الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

رحل الفتى عبد اللطيف وبقي دمه على ملابسه!

نشر بتاريخ: 13/01/2015 ( آخر تحديث: 13/01/2015 الساعة: 16:51 )
طوباس- معا- أعادت الحلقة الثانية والعشرون من سلسلة "كواكب لا تغيب" لوزارة الإعلام والاتحاد العام للمرأة رسم حكاية الشهيد عبد اللطيف قاسم أبو عرة، الذي أوقفت رصاصة إسرائيلية زحف أحلامه، حين أصابته في ظهره واخترقت جسده وخرجت من صدره، ظهيرة يوم الخميس التاسع من تموز عام 1989، وليس بعيدًا عن منزله في بلدة عقابا بمحافظة طوباس والأغوار الشمالية.

تروي والدته السبعينية أديبة حامد يونس اللحظات الأخيرة التي جمعتها بصغيرها ابن الرابعة عشرة عامًا: تصادف يوم استشهاده وخميس والدتي حليمة، وحين كنا في بيت العزاء بمنزل والدي، سمعت صوت إطلاق نار، فقلت للنساء (استشهد ابني عبد اللطيف)، وشعرت بشيء غريب أصاب صدري، وأسرعت دون وعي إلى حقل قريب، ووجدت بالفعل حبيب قلبي بجانب شجرة لوز والدم ينزف منه، وأمعاؤه خرجت من مكانها، فاقتربت منه، لكن جنود الاحتلال ضربوا في وجهي قنبلة غاز، وبعدها اختطف الشباب جثمانه، ونقلوه للمستشفى جنين الحكومي، ولحقت به، وجهزت نفسي للصلاة، وبدأت أدعو الله أن يرحمه، دون نواح أو صراخ.

تكمل: لم يمر وقت طويل، حتى عدنا للبيت، وخرجت جنازة كبيرة لعبد اللطيف، وسألت النساء اللواتي لا يعرفنني عن أمه، واستغربن أنني صابرة، وأدعو الله بدل النواح.

المشهد الأخير!
وفق حديث الأم، فإن أخر حوار جمعها بصغيرها الشهيد، في صباح اليوم نفسه، حين كان يمازح أخته الصغيرة خولة، وطلب منها أن تسخن له الماء ليغسل رأسه ويذهب إلى المدرسة، ثم أخذ يزيد شقاوته، فطلبت الأم من أخيه الكبير محمد أن يتدخل، ويأمره بالذهاب للمدرسة، دون أن يضربه، وحينما وصل، صار عبد اللطيف يقول لها إنه كان يمزح فقط.

تتابع: بدأ أولادي يناولون عبد اللطيف ملابسه الجميلة من الخزانة، ويعجبون بجمالها عليه، ثم خرج إلى المدرسة مع أخوته، وكان في الصف السابع، ووقت الظهيرة طلب من شقيقه فرج أن يعود من الطريق القصيرة للبيت، أما هو فاختار الطويلة والقريبة من الشارع الرئيس لنفسه، ومر من جانب بيت خاله خالد، الذين كانوا يعملون في تجهيز محصول البصل في الساحة، حين لحق به الجنود، وأطلقوا رصاصة دمدم على ظهره.

مما تقصه الأم: أخبرني زوجي لاحقًا، الذي كان يعمل في قصارة بيت بعيد لعائلة أبو فواز في أخر البلدة، أنه ألقى عدة العمل حين سمع إطلاق النار، وأخبر العمال بأن مكروها أصاب صغيره عبد اللطيف، وأخذ يبحث عن مكانه.

صورة الفتى وحيلة "الخويّة"
ترسم الأم صورة فلذة كبدها فتقول: طويل، وابيض، وشعره أشقر، وبه شامة على وجهه، وفيه كل الطباع الجميلة، والنكت، والشقاوة، والحنان. وقبل أيام من رحيله، كانت والدتي تنازع الموت، وأذهب إليها من الصباح وحتى الليل، وقبل أن أخرج، طلب أن أجهز له طعام (الخوية)، وحين أنهيتها، أخبرني إنه لا يريد أن يأكل، وخاف عليها أن تظل في الجوع طوال النهار، وأقسم أنها لن يدخل أي لقمة إلى جوفه، إذا لم تأكل.

تحتفظ الحاجة أديبة ببلوزة عبد اللطيف الزرقاء المخطط بالأبيض والأحمر، والموسومة بكلمة إنجليزي، ولا يزال دمه وآثار رصاصة الاحتلال ورائحته شهودًا على قتله بدم بارد من الخلف، ومن مسافة قصيرة. وتستحضر الأم زي ابنها كثيراً، فتشم رائحته، وتجد فيها العطر، وتدعو الله أن يرحمه، وتتحسر عليه، وتزداد رعشة يديها.

تقول: كان ابني يرفض التصوير، ويضع يديه على وجهه، ويطلب من أخوته أن يبعدوا الكاميرا عنه، وتعود أحر صورة له قبل عام وأكثر من رحيله عنا. ولا أنسى كيف كان يخفي ما يصنع من مقليعيات (وسائل من الخيوط لإلقاء الحجارة لمسافات أطول من اليد) على سطح المنزل خوفًا من والده.

أعادت عائلة ابو عرة إطلاق اسم شهيدها على 4 من الأبناء وأبناء العمومة، لكن الأم تؤكد أن أحدًا منهم لا يشبه عبد اللطيف، سوى ابن أخيه قصي، الذي يذكرها بحركات صغيرها وضحكاته، التي غابت عنها منذ 26 سنة، وحلت نيابة عنها أوجاع القلب ورعشة الأيدي.

حلم وزجاج وقمر
تكمل الأم: زارني عبد اللطيف في المنام مرة بعد وقت قصير من غيابه، ويومها رأيته يقف داخل صندوق زجاجي بجانب القمر، بسهل الكفير القريب، ويبتسم. وفي حلم ثانٍ شاهدته دون أعرفه، فقد تغير شكله.

مما لا ينساه أخوته عن صاحب الترتيب السابع في العائلة، التي فقدت الشقيق الثاني (محمد علي) بعد رحلة مع الإعاقة، كيف أن عبد اللطيف احترف لعبة البنانير (الجلول)، وكان ماهرًا في صنع المقليعيات، وأغرى أخيهم الصغير فرج على شرب السجائر في سن مبكر.

رفضت العائلة المطالبة بتعويضات مالية من الاحتلال، مراراً، كما اقترح عليها محامون، وتؤكد الأم أن الناس يتعاملون اليوم ببرودة أعصاب مع الشهداء، حين يسقطون، وقد يكون سبب ذلك كثرة أعدادهم، وتباعد قلوب الناس ودخول المال.

معرض مفتوح
بدوره، ذكر منسق وزارة الإعلام في طوباس والأغوار الشمالية، عبد الباسط خلف، أن "كواكب لا تغيب" الذي جمع 30 قصة لشهداء انتفاضة الحجارة في طوباس وعقابا وتياسير وطمون ومخيم الفارعة، يتقاطع مع جهود تأسيس معرض مفتوح يجمع مقتنيات الشهداء والأسرى، يجري العمل على تأسيسه بالشراكة مع المجلس الأعلى للشباب والرياضة وجامعة القدس المفتوحة والوزارة؛ بهدف إعادة تقديم رواية شهداء الحرية وأسراها، بقالب إنساني مؤثر، يُبعدهم عن الاختزال في أرقام صماء، أو تقزيم معاناتهم وراء الجدران الرطبة وعتمة الزنازين في إحصاءات جافة.