطريق امامنا واضحة، القدس وعذابات اللاجئين.
في كل زيارة كانت ام شادي تضع حجراً لليوم التالي، تزرع شجرة وتضيء قمراً، محمولة بالامل الضوئي، تستمد من طاقة زوجها الفدائي هذا الاشتعال العجيب لاضاءة الليل والياس، وتمضي من حاكورة الى حاكورة، ومن صبح الى آخر، تقفز عن حلكة العتمة ولا ترى سوى الفجر تزينه اكاليل الغار.
وفي كل اعتصام امام مبنى الصليب الاحمر تراها وفي كل مظاهرة، هي صوت امراة مقصوفة وجريحة تنزف دماً وقهراً، وتغني للحرية وللكرامة وللحق الذي يجمع الناس في بيت وارض وكوشان ودولة تحت شمس لا تطفئها قنابل الاحتلال...
ام شادي ظلت نائمة، فتحت عينيها على بياض الكون.. قلبها يدق ويدق، تريد ان تسمعه، وتريد ان تراه، لاتغلقوا عيني كما اغلقتم السجون، لا تاتوا بعد الان في منتصف الليل لتعتقلوه او تقتلوه، هو عاد من الموت الي، فلا تجعلوا الموت ينتصر، لا تجعلوا السجان يسخر من حكايتي، عندما يصمت لساني ويتوقف قلبي...
دعوا قلبي يدق، دعو الناس يحتفلون بعودته، يحمله الشباب فوق اكتافهم، دعوني اسمع الاغاني والمواويل وتهنئة النساء لي، دعوه يحتضن اولاده وبناته ويسقى اشجار الحديقة، دعوه يمر من بوابة البيت عريسا بلا قيود وخوف...
ام شادي ظلت نائمة، يرتجف جسمها، تتحرك يداها... ترى جيش الاحتلال يعيد اعتقال 70 اسيراً محرراً من زملاء زوجها، وترى آلاف الاطفال في معسكرات الجيش يعانون البرد والجوع وآلام الضرب والتعذيب، وترى الاسرى المرضى والجرحى والمشلولين وسحابة سوداء من الموت تتدلى فوق رؤوسهم صامتين، وترى الجنود يقتحمون البيوت ويعتقلون الكبير والصغير، صوت صراخ في الحارة، دم على العتبات، ليل مسلح يملأ صدري، الاسير عرفات جرادات قتل قبل ان يرى مولوده الجديد.
رحلت ام شادي بعد عام من غيبوبتها الملتهبة، حركت كسل مؤسسات المجتمع الدولي ومجلس الامن، ذهبت الى اكثر من 35 اتفاقية ومعاهدة دولية، استدعت العدالة الانسانية من اجل ن تهدم اسوار السجن وتطلق نبوءة الضحايا، اشارت الى المجرمين واحداً واحداً، واحتلت النص والضوء وقاعة المحكمة...
ام شادي لم تجد وطنا اكثر نعمة من هذه الرياح المشبعة بالنداء، يمكن الهبوط الآن على سلم المستقبل، للحرية اصابع تعزف عليها هذه الامطار قبل الوداع.
الآن وقد رحلت فينا، ارفعوا الاعلام واربطوا رؤوسكم ايها الناس بحبال الغيب وقولوا: اوحي الينا واوحي اليها، تقتفي هذه الام خطواتنا لتعيدنا، لا شيء زائل في الابدية، ما دمنا نحفظ الاسماء والابجدية، وارقام بوابات السجون والقاب من قتلونا في المسكوبية..
اوحي اليها واوحي الينا، هناك فرق بين الزرع الذي يزهر في السماء على يديها، وبين من يجرف الارض ليبني لحداً، وتذبل اعضاءه حداداً على نفسه الغريبة.
اوحي اليها واوحي الينا، يسالنا الموت عن تلك المراة التي كلما استيقظت من غيبوبتها لبست الفجر وقالت: هذا حقي.
الثلج ودعها
وملائكة السماء...
انظروا تحت اقدامكم...
هناك صخرة في جسد امراة
هناك ماء...